كنت قد كتبت الاسبوع الماضي عن الغناء الهابط يهدد الامن الثقافي والقيم والاخلاق والمفاهيم وجاءت الى الكثير من الردود التي تصب في اتجاه ان هذا الغناء مصيبة كبيرة في حق السودان وقد تلقيت مكالمة من الجد عمر مصطفى خالد شكاك من جهة كنور ويقول لي اطرق بيد من حديد على هذا الابتذال الذي اصبح مزعجا لنا كأسر سودانية ، واشارت لي الاستاذة شادية مغازي ان الشباب في الاحياء يغنون اغاني اجنبية وان طريقة الرقص اصبحت كالمصارعة والشلاليت وان الثقافة اصبحت مستوردة، والاخ الصحفي محمد صبوح تناقش معي في ان الغناء الهابط العربي الذي جاء للسودان أسهم في ان يقلده بعض مدعي الشعر.. وقالت لي استاذه شادية ان غياب المكتبة المدرسية والجمعية الادبية في المدارس هو من شكل الواقع الغنائي الحادث في هابط الغناء، وقالت لي انني عندما كنت طالبة في تندلتي قد اطلعت على قصائد الشاعر عثمان خالد وما زلت اذكرها «أحلى البنات» و «الساعة سته» و«مدينتي بارا» فأين غناء اليوم اللاعب معاي ضاغط من غناء ابراهيم عوض مثلا «لو داير تسيبنا» وقد سعدت بسبب مقال الغناء الهابط بزيارة كريمة في بيتي المتواضع من العازف القامة والشهير عبدالحي قسم السيد فرج الله عدلان بك وهو من اشهر عازفي الاكورديون ويسكن في حي بانت الشهير بأم درمان وقال لي بالحرف الواحد إنك قد لامست المسكوت عنه في الغناء السوداني وكان بصحبته الموسيقار الشهير وعازف الكمنجة والساكسفون السنجك وقد كان لزيارتهما وقع خاص في نفسي وادركت ان ما يكتب له قيمة.. وتلقيت اتصالا من الاخ الاديب الشاعر امير صالح جبريل من ام درمان وقال لي ان هذا الموضوع برغم ان الاخوة النقاد قد تناولوه كثيرا ولكن لم يستجب لنداءاتهم وانه بالضرورة ان يكون هنالك كتابات مستمرة حتى تؤتي اوكلها فله الشكر والشكر اجزله للاستاذ عيسى محمد أحمد استاذ الموسيقى بجامعة السودان كلية الموسيقى والدراما الذي تناقش معه واهداني اوراق عمل مقدمة من خلال ورشة عمل عن اشكالية الغناء الهابط واثره على البناء الاجتماعي، وقد وجدت من خلال اغاني كثيرة هابطة جاءتني من قراء اعزاء فهي كثيرة وركيكة وهم يتحسرون ان هذه الاغاني بها كثير من الاسفاف في اللغة والكلمات واشارات اجتماعية خطيرة وبها معانٍ خارجة عن المألوف وبها نمط يعمل على تغيير نمط الحياة السودانية الذي جبل على مكارم الاخلاق وانتاج الغناء الجيد، وان الغناء الهابط بانحطاطه يلقى الرواج في بيوت الاعراس السودانية بمباركة كثير من الأسر التي تعتبر ان الغناء لمرة واحدة في مناسبة لا يؤثر على خريطة الغناء السوداني، واعتبر ان هذا الغناء الهابط من الآثار السلبية للعولمة والانفتاح على ثقافة اجنبية تنتج لدولها جميل الغناء وتصدر لنا الغث من الكلمات والغناء، وان هذا الغناء يؤثر في شباب كثيرين تصرعهم الموضة. وان اوراق ورشة اشكالية الغناء يجب الوقوف عندها لأنها يمكن ان توجه وتعالج كثيرا من الترهات والخزعبلات التي تسمى غناء، وقد قدمت الورشة في يناير 2009م، وقد قدمت للاوراق الاستاذة هالة قاسم علي من المجلس الاتحادي للمصنفات الادبية والفنية، وتشير الاستاذة هالة الى ان طباعة هذه الاوراق جاءت استجابة لطلب العديد من الباحثين حول هذه الظاهرة، وان الورشة تلقي الضوء على محتوى الاغنية او ما يعرف بظاهرة الثقافة الهابطة، وانها باتت اكثر وضوحا وانتشارا بظهور التقنيات الحديثة، وتفيد بأن بعض الخبراء يرون ان ظاهرة الغناء الهابط مسؤولية مجتمع بأكمله، وقد قدم اوراق الورشة كل من د. عمر أحمد قدور ، ود. سليمان علي أحمد، ود. محمد آدم سليمان ترنين، ولكل منهم حضور في الحياة الثقافية السودانية.. ولقد اهتم بجمع الاوراق وطباعتها جعفر عمر عيسى ومحيي الدين ابو القاسم من المجلس الاتحادي للمصنفات الادبية والفنية. وقد كانت الورقة الاولى تحت عنوان : (الغناء الهابط في المدينة السودانية) من اعداد الدكتور الموسيقار محمد آدم سليمان (ترنين) المحاضر بجامعة السودان كلية الموسيقى والدراما ، وقد اكدت الورقة ان الابداع الفني يتأثر بالظرف الاقتصادي والاجتماعي كما يتأثر بالمكان والزمان رقيا وترديا، وقد وصف هذه الاغاني بانها مثيرة للجدل وان هنالك من يرفضها بحجة انها تخالف السلوك القويم وانها اغاني ناشزة خارجة عن اطار العادات والتقاليد، وآخرون يستمعون اليها في السر والعلن، وقد اطلق عليه د. ترنين الغناء السري وكان عند النساء يدندن به في جلساتهن الخاصة ويعبرن به عن مشكلات تخص المرأة وهي في غالبها عاطفية. ويشير دكتور ترنين الى ان هناك دوافع ادت الى ظهور هذه النوعية من الغناء متمثلة في الحراك الاجتماعي الذي جعل المجتمع مستهلكا لكل ما هو رخيص وذلك خلاف المجتمعات الريفية، ويصل الى نقطة مهمة في ورقته الى ان الاغاني الخالدة مكتوبة ويتداولها الناس ويكتبون عناوينها على سياراتهم ... وان الاغاني التي تسمى هابطة لابد من دراستها وقراءة ما بين سطورها، ويضيف ان ما نصفه اليوم بالهابط قد يصفه آخر غدا بغير ذلك... وذلك لأن الايقاع هو القاسم المشترك في ثقافة اهل السودان.. ويرى ان اللحن ثابت وتتغير المفردة والمفردة نظم بسيط لا يمكن ان نطلق عليه شعراً لأنه لا يخضع في كثير من جوانبه لمعايير الشعر، وان المفردة فيه دون المستوى الاجتماعي السوي. وفي الورقة الثانية عن الاغاني الهابطة، والتي جاءت تحت عنوان «الاغاني الهابطة الاسباب والدوافع والآثار» اعدها الدكتور سليمان علي احمد آدم رئيس قسم علم النفس كلية الآداب جامعة الخرطوم ، وقدم لورقته عن دور الفنون والفن الغنائي خاصة وانه يلعب دورا عظيما في تحقيق اهداف التنشئة الاجتماعية العليا اذا تم استخدامها بشكل معتدل وتلعب الاغاني دورا خطرا اذا تم استخدامها بشكل مشوه او باهمال لأنها تشكل وجدان الشعوب وترسم معالم المستقبل وتناقش قضايا المجتمع في قالب فني.. وان الاغاني الهابطة اصبح يغنيها عدد كبير من الاولاد. واشار د. سليمان الى درجة قبول الشباب للأغاني الهابطة والاسباب والدوافع لسماع وانتاج الاغنية الهابطة في المجتمع السوداني والآثار الاجتماعية والنفسية لسماع الاغاني الهابطة، ويفيد بأن الاغاني الهابطة هي ظواهر وحوادث وموضوعات في المجتمع تعكس هموم فئات وقطاعات معينة في المجتمع وانها اصبحت حديث الناس في المجالس وان هنالك العديد من الحوافز المشجعة لأصحاب الاغنية الهابطة ومنها القنوات الفضائية والاذاعات ووسائط الاعلام التي تلعب دورا بارزا في تحفيز المؤدين ، وارى ان الاغنية الجيدة لم تجد الحيز الكافي في وسائل الاعلام مما يجعل هذه الاغاني هي السائدة في الوسائط، وان ثقة الشباب السوداني عند كثير منهم مهتزة في ثقافته السودانية لذلك يستجيب لثقافة الغير وهذا هو المقصد الرئيسي من الاستلاب الثقافي والغربة التي يتم انتاجها نحو شريحة الشباب، وان الاغنية الهابطة هي التعبير المستتر عن المسكوت عنه وان هذه الاغاني في معظمها فرويدي التفكير وتنتج عن صراعات ومخيلة من نظمها لأنها تحمل كلمات غير حميدة وخاوية المحتوى وان انتشارها يؤثر على الجانب الخلقي ولها آثارها وصداها على النسيج الاجتماعي ومن خلال كلماتها نصل الى انها دعوة صريحة ومباشرة للتفكك الاجتماعي.. وقد جاءت الورقة الثالثة للدكتور عمر أحمد قدور في ورشة الغناء الهابط بعنوان «الدور الرقابي والاجتماعي في تحجيم ظاهرة الاغنية الهابطة»، وقدور استاذ قانون وشاعر وكاتب وعضو في مجلس المصنفات الادبية والفنية ، مشيرا فيها الى ان الادب والفن ضرورة في الحياة الانسانية ،مضيفا ان الادب والشعر السوداني ملئ بالادب الشعري والغناء الرفيع، وان الاغنية السودانية على مر الاجيال ظلت مشرفة، وتحدث عن ابداعات ابو صلاح (جوهر صدر المحافل)، وسيد عبدالعزيز (اجلى النظر يا صاحي).. و(ملوك امدر) للعبادي وعتيق (ايام صفانا) وعبيد عبدالرحمن (واذكر بقعة امدرمان) وعبيد عبدالرحمن و(حليل زمن الصبا).. وتحدث عن الغناء الحديث واشراقاته. وعن الغناء الهابط ذكر من الذي سمح لهذا الغناء الفج كغثاء السيل ان ينتشر في جهالة وظلم ومن الذي اوجد هذه الظاهرة وسمح لها ان تتمدد.. هل هو المجتمع .. ام هي بعد البؤر المنحرفة التي سمحت بذلك... ام هي قنوات خاصة... ويرى ان ضعف الرقيب الداخلي هو من يسهم في ترويج الغناء الهابط وتصل ورشة الغناء الى عدد من التوصيات يمكن ان تسهم في تحجيم هذا الغناء ونقرأ منها : /1 تفعيل الدور الرقابي على جميع الاذاعات والقنوات الفضائية من المجلس القومي للمصنفات الادبية والفنية ، ومن اهم التوصيات دعم دور النقد الفني والصحف الفنية التي تهتم بالفن ورسالته والحراك الاجتماعي، وان تعمل الدولة من خلال القنوات الرسمية على تشجيع الغناء الرصين والهادف وملء الفراغ الفني بالانتاج الغنائي الذي يخدم قضايا المجتمع. وسيظل الغناء الجيد وساماً في جيد الاغنية السودانية، وان الكلمات الهابطة في كل المراحل التاريخية السودانية لا ترقى بأن توصف سودانية، ولقد ظل كتاب الاعمدة الفنية في الصحف السودانية ينادون باسقاط الغناء الهابط من خريطة الغناء السوداني، وستظل هذه القضية الفنية المهمة مطروحة للنقاش من علماء النفس والشعراء والفنانين وصحفيي بلادي حتى نؤسس للاجيال القادمة ثقافة سودانية بعيدة عن التشوهات..