ها هي الشعوب العربية من المحيط للخليج تثبت أن تمسك بعض الأنظمة العربية بكراسي الحكم ومحاولة الالتصاق الأبدي بهذه الكراسي ليس سوى محاولات فاشلة .. مهما بدا المشهد العربي مستقرا للوهلة الأولى.. فها هي بالأمس القريب تونس تشهد أكبر انتفاضة عربية في تاريخ العرب الحديث .. وربما كانت التقارير «الأمنية» التي قدمتها أجهزة نظام الحكم التونسي «السابق» تقارير أنيقة تؤكد استقرار الأوضاع واستتباب الأمن..!! ولكن ما حدث من انتفاضة شعبية فاق كل التوقعات الرسمية، بل والإعلامية التي يفترض فيها القدرة على استباق الأحداث ومحاولة تقديم تحليلات منطقية للمشهد السياسي .. إلا أن ما صنعه «التوانسة» فاق توقعات القنوات الإخبارية العربية التي لم تتوقع على الإطلاق أن غضب الشعب التونسي من الممكن أن يقضي على سلطة نظام سياسي معروف بقوة أجهزته الأمنية وقدراتها «العالية!» على قهر وكبت كل المعارضين للنظام..!! بل وليس ذلك فحسب، بل هو نظام يعتبر من الأنظمة «الحليفة والمقربة» من القوى الكبرى في العالم.. ويعتبر رئيسه نفسه من «رجال» الكاوبوي الأمريكي الأقوياء في المنطقة ! ولكن كل هذه الحسابات التي ربما تكون واقعية ومنطقية اختفت لحظة اشعال الشاب التونسي المقهور والمكبوت النار في نفسه .. فشعر كل تونسي بأنه سوف يكون الضحية القادمة .. فهذا الشاب ليس سوى ضحية فساد سياسي قضى على فرص عمل حقيقية للشباب..!! وضحية كذلك لفساد اقتصادي جعله في فئة اقتصادية معدمة.. غير قادرة على مواجهة متطلبات العيش بكرامة.. حينها شعر الشعب بأنه الوحيد المتضرر مما يحدث.. وألا أحد من المسؤولين يهتم إن مات المواطن أو انتحر.. بينما المنطق يؤكد أن المسؤولية تقع على عاتق كل مسؤول فاسد في النظام .. من رئيس الجمهورية إلى أصغر «مطبلاتي» للرئيس «المخلوع»..!! وبعد الانتفاضة التونسية ها هي انتفاضة ثانية تحدث في مصر المحروسة.. انتفاضة ضد مجموعة من رجال الأعمال الذين تحالفوا مع بعض الساسة الفاسدين .. واستغلوا بعض القنوات الإعلامية أسوأ استغلال لتزيين وجه النظام القبيح.. ليكتب الشعب المصري «حدوتة مصرية» تنبض بالحرية في قلب ميدان «التحرير».. فالفاسدون في النظام المصري ظنوا أنه بإغلاق المنابر الداعية للإصلاح يمكن لهم البقاء الأبدي في كراسيهم ..!! وأنه بقمع الصحافة الحرة وتقليم الأقلام الصحفية الشجاعة، يمكن لهم البقاء والاستمرار في ما يفعلون من ممارسات فاسدة .. والمشكلة الحقيقية للنظام المصري أنه لم يستطع استيعاب أن الإعلام بات مفتوحاً.. وأن إيقاف دور صحيفة مثل «الدستور» التي لها دور كبير في معارضة النظام، بل ويعد رئيس تحريرها أبرز إن لم يكن «أوحد» من يصوب قلمه ناحية الرئيس مباشرة.. ولا يكتفي بتصويب قلمه ناحية رموز النظام الأخرى، ليس كافيا .. فالإنترنت صار ساحة حقيقية للإعلام.. وبابا للحرية لا يمكن التحكم في منافذه أو إغلاق نوافذه.. لذا فإن هذه «الحدوتة» المصرية وقبلها التونسية.. يجب أن تكونا بمثابة جرس انذار لكل الأنظمة العربية.. لتعمل على الوصول للمواطن البسيط الذي صار مطحونا ويائسا وغارقا في دوامة من معادلات معيشية صعبة يحاول من خلالها التحايل على الغلاء الفاحش في متطلباته المعيشية.. لقد قدم التوانسة والمصريون نموذجين واضحين لما يمكن أن تسببه نشوة السلطة التي يشعر بها البعض حينما يظنون أنهم باتوا يحكمون شعوباً ميتة..!! والحكمة والعقل تؤكد على ضرورة الانتباه من قبل الأنظمة السياسة والالتفات لحال شعوبها، حتى لا تجد أنفسها قد غادرت القصور التي تسكنها .. بوصفها شخصيات كانت مهمة وذات سلطة، وباتت شخصيات مطاردة وملاحقة بدعوات إعلامية لمحاكمتها .. فتنحي الرئيس المصري هو أبلغ إجابة على تنفيذ إرادة الجماهير.. ذات الجماهير التي طالبت ذات يوم سلفه «عبد الناصر» بالبقاء..!! فبالرغم من الفساد في عصر «عبد الناصر» إلا أنه ظل يمثل رمزا للثورة .. أما «مبارك» فصار رمزا لزواج غير مبارك لمصالح بعض رجال الأعمال مع بعض المسؤولين الفاسدين .. وبما أن مصر هي إحدى المحطات المهمة في تاريخ وحاضر ومستقبل المنطقة العربية والإسلامية، فنجاح ثورة الجماهير الشابة فيها لها دلالات سياسية تتعدى إثبات إمكانية تحقيق التغيير السياسي بالرغم من القبضة الأمنية الحديدية في مصر .. فها هي ليبيا تلحق بركب قافلة التغيير العربي بشكل تراجيدي يمثل دكتاتورية «القذافي» ويضرب بحديثه عن الديمقراطية «الجماهيرية» عرض حائط التاريخ..!! لتكون الديمقراطية وإرادة الجماهير حقيقة عندما تطالب ببقائه السرمدي على مقعد الحكم .. وسبق اسمه وإلحاقه بالألقاب العديدة.. أما أن يطالب الشعب بحقوقه فهذا ليس من الديمقراطية في شيء ! إن الدروس العربية من منهج ثورة الشعوب التي يتم تطبيقها عمليا في المنطقة العربية، تفرض واقعا جديداً يجب التعامل معه بإصلاح سياسي حقيقي بكافة الدول العربية، وعدم التمسك بالسلطة على حساب مصالح بلدانهم واستقرار شعوبهم. وظاهرة الاحتجاجات الشعبية التي بدأت عدواها تنتقل من دولة عربية لأخرى، تؤكد أن الأوضاع قبل ما حدث في «مصر وتونس وليبيا» لن تكون على ذات حالها بعد ما حدث.. فالظاهرة لم تقتصر على «الجمهوريات» التي بعضها شكلي كما ثبت في حالة «مصر» من تحكم لأسرة الرئيس في النظام .. بل تعدت الظاهرة لتصل «للبحرين» المملكة في احتجاجات تطالب بالإصلاح حيث امتلأت شوارع العاصمة بآلاف المحتجين، وكذلك المملكة الأردنية شهدت مظاهرات تطالب بإصلاحات دستورية.. وبالرغم من هذه الموجة الثورية في العالم العربي، إلا أن الثورة المصرية يظل لها لها طعم آخر .. طعم «حدوتة مصرية» بما تمثله لكل الأمة العربية من تاريخ بعض رموزها الذين تحفظ لهم الذاكرة العربية الكثير من المواقف وما تمثله من إرث ثقافي وفني .. وما حدث في مصر بات يجسد ما يمكن أن ينتج عن القهر والفساد والكبت السياسي من ثورة شعوب لم يعد لها طريق سوى الثورة في وجه الفساد والكبت..!! وهذه القصة الثورية التي كتبها الشباب العربي ذات ملامح عربية أصيلة، لا تقبل تهماً صارت قديمة ومنتهية الصلاحية، مثل التبعية لجهات خارجية، وما على شاكلتها من «الترهات» والتخاريف التي تلفظ بها رموز النظام المصري في لحظات احتضار «السيستم» الذي كان يحكم مصر! أو بشكل أصح تفرق «شلة مصر مبارك!» بما يبشر بعودة مصر إلى ريادة المشهد العربي.. كما بات يدعو الكتاب والصحافيين الذين كانوا يكتبون معارضين ليساسات حكومة ما بات يعرف ب «مصر مبارك» ومنتقدين رمزوها بمنتهى الشجاعة وهي في عز قوتها، مما عرضهم والصحف التي يكتبون فيها للكثير من المضايقات الأمنية التي كانت وستظل وسام شرف على صدور صحافييها.. ومن هذه الدعوات ما كتبه بالأمس إبراهيم عيسى رئيس تحرير «الدستور الأصلي» الذي تمت تنحيته من رئاسة تحرير صحيفة «الدستور» الورقية بمؤامرة تهدف لإسكات قلمه، ولكن الحقيقة لا تموت، و«الصحافة» الحرة تناضل من أجل شعوبها، وثم تسجل انتصاراتهم بأحرف من نور.. لذا فمن الأفضل العمل على إصلاح الواقع السياسي بشكل تدريجي عبر القيادات السياسية العربية الحالية، كما يحدث في كل من «الأردن والبحرين» من استجابة «ملكية» تمتاز بالمرونة، لأن التغيير السلمي يجنب البلاد والعباد في الدول التي يحدث فيها الكثير من المآسي .. كما يحدث في ليبيا الآن.. فهنالك نموذجان للتغيير السياسي على الساحة قابلين لانتقال عدواهما لبقية الدول العربية، أحدهما يحمل طابعا شبه «حضاري» في تسليم مقاليد السلطة وإن كان على شاكلة «مجبراً أخاك لا بطل» في النموذجين المصري والتونسي .. أما النموذج الثاني فهو على شاكلة ما يحدث في ليبيا من حالة يمكن أن تتصف «بالهستيريا» السياسية وعدم الرضاء بالخروج عند إرادة الجماهير في دولة ابتكر زعيمها نظاماً سمَّاه «النظام الجماهيري».. لذا يجب استثمار الطاقة التي يولدها ما بات يعرف بظاهرة «ثورة الشباب» في تحقيق التحول الديمقراطي الحقيقي، والاستجابة لصوت العقل، وعدم الوقوف أمام عجلة التاريخ..!! ٭ الهند [email protected]