ظل ملف السودان في الشقيقة مصر بعيداً عن متناول الدبلوماسية المصرية وقلعتها الراسخة على ضفاف النيل ،وطالما وجدت عملية استئثار المخابرات المصرية بهذا الملف انتقادات شتى من اوساط دبلوماسية وسياسية في البلدين،الا ان تمدد هذا الجهاز وامساكه بدفة ادارة ملفات مصرية حساسة مثل المصالحة الفلسطينية والحوار بين العرب والكيان الصهيوني واخيراً ملف مياه النيل، اغلق الباب امام احراز اي تقدم في هذه الملفات التي تحتاج معالجتها الى ادارة حوار صحياً ذا اشتراطات محددة بين مختلف الاطراف المعنية، وليس كما كان يعمد فريق الوزير عمر سليمان في اغلاق النوافذ والابواب امام مثل هذه الحوارات المنتجة. وحملت انباء القاهرة امس الاول تصريحات للسفيرة منحة باخوم المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية بأن الدكتور نبيل العربي وزير الخارجية أمر بالامس، وبشكل عاجل، بتشكيل ثلاث مجموعات عمل داخل وزارة الخارجية، لمتابعة ملفي العلاقة مع السودان وليبيا، والملف المتعلق بالإدارة الداخلية لوزارة الخارجية. وستركز مجموعة العمل الأولى ، المتعلقة بالسودان، بحسب باخوم على تعزيز العلاقات الثنائية المصرية - السودانية، واستشراف آفاق التعاون مع السودان في المرحلة القادمة، وكذلك تدعيم التواجد المصري في جنوب السودان، حيث ستكون مصر في مقدمة الدول التي ستعترف بدولة السودان الجديدة، وذلك علاوة على وضع تصور لاستراتيجية شاملة للتعامل مع ملف مياه النيل في المرحلة القادمة، وتعزيز الحوار مع دول حوض النيل بهدف تحقيق المصالح المشتركة، وزيادة الإيراد المائي لنهر النيل، وتحقيق الاستفادة القصوى من موارده. ولكن هل يمكننا التعامل مع هذه التوجهات باعتبارها محاولات في اطار استعادة هيبة الدبلوماسية المصرية ، والسعي لاعادة الارض التي فقدتها لحساب اجهزة المخابرات من قبل .. ام ان هذه القرارات تعكس رغبة صادقة في اعادة وضع العلاقة بين البلدين في اطارها الصحيح ، وذلك بوضعها بين ايدي الخبراء المعنيين واصحاب الشأن .ويمكننا اعادة طرح التساؤل بشكل أوضح : هل تسعى الخارجية المصرية للثأر من المخابرات المصرية التي لم تكن تدير شؤنها فقط ،وانما كانت تدير سياسات مصر الخارجية في عدة نقاط ساخنة في العالم،ام انها تستشعر اهمية العلاقات مع السودان ، وتدرك خطورة تركها لهذا الملف بين ايدي حفنة من الجنرالات ؟ والشاهد على تغلغل الجهاز الامني في مصر فى رسم ملامح سياساتها الخارجية،الغائه لادارة السودان في الوزارة مطلع هذا العقد،بصورة فجائية،ثم تصديه للتعامل مع الازمة التي تخلفت عن فشل وزارة الري في احتواء تطلعات دول حوض النيل في الاستفادة من مياهه، مما ادى الى ابعاد وزير الري العالم د. محمود ابوزيد وانتزاع الملف من ايدي خبراء الوزارة، ومن ثم الدفع بتعيين استاذ جامعي في مقعد الوزير لينفذ السياسات الامنية المرسومة ، وقادت ادارة المخابرات لملف مياه النيل مصر الى مواجهة مع اثيوبيا وصلت حد اتهام رئيس وزرائها للجهاز بتسليح ودعم حركات انفصالية في اثيوبيا،مهدداً بأن اديس ابابا لن تسكت عن مثل هذه التصرفات،غير ان القرار المصري اعاد مهام الاضطلاع بشئون السودان و دولة عربية اخرى هي ليبيا الى الوزارة، وترك بقية الملفات في حضن الجهاز الامني. وتداخلات المخابرات المصرية في قضايا السودان متشعبة، بداية من رعاية ورش شركاء نيفاشا في القاهرة ،ومروراً بالسعي لتوحيد حركات دارفور المسلحة اكثر من مرة ،عبر جولات حضرها قادة مختلفون من هذه الحركات في العاصمة المصرية، وبرغم ان كل هذه التحركات لم تؤتِ اكلها او تحقق اهدافها المعلنة، فانها تؤشر لانغماس قياداته في الشأن السوداني الى حد يثير التساؤلات عن مقدرة دبلوماسيي الخارجية في الاضطلاع بهكذا مهام، ويبدو ان اسناد حقيبة الخارجية الى مندوب مصر السابق في الاممالمتحدة نبيل العربي قد اعطى الوزارة الزخم المطلوب، لجهة ان مواقف الرجل من هيمنة المخابرات على ملفات السياسة الخارجية ، ومن ادائها ازاء قضايا السودان على وجه التحديد غير خافية على احد،وسبق للقيادي في الحزب الحاكم ومدير المخابرات قطبي المهدي ان اشار، فى ندوة اقامها منبر السلام العادل عن الثورة المصرية والتونسية، اشار الى تبرم الوزير المصري من هذا الامر،ونقل عنه عدم رضائه عن ابعاد الدور الذي اضطلع به الامن المصري من خلف واجهة الخارجية ابان رئاسة عمرو موسى ،في تحريض المجتمع الدولي على اصدار ادانات و فرض عقوبات على السودان من خلال مجلس الامن خلال حقبة التسعينيات،وربما يؤشر هذا القرار بحسب خبراء في شئون العلاقة بين البلدين،الى اعادة رسم مرحلة ومسار جديد يقوده الخبراء والدبلوماسيون واصحاب الشأن. ويوضح هانئ رسلان رئيس وحدة السودان ودول حوض النيل في معهد الاهرام للدراسات الاستراتيجية ان هذا القرار جزء من ترتيبات يقوم بها الوزير نبيل العربي لاعادة تنشيط السياسة الخارجية المصرية على أسس موضوعية،يبرز منها فى هذا الاطار اختياره لاسلوب العمل الجماعي فى التعامل مع ملفات حساسة وفى غاية الاهمية لمصر،مشيدا باختيار الحكومة المصرية له لادارة الحقيبة الخارجية ، ووصف رسلان الوزير بانه «ذو كفاءة ومقدرة .. وله سمعة طيبة»، مشيرا الى انه قد تقلد فى السابق مواقع هامة منها مندوبية مصر فى الاممالمتحدة، فضلا عن ادارته لملف النزاع حول مدينة طابا مع الكيان الصهيوني. غير ان رسلان لم ير فى القرار مايقطع بانتقال ملف السودان من المخابرات الى الخارجية، ولفت فى حديثه امس ل» الصحافة « هاتفيا من القاهرة، الى ان الاوضاع بمصر تمر بحالة من السيولة نظرا الى ان المجلس العسكري الحاكم لا يرغب بالقيام بتغييرات هيكلية، ويحاول ترك الاوضاع التى تخلفت عن النظام السابق الى حين قيام الانتخابات وتسليم البلاد الى القيادات المنتخبة. وقلل رسلان من الاتهامات التى سيقت للدبلوماسية المصرية ابان قيادة موسى بالتحريض على السودان فى المؤسسات الدولية، وقال عنها» انها من آثار فترة المماحكات والصراعات فى عهد التسعينيات بين الانقاذ من جهة ومصر ودول اخرى فى المنطقة والعالم من جهة اخرى». وقطع الباحث فى الاهرام بان مصر لم تدعم فى يوم توقيع اى نوع من العقوبات او الادانات بحق السودان، مشيرا فى هذا الصدد الى ان الدول التى تقود لحشد تلك الادانان والعقوبات (عظمى)، وان لها سياساتها الخاصة التى لا تستطيع مصر او غيرها التأثير فيها.