قدم منتدى عد حسين الثقافي بمركز المستقبل للحاسوب واللغات، امسية قدم فيها الاستاذ علي مؤمن ورقة نقدية حول نص «رجل بلا ملامح» للقاص عيسى الحلو، وقد بدأ حديثه قائلاً: القاص المبدع عيسى الحلو، ظل لما يزيد على ربع قرن من الزمان يمارس الفعل الثقافي والابداعي، وطوال هذه الفترة قدم ولا زال العديد من الاعمال القصصية وبعض الاعمال الروائية، اضافة للدراسات النقدية، وبهذه المثابة نعتقد انه يحق لنا تصنيفه ضمن رواد الفن القصصي والروائي في البلاد، او على الاقل ضمن الجيل الثاني لرواد هذا الجنس الابداعي الذي نجد من رموزه المعروفين والبارزين معاوية محمد نور، عثمان علي نور، الطيب صالح، أبو بكر خالد، الزبير علي، خوجلي شكر الله، وابراهيم اسحق وغيرهم. وقد عمل الأستاذ عيسي الحلو بالمجال الثقافي لسنوات طوال، وذلك عبر المنابر الثقافية والفكرية الآتية: ملحق الآداب والفنونة بصحيفة «الأيام»، مجلة «الخرطوم»، صحيفة «الصحافة»، اضافة لذلك فهو يضطلع الآن بأعباء المشرف الثقافي لصحيفة «الرأي العام» الغراء. «رجل بلا ملامح» بعدد الثلاثاء المتميز الصادر في الثالث عشر من شهر سبتمبر للعام الثاني بعد الالفين، نطالع للأستاذ عيسى الحلو قصة قصيرة موسومة ب «رجل بلا ملامح» وفي السطور القادمات سنحاول «جاهدين ومجتهدين بإذن الله وتوفيقه» التوقف لدى هذا العمل الابداعي عبر الرصد، والمناقشة والتقييم، ما امكن ذلك، وتأتي وقفتنا هذه الجملة اعتبارات ربما من اهمها، ان هذا العمل قد اشتمل على التجديد المتكئ والمستند على شيء من التجريب في عدة مستويات، وربما جاء في ذروة الاهمية منها «الشكل والمضمون» وبذا أحسب انه يحق لنا ادراج هذا العمل ضمن ما يُسمى بالتيار الحداثوي، اذا صح التعبير، ذلك التيار الذي يسعى ويحاول على الدوام الطرق على ابواب الجديد المبتكر في مضمار الاعمال الابداعية كافة، سواء أكان ذلك على مستوى الشكل او المضمون، بتواتر ذلك دوما من خلال محاولات جادة ودؤوبة يسعى المبدعون من خلالها وضمنهم عيسى الحلو، الى بث المزيد من الحيوية والبريق في عموم الاجناس الابداعية شعر، قصة، رواية، مسرح، موسيقى، وتشكيل..الخ، الامر الذي يكسب الابداع بل ويضفي عليه المزيد من التفاعل الحيوي والايجابي، وبالتالي يشرك المتلقي للجنس المنتج عبر العملية الفنية والابداعية، يشركه بشكل ايجابي يحترم عقله وفكره، ويسهم بالتالي في تغذية وجدانه من خلال هذه العملية التواصلية التبادلية. وغنى عن القول ان ما تعرضنا له من حديث وما سقناه من معانٍ، تسعى بقدر الامكان، لأن تصب في خانة تقوية وتمتين الاواصر ما بين المبدع والمتلقي الذي من المفترض ان يمتد ويتصل تواصله وتفاعله مع العمل الابداعي لمدى زماني، وجداني، فكري، اطول وارحب واعمق، وبالتالي يمكن القول إن الابداع الذي يشتمل بين فضاءاته وعوالمه الداخلية على هذه الرؤى والمعاني والمفاهيم «او بعضها، سيسهم ولا شك بصورة اكثر ايجابية وبشكل اشمل واعم في المزيد من اشاعة التفكير عند المتلقي وتغذية وجدانه عبر هذا الحراك، التفاعلي، التبادلي، الذي احدثه الابداع بعقله وتفكيره وذائقته ومجمل دواخله ووجدانه، وهذا مما يؤشر وربما يدلل على أن الابداع الحدثوي هو الاقدر والاكثر تأهيلاً عما سواه على ممارسة التأثير الاقوى على المتلقي. حالة ما: تبدأ قصة «رجل بلا ملامح» بسرد بضمير المتكلم يرد على لسان الشخصية المحورية بالنص، وهو سرد أشبه بالتداعي، النفساني، الوجداني، ومن ثم يضطرد هذا السرد ويتصاعد بشكل تلقائي وعفوي دونما تكلف او تزيد او اقحام غير مبرر فنيا. وهنا نلمح بين تضاعيف السطور، ونحس في ذات الآن بقدر لا بأس به من الصدق الفني والشعوري، الامر الذي يدفعنا الى القول الآتي: إن ما لمحنا اليه من رؤى نرى انها تماهت وتناغمت مع المكتوب النصي «المتن، موضوع تناولنا»، بصورة او باخرى من خلال تواتر المواقف والاحداث وتتابعها ومن خلال تسليط الأضواء وتكثيفها على الراوي، كل هذا الامر جعل من الراوي «وهو الشخصية المحورية بالنص» مرتكزاً أساسياً للفعل. وقد برع الأستاذ عيسى الحلو ايما براعة في رسم شخصية الراوي، وبرع في ذات الآن في عكس الصورة المهتزة وربما غير السوية «لهذه الفتاة» التي قدمها لنا بصورة مشروخة بعد ان اعتورتها حالة من جعلت منها شخصا مختلفا ومغايراً عما كان عليه في سابق الايام... إن الحالة التي قدمها لنا القاص والتي نحن بصددها الآن، ربما كانت حالة اهتزاز نفساني او فصام او ذهول او..او.. الخ. «لقد شملني الارتباك لدخولي في الزمن المعجزة، ومن ثم انفصم وعي الى وعيين، كما لو كنت انا فتاتين لا فتاة واحدة. فتاة هنا تجلس على قمة ماضيها.. هي في سنواتها العشر الاولى.. وفتاة هنا والآن تزدهر بعمرها العشرين.. وكل من الفتاتين تنظر للأخرى في تحرش.. كل تحاول أن تستلب الاخرى وتجعلها مندغمة فيها.. هو نزاع بين زمان مضى وحاضر آتٍ،» «أ-ه». وعموماً أرى -من جانبي- أن القاص عيسى الحلو قد وفق في جعل السرد اشبه ما يكون بالمرآة العاكسة للعوالم الداخلية لهذه الفتاة، اذ نجده يعكس لنا منذ الوهلة الاولى حالة البلبلة وعدم التوافق بين الراوي والعالم المحيط به، الأمر الذي جعله -اي الراوي- يسعى للانفلات من الحالة التي وجد نفسه عليها، لكن يظل السؤال الجوهري متمحوراً في الآتي: كيف له، اي الراوي، الفكاك من هذه الحالة التي اعتورته وتمكنت منه تماما؟ أبعاد ودلالات: من الأشياء اللافتة للنظر تلك القدرة الابداعية العالية والفائقة لكاتب النص التي جعلته يضع قراءه امام هذا الوضع المأزوم للراوي من خلال عملية سردية غير متكلفة البتة، هذا مما جعل الأمر يبدو وكأن القوانين الداخلية للنص هي المحرك الرئيسي والاساسي للاحداث والافعال، وليس شيئاً آخر خارج اطار هذه القوانين، وهذا مما يجعل من الصعب على القاص ان يتدخل ويسير بعملية القص اي مسار آخر غير مسارها الطبيعي الذي فرضته ظروف النص، لذا انصاع القاص لهذا التدفق والانسياب التلقائي، وهنا نطرح تساؤلا مهما للغاية فحواه الآتي: هل لازم هذا النهج القاص حتى نهاية القصة أم أنه حاد عن ذلك؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه في سطور قادمات بإذن الله. «رجعت تماسكت وقاومت السقوط... وجلست على مقعدي.. لقد شملتني الفردانية، فحرارة الجو هي أكثر او اقل.. والضوء اكثر اشراقاً او اكثر اعتاماً، ولست ادري هل انا اتراجع نحو الماضي، ام اقفز في الراهن والآتي! لقد اصبحت فتاة اخرى لا تعرف نفسها، كما انني لا اعرف الذين حولي، ولهذا فقدت البوصلة التي تدلني على ذاتي» «أ-ه» وفي غمرة هذا التيه وهذا الضياع تتابع الأحداث وتترى «متسارعة، ومتداخلة ومتشابكة» وتترتب على ذلك ردود أفعال تساهم فيها علواً وهبوطاً، ادوات عدة متنافرة ومنسجمة تسعى جميعها للوصول بنا للحدث الاساسي والمحوري بالنص، ومن تلك الأدوات نشير هنا لاسطوانة ال «CD» الممغنطة والمدمجة بموسيقاها وعزيفها المضطرد بكل ما يوحيه هذا العزيف من دلالات وابعاد ذات ارتباط عميق بصلب النص القصصي، اضافة لشخصية المدير، بكل ما تعنيه وتمثله، ثم الأم، ثم العريس والصديقات، ثم التداخل الذي كاد يصل لدرجة الذوبان بين الشخصية المحورية واخرى متوهمة او هلامية، ودلالات ذلك وانعكاساته على الأحداث الرئيسية والمحورية بالنص الابداعي.. ما سقناه وأشرنا له يمثل بعض الأدوات التي وردت بصلب النص وسعت من ثم مع غيرها إلى خلق الفعل الدرامي وتناميه، وغني عن القول إن هذه الادوات وغيرها تسعى سعياً حثيثاً وطبيعياً الى ايصالنا «عبر القص» لذروة الحدث الدرامي من خلال اداة اللغة، ونضيف في هذا الشأن ان لغة النص جاءت مشتملة على قدر كبير من النصاعة والشفافية، الامر الذي ساعد الكاتب على ايصال أفكاره ورؤاه في سلاسة ويسر.. «عندما أحاطت بي صديقاتي.. كان حديثهن عن العريس مشوشاً: قالت سلوى: هو ذاك الرجل الذي بلا ملامح. قالت سكينة: لا هو مديرنا في الشركة. قالت أُمنية: هل أمك لا تعرفه أيضاً؟ عندما صمتُّ، قلن جميعا: الامر بيدك انت.. انت تستطيعين تحديد مَنْ مِنْ مَنْ» «أ-ه». إن «رجل بلا ملامح» استطاع كاتبها «في رأينا» ان ينتقل بالاحداث خطوة خطوة في حيوية متدفقة ومنسابة بصورة تصاعدية ذات وتائر عالية، الا انه بدأ في المقطع الأخير للنص وكأنه اراد التدخل لوقف هذه الانسيابية التلقائية والتدفق الطبيعي المتجانس مع المنطق الفني والمتسق والمتوائم معه، ويتجلى لنا ذلك في نهاية النص التي جاءت «ربما» في شيء من التعجل، الامر الذي أضرَّ بالنص، وجعل الكاتب يبدو وكأنه اراد انهاءه على هذا النحو الذي انتهى عليه، وهذا مما نعده رجعة لا تتناسب البتة مع ما أشاعه النص من زخم ابداعي وابعاد حداثوية. وغنى عن القول إن التدخل غير المبرر «فنياً وابداعياً» الذي اشرنا اليه يمثل «اضافة لما ذكرناه» ارتدادا للعادية التي تقاطع وتباعد عنها النص - من قبل- في جل مفاصله، إلا أننا نجده في لحظة ما قد انساق لحد ما للوقوع في حبائلها. «وبعد أسبوع تزوجت من المدير... حيث كانت ملامح وجهه واضحة جداً ووسيمة جداً وتشبه كثيراً وجه «سالم» وأخذنا معاً نتشارك الاستماع للحن المعجز في اسطوانة ال CD» «أ-ه». حول الإبداع: وخاتمة حديثنا ومنتهاه تتمحور في الآتي: إن الابداع أفق مفتوح وفضاء متسع بل لا متناهٍ، وفي هذا الافق وفضاءاته يتفق الناس ويختلفون.. يتناقشون ويتحاورون، ومن ثم تترتب على هذه العملية بعض اوجه الاختلاف والتباين والتلاقي والتباعد في الرؤى ووجهات النظر، وهذا بحد ذاته يشكل إثراءً للنصوص الابداعية، وربما يساهم هذا الفعل وهذا الحراك «التحاوري، التواصلي» في إعادة استكشاف الإبداع من جديد، وبهذا الأفق وهذا الفهم جاءت مداخلتنا التحاورية مع «رجل بلا ملامح» مع أكيد تقديرنا لمبدع النص. ووجدي جمال علق على الورقة قائلاً: ورقة مؤمن جاءت مختصرة، حيث ان تجربة عيسى امتدت عبر رحلة طويلة، حيث كان عيسى في بداية السبعينيات كاتب قصة عادي لا يجيد الحبكة القصصية، وبمرور الزمن تطورت ادواته الى ان اصبح من كبار الكتاب.. كما اشير الى ان علي مؤمن تجاوز المدارس التي مر بها عيسى، حيث انه كان متأثراً بالمدرسة الوجودية. وحبكة القصة عند عيسى الحلو تأتي في النهاية دائماً.. كذلك عيسى الحلو يختلف تماماً عن المنهج الذي قدمه علي مؤمن، فهو يعتبر الكتابة فكرة وليست حالة، والكلمات عند عيسى الحلو غير مكررة. وقد جاء رد علي مؤمن مؤكداً على اهتمام عيسى بالشكل وليس بالمضامين. وهذه معروفة لدى جل النقاد، وتأثره بالتيار الوجودي كان في فترة محدودة،