يصحو النظام في الخرطوم كل صباح على صوت رصاصات تنطلق في جهة من جهات البلاد، وذلك هو حال النظام الوليد في جوبا فهو يستقيظ كل فجر على ايقاع اشتباك جديد، وعلى الرغم من الأزمات الطاحنة لديهما، فإن الحكومتين في الخرطوموجوبا تقتربان هما ذاتهما من مواجهة مسلحة، وربما كانا في حاجة اليها، لتوجيه الأنظار بعيدا عن الأزمات التي يواجهانها، وفق النظرية السياسية التي تقول بحتمية ايجاد عدو خارجي يلهي الناس عن المشاكل الداخلية.. وللمفارقة فإن الشراكة بين الجانبين تبدو فاعلة فقط فيما يتصل باحداث المزيد من الفرقة، بين شقي البلاد، ولا ندري إلى أين ستنتهي هذه الشراكة المريرة المسكونة بالأزمات، وما نخشاه أن يسعيا إلى تتويجها بلحن جنائزي، على أنقاض البلاد، يعكس حقيقة العلاقة المتردية بينهما طوال الفترة الانتقالية وقلة حيلتهما في الحفاظ على السودان موحدا.. إنها مشاكل حقيقية وكارثية لكن تقابل بحالة من الاسترخاء، ففي الشمال اتصالات غير حاسمة بين المؤتمر الوطني والقوى الأخرى، بينما يفترض أن يحث الجميع الخطى نحو وضع قومي دستوري يتناول المسائل بمنظور عريض ويكون فاعلا في اجتراح الحلول الشاملة لكل مشاكل البلاد.. ويتوقع أن تمتد المشاكل بين الجنوب والشمال على طول حدود تبدأ من كفيا قنجي في أقصى الغرب إلى آخر نقطة بين ولايتي النيل الأزرق وأعالي النيل ، مع نقاط ملتهبة اصلا من بينها بصفة خاصة أبيي، وتتضمن هذه الحدود مساحات مقدرة من دارفور بكل ما تنطوي عليه من مشاكل داخلها، فضلا عما يثيره هذا الجوار بين جنوب دارفور وشمال الجنوب من مصاعب جمة، إلى جانب مشاكل دارفور ذاتها التي تتأرجح جهود الحل فيها بين الدوحة ومحاولات السلام الداخلي ، بينما يزداد التدفق نحو معسكرات النازحين، التي تقول التقارير أنها تشهد أوضاعا كارثية مع استمرار المعارك.. والحقيقة فإن الثورات حولنا قد تجعل الحكومات تتطلع إلى ما يصرف الانظار بعيدا عن المشاكل الداخلية، حتى لا تسمع في اليوم التالي هتافات ( الشعب يريد ....)، ولأن هذه الثورات لا زالت في نسختها العربية، فإن جنوبنا قد يكون بعيدا حتى الآن عن تأثيراتها إلى أن يتم اصدار النسخة الأفريقية، فالكثير من دول القارة تحتاج إلى هزات مماثلة لتلك التي حدثت وتحدث في الشمال الأفريقي كي تتمتع بالحيوية السياسية واستعادة الحقوق وتخليصها من الفساد.. ففي الشمال كما في الجنوب ( الدولة المرتقبة) هناك دولة منهكة، ومع ذلك ففي كليهما استعدادات لا تخفى لخوض حرب، تحسب لها الجميع وتوقعوها ، بعد أن اعتقدوا أن ذهاب الجنوب إلى حاله منفصلا عن الدولة الأم سيعمل على تجبنها.. لكن الأحوال على الأرض تفيد بأن الحرب وشيكة، وأن تجميع وقودها يمضي على قدم وساق على جانبي الحدود.. وأن النوايا الحسنة لدى أناس في كل من الشمال والجنوب لن تكفي وحدها لاطفاء فتيلها، وأن جهدا غير عادي مطلوب بشدة لانقاذ السودان الكبير من شرورها.. وبينما تبقى الأماني بامكانية تجنب هذه الحرب، فإن وضعا فوضويا في الساحتين يوحي فقط بأن الأمور في طريقها نحو الاشتعال، ففي ظل الفوضى، والنزاعات في الساحتين الجنوبية والشمالية، لا يمكن لأحد إلا أن يتوقع الأسوأ، خاصة وأن فصول الحرب بدأت بالفعل في أبيي، وأن الاتهامات يتم تبادلها يوما بعد الآخر، مع تباعد الرؤى والمواقف، وانسداد سبل الحوار، حيث اتخذت حكومة الجنوب قرارا بإغلاق منفذ الحوار الوحيد المتمثل في المناقشات الخاصة بتسوية المسائل العالقة من الحدود إلى أبيي إلى الجنسية والديون والنفط وغيرها.. وذلك احتجاجا على ما تقول إنه تدخل للخرطوم في حوادث ملكال المؤسفة الأخيرة التي راح ضحيتها العشرات، وأنها تدعم المناوئين لجوبا ومن بينهم بصفة خاصة جورج أتور، و هددت حكومة الجنوب بوقف شحنات النفط عبر الأنبوب الممتد شمالا، وتوعدت بالبحث عن طرق أخرى لتصديره إلى الأسواق، وبالتالي حرمان الشمال من مورد اساسي واستراتيجي وضروري، وهذا قد يزيد من الضغائن.. وقبل ذلك كانت هناك الاشتباكات في أبيي بين المسيرية وفصيل من الشرطة التابعة لحكومة جنوب السودان، ولقي حوالي 70 شخصا مصرعهم، وزادت تلك المعارك من حالة انعدام الثقة وتباعد الشقة بين الخرطوموجوبا، وهذه الاشتباكات هي الخامسة في أبيي منذ تصويت الجنوب على الانفصال.. وتواجه حكومة سلفاكير حركات تمرد عديدة وصراعات قبلية متواصلة بلغت في مجملها حوالي ال 16 منذ الاستفتاء.. ويميل النظامان في جوباوالخرطوم إلى الإنفراد بالسلطة، على الرغم من المشاكل التي تحيط بهما والتي لا يمكن لحزب حاكم واحد أن يحلها، وعلى الرغم من المفاوضات التي تجريها الخرطوم مع بعض القوى السياسية، إلا أنها ترفض ما تجمع عليه الأحزاب من ضرورة السعى إلى مواجهة مشاكل البلاد من خلال اقامة حكومة قومية تتولى اجهزتها التشريعية اقامة دستور دائم للبلاد، لكن المؤتمر الوطني يفضل مجرد حكومة موسعة، وهو ما ترفضه الأحزاب التي ترى أن دورها فيها سيكون هامشيا.. ومن المهم الإفادة من حصيلة الثورات العربية بالبناء عليها، خاصة وأن تلك النتائج المتحققة أصبحت أمل الجميع، مع اتساع الوعي الذي افرزته في مجمل المنطقة وروح النضال التي أشاعتها. أما حكومة الجنوب، فقد نقضت ما غزلته بيدها، فبعد أن استطاعت، قبل الاستفتاء، تجميع كامل الأحزاب الجنوبية في صورة قومية جنوبية نادرة وصفها الكثيرون في ذلك الوقت بالخطوة الجيدة، وقد ظهروا في اكتوبر الماضي قبل الاستفتاء في صورة موحدة تظهر الانسجام القومي بينهم، لكن حكومة الحركة الشعبية بعد الاستفتاء ابتعدت عن الجميع وانكبت وحدها على مهام اصدار دستور جديد للحكومة الوليدة، مما جعل أحزاب الجنوب تنفر من العمل معها، ليتعمق وضع متفاقم أصلا على أرض الواقع.. ومن الواضح أنه يتعين على شقي السودان التعامل وفقا للحقائق وادراك الأوضاع المتردية لدى كليهما، خصوصا وأن وضع الدولتين يفرض على جوباوالخرطوم الارتفاع إلى مستوى التعاطي المسؤول مع المشاكل، فنحن الآن، أو بعد حوالي الثلاثة أشهر أمام دولتين، ينبغي أن تراعيا مصالحهما المشتركة وهي كثيرة، ويتيح التعاطي معها بجدية تجاوز الصغائر التي تظهر هنا وهناك، ، وأنه من أجل ترتيب كل هذه الأمور فإن قدرا كبيرا من ضبط النفس مطلوب، وأنه يجب الانصراف أولا إلى ترتيب البيت الداخلي ومراعاة الحالة المتردية للسكان في الجانبين والأخذ بأيديهم إلى ما يحقق مصالحهم الحقيقية، وما من سبيل إلى ذلك غير تأمين استحقاقات الديموقراطية الحقة.. ** وفي غمار هذه الحالة المتردية، تبدو ثمة جهود سياسية تستشرف واقعا أفضل، وعلى الرغم من حالة البؤس السياسي في تناول المسائل بين الجنوب والشمال، فقد دعا المؤتمر الوطني المنتمين له من الجنوبيين إلى تكوين حزبهم الخاص بهم، ومن المؤمل أن يستطيع هذا الحزب الجديد إذا تم تكوينه مراعاة مصالح الناس في الجانبين، و يفترض ذلك أن يتسع صدر من هم في قمة السلطة في جوبا لكل التيارات السياسية بما يثري التعاطي السياسي.. وقد يكمل هذه الخطوة أن يتاح لقطاع الشمال في الحركة العمل تحت المسمى الذي يختاره، وهنا لا يمكن اغفال المدى الجماهيري الواسع الذي تتمتع به الحركة خاصة في مناطق مثل جنوب كردفان والنيل الأزرق، بل إن والي النيل الأزرق منها وكذلك نائب الوالي في جنوب كردفان، إلى جانب النواب المنتخبين في المجلس الوطني، ومن غير المنطقي أن يكون للحركة أناس منتخبون في قمة السلطة، بينما هناك من لا يحتمل أن يمارس هذا القطاع العمل السياسي في الشمال.. ومن شأن مثل هذه النقلات ترطيب الجو السياسي بين الشمال والجنوب بحيث تتكفل الأحزاب التي خبرت الوضع في الجانبين بحلحلة الكثير من المصاعب، مع افتراض سيادة جو ديموقراطي ينقل الصراع من أيدي العسكريين إلى حوزة السياسيين..