تعرضّنا في المقال السابق بشرحٍ مُوجزٍ لاتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل، وذكرنا أنها تتضمن «44» مادة موزّعة على ديباجة وستّة أبواب، بالإضافة إلى ملحقٍ للاتفاقية. وتتناول الأبواب الستّة مبادئ عامة لاستعمال الحوض، حقوق وواجبات دول الحوض، الهيكل المؤسسى لحوض النيل الذى يتكون من مفوضيّة حوض النيل، ودور ومسؤوليات الهيئات الوطنية، وتتنهي بأحكام عامة ومبادئ ختامية حول تسوية المنازعات وإجراءات تعديل الاتفاقية، وكذلك إجراءات التوقيع والتصديق أو القبول للاتفاقية وبدء نفاذها والانسحاب منها. ويتناول الملحق مهام ومسؤوليات لجنة تقصي الحقائق وضرورة النظر الى تقريرها بحسن نيّة. وقد ذكرنا في المقال السابق، أن هناك مجموعة من الاستفسارات قد أُثيرت عن الاتفاقية، منها إن كانت الاتفاقية تتضمن محاصصة لمياه النيل، وكم نصيب السودان ومصر تحت هذه الاتفاقية، وإلى أى مدى تُعتبر الاتفاقية متناسقةً مع القانون الدولى. وبالإضافة الى هذا أشارت بعض المقالات إلى أن الاتفاقية بها نصوص عن تخصيص 15 مليار متر مكعب من مياه النيل تُخصم من نصيب مصر والسودان لتُوزّع على الدول المشاطئة الأخرى. كما أشارت إحدى المقالات إلى أن جنوب السودان لا يستطيع الانضمام للاتفاقية لأنه سيُولد باعتباره دولة في يوليو القادم، بينما التاريخ النهائى للانضمام للاتفاقية هو 14 مايو من هذا العام، وأن الاتفاقية ستنتهى آثارها القانونية إن لم تدخل حيز التنفيذ فى ذلك التاريخ. وسنقوم فى هذا المقال بالرد على هذه الاستفسارات والملاحظات. أولاً: هذه الاتفاقية اتفاقية إطارية وتشمل مبادئ عامة دون الدخول فى تفاصيل لأيٍ من هذه المبادئ. وتترك أمر هذه التفاصيل إلى اتفاقياتٍ جانبية أو بروتكولات بين الدول الأعضاء، على ألا تتعارض نصوص هذه الاتفاقيات والبروتكولات مع نصوص الاتفاقية. وعليه فالاتفاقية لا تتضمن أية محاصصة أو توزيع لمياه النيل بين الدول المشاطئة، وليست هناك أية أرقام عن مياه النيل، أو حتّى عن مجمل مياه النيل. إنّ إطارية الاتفاقية تبدو واضحة فى اشتمالها على العوامل والظروف ذات الصلة التى يتطلّب الانتفاع المنصف والمعقول لمياه النيل أخذها فى الإعتبار. وكما ذكرنا فى المقال السابق فإنّ هذه العوامل تشمل العوامل الجغرافيّة والهيدروغرافية، والحاجات الاجتماعية والاقتصادية، وكذلك الاستخدامات القائمة والمحتملة ومدى توافر بدائل لأىٍ من دول الحوض. ثانياً: فُتح باب التوقيع على اتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل في 14 مايو عام 2010م، وسوف يستمرمفتوحاً حتّى 13 مايو 2011م، وقد وقّعت عليها فى ذلك اليوم الدول الخمس المذكورة آنفاً «إثيوبيا وكينيا ويوغندا وتنزانيا ورواندا» ولحقتها في 28 فبراير من هذا العام دولة بوروندى. إنّ انتهاء فترة التوقيع في 13 مايو القادم لا يعنى أن الدول المعنيّة والراغبة لا تستطيع أن تكون طرفاً فى هذه الاتفاقية بعد 13 مايو 2011م، فهذه الدول تستطيع القبول أو الموافقة أوالانضمام إلى الاتفاقية دون التوقيع عليها في أى وقتٍ تشاء سواء أكان هذا الوقت قبل أو بعد 13 مايو 2011م، وليس هناك سقف زمنى أو تاريخ لانتهاء هذا الإجراء. عليه فإنّ دولة جنوب السودان تستطيع، إن أرادت بالطبع، أن تكون طرفاً فى الاتفاقية حال أو بعد ميلادها في يوليو القادم دون أن تحتاج للتوقيع على الاتفاقية. كما أنّه ليس هناك تاريخ نهائي لدخول الاتفاقية حيز التنفيذ، فالاتفاقية ستدخل حيّز التنفيذ عندما يتم التصديق عليها بواسطة برلمانات ستّ دول متى ما تمّ ذلك بدون سقفٍ زمنى أو تاريخٍ مستقبلىٍ محدد. ثالثاً: بعد أن صوَّت أهل جنوب السودان لصالح الانفصال في يناير الماضي وأُعلِنت نتيجة الاستفتاء رسمياً في 7 فبراير الماضى، اتضح لدول حوض النيل أن وضعاً جديداً متشابكاً قد جدّ في حوض النيل. ودولة بوروندي التى لم تُوقِّع على الاتفاقية حتى ذلك الوقت، أحسّت بهذا الوضع أكثر من غيرها، فقد كانت حتّى ذلك الوقت تعتقد أنها تُمسِك بزمام الأمور في ما يتعلق بمستقبل اتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل، لأنها الدولة السادسة التى تحتاجها الاتفاقية للدخول حيّز التنفيذ. وكانت دولة بوروندى قد وعدت بالتوقيع على الاتفاقية في اجتماع كنشاسا فى مايو عام 2009م، ولكنها لم تفعل. عليه فقد كان توقيع دولة بوروندى على الاتفاقية في 28 فبراير عملاً استباقياً سببه دخول دولة جنوب السودان حيز الوجود وإمكانيّة استلامها زمام المبادرة في اتفاقية الإطار التعاوني. ولا بدّ أن دولة بوروندي أحست بانشغال مصر بثورتها والسودان بانفصال جنوبه وأن جنوب السودان قد ينضم للاتفاقية، فرأت أن الوقت مناسبٌ للتوقيع. وهذا الوضع فى رأيي سوف يدفع أيضاً بجمهورية الكونغو الديمقراطية للتوقيع على الاتفاقية في الأسابيع القليلة القادمة، على الرغم من أنّ استعمالات الكونغو وارتباطاته واهتماماته بنهر النيل ضعيفةٌ. رابعاً: دخول الاتفاقية حيز التنفيذ بعد أن تصادق عليها ستّ دول، إذا حدث، سيخلق وضعاً شائكاً ومعقّداً. وحالياً تضم مبادرة حوض النيل كلّ دول الحوض بما فى ذلك مصر والسودان. وكلّ هذه الدول مُمثلةٌ ومستفيدةٌ من المبادرة ولها وجود في سكرتارية مبادرة حوض النيل ومقرها مدينة عنتبى فى يوغندا. ولدول النيل الأزرق تمثيل في مكتب النيل الشرقي بأديس أبابا، كما لدول النيل الأبيض تمثيل في مكتب نيل البحيرات الاستوائية بمدينة كيغالي بدولة رواندا «مصر والسودان مُمثلان فى المكاتب الثلاثة بحكم ارتباطهما بالنيلين الأزرق والأبيض». وبمجرد دخول الاتفاقية حيز التنفيذ فإن السكرتارية فى عنتبى سوف تتحول إلى مفوضية حوض النيل، وسوف ترِث المفوضيةُ السكرتاريةَ فى كلّ شىء. وهذا الوضع سوف يثير مجموعة من الأسئلة من بينها: كيف سيكون وضع مصر والسودان فى المفوضية الجديدة، وكيف سيتم التعامل مع المشاريع المشتركة ومع حقوق وواجبات الدولتين تحت المبادرة «بما فى ذلك أصول المبادرة» قبل أن تدخل الاتفاقية حيز التنفيذ؟ خامساً: المبادئ الأساسية للقانون الدولي للمياه تمّ تضمينها في اتفاقية الأممالمتحدة بشأن قانون استخدام المجارى المائية فى الأغراض غير الملاحية التى أجازتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 22 مايو عام 1997 بأغلبية فاقت المائة عضو. غير أنه لا بد من الإشارة هنا إلى أن هذه الاتفاقية لم تدخل بعد حيّز التنفيذ، إذ تحتاج إلى 35 تصديقاً أو موافقة، وحتّى اليوم صادقت عليها 21 دولة فقط. كما تجدر الإشارة إلى أنه ليس من بين الدول المصادقة على الاتفاقية حتى هذه اللحظة دولة واحدة من دول حوض النيل. إنّ مواقف دول حوض النيل تباينت حول اتفاقية الأممالمتحدة. فقد صوَّت السودان وكينيا فى اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح الاتفاقية «مع مائة دولةٍ أخرى»، وامتنعت مصر وإثيوبيا وتنزانيا ورواندا عن التصويت، وصوتت بوروندي ضد الاتفاقية «مع دولتين أخريين فقط هما الصين وتركيا»، ولم تشارك يوغندا والكونغو وإريتريا في التصويت. وعلى الرغم من أن الاتفاقية لم تدخل بعد حيز التنفيذ، إلاّ أن هناك اتفاقاً بين الخبراء في هذا المجال بأن المبادئ الأساسيّة التى شملتها الاتفاقية تمثل القانون العرفي الدولي للمياه. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ المبادئ الأساسية المضمنة في اتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل بُنَيت على المبادئ الأساسية المضمنة فى اتفاقية الأممالمتحدة بشأن قانون استخدام المجارى المائية فى الأغراض غير الملاحية. هّذا وتجدر الإشارة فى هذا المجال إلى أن اتفاقية الأممالمتحدة مازالت حتّى الآن قابلة للقبول أو الموافقة أوالانضمام، وليس هناك تاريخ نهائى لهذا الإجراء. وقد كانت دولة اليونان هي آخر الدول التى انضمت للاتفاقية فى شهر ديسمبر الماضى. سادساً: كما ذكرنا فى المقال عن توقيع دولة بوروندى على اتفاقية الإطار التعاونى لحوض النيل، فإنّ الخلافات حول الاتفاقية جوهريّة وكبيرة، فمصر والسودان يصران على أن استعمالاتهما وحقوقهما القائمة والمشار إليها في اتفاقية مياه النيل لعام 1959 «55.5 مليار متر مكعب لمصر و 18.5 للسودان» غير قابلة للتفاوض وخطٌّ أحمر لا يمكن عبوره، بينما تصر الدول الأخرى على أنّ لها حقوقاً في مياه النيل تحت نظرية الانتفاع المنصف والمعقول، وأنه يجب على مصر والسودان الاعتراف بهذه الحقوق، كما يصران على أن الاتفاقيات التي عقدت في الماضى ملزمةٌ لدول الحوض الأخرى، وتحديداً اتفاقية 1929م التي أبرمتها بريطانيا نيابةً عن السودان وكينيا ويوغندا وتنجانيقا «والتي كانت ضمن مستعمراتها في ذلك الحين» مع مصر، وهذا ما ترفضه الدول الأخرى. كما أن هناك خلافاً حول مبدأ الإخطار بالمشاريع التى تنوي الدول المشاطئة القيام بها، وكذلك حول طريقة تعديل الاتفاقية. إنّ حلحلة هذه الخلافات لن تتم كما ذكرنا سابقاً إلاّ بالتعاون التام بين دول حوض النيل وليس بالاتفاقيات الجزئية، القديم منها والجديد،. وكما ذكرنا آنفاً فإن المشكلة الكبرى التي تواجه دول حوض النيل هي الإيراد الضعيف لنهر النيل «كما ورد سابقاً فإن مجمل مياه النيل تساوي 2% من نهر الأمزون، 6% من نهر الكونغو، 12% من نهر اليانغستي، 17% من نهر النيجر، و26% من نهر الزمبيزي». إنّ هذا الضعف الحاد في وارد المياه السنوي يمثّل المشكلة الكبرى لنهر النيل ودوله وشعوبه، خصوصاً مع الزيادة المضطردة للسكان والاحتياجات المائية المتنامية لهم، ومع التغيرات المناخية والتدهور البيئي في دول الحوض. ويعتمد أكثر من 300 مليون نسمة في هذه الدول على نهر النيل «أكثر من 25% من سكان أفريقيا» ويُتوقع أن يصل هذا العدد إلى 500 مليون بحلول عام 2025م، وعليه فإنّ التحدي الحقيقي الذي يواجه نهر النيل ودول حوضه هو موازنة الاستعمالات القائمة لمصر والسودان بالاحتياجات المشروعة والمعقولة للدول المشاطئة الأخرى «وهي احتياجات محدودة وقد اعترفت بها مصر والسودان نفسيهما في اتفاقية 1959م». وهذا بدوره سيتطلّب زيادة مياه النيل، كما أنّ هذه الزيادة سواء أكانت من حصاد المياه في دول المنبع أو مستنقعات جنوب السودان أو من نهر الكونغو أو حتى من ترشيد الاستهلاك، فإنها تحتاج إلى التعاون التام بين دول الحوض جميعاً، وإلى تعاون دولٍ أخرى خارج حوض النيل. إن التعاون هو الركيزة الأساسية التي تقوم عليها إدارة وحماية وتنمية مياه الأحواض المشتركة.