نظمت الجمعية السودانية للعلوم السياسية ورشة للحوار الوطني حول قضايا الراهن الماثلة، وفى مقدمتها بطبيعة الحال الدستور القادم ،وكيفية هيكلة الحكم فى المرحلة القادمة بعد الانفصال ،واعلان الدولة الجنوبية الجديدة فى التاسع من يوليو القادم ، ووجهت الدعوة من اجل هذا الحوار المغلق من قبل الجمعية لمختلف القوى السياسية السودانية والمجتمع المدني ،الا ان الحضور لم يعكس بأي حال من الاحوال حساسية القضايا الموضوعة على منضدة البحث والحوار ، وان عكست مخرجات الجلسة الاولى لهذه الورشة والتى خصصت لورقتين بحثيتين، احداهما عن ملامح الدستور القادم والاخرى لاجهزة الحكم، تباين مواقف القوى السياسية السودانية والمجتمع المدني المشارك، من محددات الدستور القادم ان لم نقل اهم المرتكزات التي يجب ان يقوم عليها . وقد طرح الدكتور يس عمر يوسف مجموعة من المرتكزات التي يجب ان يقوم عليها الدستور القادم، منتناولا الجوانب القانونية ومحددا مجموعة من القيم التي يجب ان يكتب الدستور علي اساسها، ويجب فيها مراعاة الجوانب الاقتصادية والسياسية والتكوين الاجتماعي والثقافي في الدولة، والطريقة الذي يجب ان تقوم عليها. محددا شرط فصل السلطات كمعيار اساسي لتحقيق الاستقرار، خصوصا ضرورة الفصل بين ماهو قانوني وماهو سياسي، والعمل علي ضمان استقلالية السلطة القضائية وهو ما يتطلب الفصل بين منصبي النائب العام ووزير العدل، ويري يس ان شكل الدولة يجب ان يكون اتحاديا مراعاة للامتداد الجغرافي للدولة، وان يبقي علي الولايات ال«15» . أو ان يتم اقامة نظام حكم اقليمي وان تكون طبيعة النظام في الدولة هو النظام الرئاسي، علي ان تحدد فترته باربع سنوات تجدد مرة ،مع ضرورة تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية منعا للطغيان، وان يكون الوزراء مسؤولين امام البرلمان وخاضعين للمحاسبة، وان تعتبر القرارات ملزمة دون العودة الي طاولة الرئيس مرة اخري. ودعت الورقة الى ان تشكل السلطة التشريعية من مجلسي النواب والشيوخ ،واشترطت كذلك ان يكون الدستور الجديد ووضعه خاضعا لعملية الاستفتاء الشعبي ،وبمشاركة من كافة المكونات السياسية من اجل الاتفاق علي المبادئ الرئيسة، دون الخوض في التفاصيل. واعتبر ان الدستور الاسلامي المنادي به الان، يقوم في الاساس علي اربعة مبادئ اساسية هي «البيعة والعدل والشوري والمساواة »، وهو مايؤكد علي صلاحيته للنظم كافة ،سواء كانت برلمانية او رئاسية او مختلطة، على حد اعتقاده . واستعرض بروفيسور محمود حسن أحمد امام المشاركين نظم الحكم المتبعة فى العالم على اختلافها بهدف الوصول الى نقاط متفق عليها بشأن اجهزة الحكم فى المرحلة المقبلة، مبرزا الدواعي التى دفعت باتباع الفيدرالية فى البلاد ، ورأى انها تتمثل فى اتساع نطاق الدولة والتعدد الثقافي والعرقي والديني فضلا عن الرغبة فى توسيع نطاق المشاركة الشعبية. واعتبر حسن ان ايجابيات الفيدرالية تكمن فى ترسيخ مفهوم التنمية المتوازنة والمشاركة فى السيادة الوطنية وافراز قيادات سياسية جديدة، كما رأى انها تمكن ابناء الوطن من التعرف على قضاياهم والسعي لحلها وتجعل السلطات شراكة بين المستويات المختلفة ولا ترسخ لتركيزها فى مستوى معين. وافاض رئيس الجمعية السياسية السودانية من بعد ذلك فى فى ابداء دعمه لتطبيق النظام الجمهوري الرئاسي فى السودان، واشار الى انه يعمل وفق مبدأ فصل السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية ، كما انه يرسخ لاستقلال القضاء ويجعل السلطة شراكة بين الرئاسة والاجهزة المختلفة ويتفادى الاشكالات التى تنشأ فى الجمهورية البرلمانية. ولفت بروفيسور محمود حسن الى ان التعددية فى الوحدة تحتاج الى قيادة واعية لكى ترعى عملية التعدد. الا ان البروفيسور انتقد الاسس التى تتم بها عملية انشاء المحليات والولايات فى البلاد، وقال انها يجب ان تتم وفق شروط محددة ابرزها توفر الموارد الاقتصادية الكافية لادارة هيكل الحكم وتنفيذ الخدمات مع مراعاة توفر عدد السكان المناسب والمتجانس ايضا ثقافيا، وتوافر مساحة جغرافية ملائمة لانشطة السكان ومقدرات بشرية مؤهله. وقدم حسن جملة من المؤشرات التى تبدت من خلال اخضاعه لمراجعة تجربة الحكم فى السودان عبر مراحل مختلفة من تاريخه، وقال ان المحليات فقدت فى ظل النظام الاتحادي كثيرا من سلطاتها وصلاحياتها رغم ان الحكم المحلي هو الاقدم تاريخيا من الحكومات الاخرى فى الفكر الجمعي السوداني. ولم تخرج التوصيات التى قدمها رئيس الجمعية السياسية السودانية كثيرا عن قراءته لتجربة الحكم السابقة فى السودان، فقد طالب بوضع دستور دائم للبلاد واعادة هيكلة الاجهزة التنفيذية والوزارات فضلا عن تعديل قانون الاحزاب الساري لكي يحد من تكاثرها حتى تتمكن من اداء دورها الوطنى ،واختصار عمل المركز على الشئون السيادية وتقديم الخدمات الاستراتيجية ، وشدد على ضرورة اعتماد الكفاءة والاخلاق الحميدة معيارا للاختبار وتعديل قانون الحكم المحلي مع السعى بجدية لتقليص عدد المحليات والولايات المتزايد وتقليل الجيش الجرار من المستشارين والوزارات الولائية ، ذلك فى مقابل منح المحليات مزيدا من الاختصاصات والسلطات الاصيلة. الا ان التوصية الابرز التى قدمتها ورقة» هيكلة الحكم « فى هذه الورشة كانت عدم جواز انشاء اقاليم تحتها ولايات، خاصة وانها تأتي والساحة تشهد جدلا حادا حول جواز انشاء اقليم لدارفور فى ظل المطالب المتزايدة من اهله ، وفى ظل الاستفتاء المزمع فى الاقليم ،وفى اطار ما اذيع عن امكانية سماح الحكومة بقيامه شريطة ان تبقى الولايات فى دارفور تحت سلطة ولاتها . وابتدر القيادي بالحزب الاتحادي الديمقراطي صديق الهندي مداخلات القوى السياسية بتأمينه على ان اللامركزية كمبدأ مقبولة فى السودان ، الا انه قال ان تطبيق الفيدرالية برهن على فشلها، مدللا على ذلك بقوله « ماهية الوالي اعلى من ماهية نائب رئيس الجمهورية «!، واشار الهندى الى ان دستور 2005 ترك الولاة دون محاسبة او مساءلة عن المال العام وفيما ينفقونه، ولفت الى ان المراجع العام فى السودان يكتفى فقط فى ظل القوانين الحالية باعتماد الموازنات الولائية التى ترسل اليه. ورأى الهندي ان مجلس الولايات بوضعه الحالي لا يلبي حاجة البلاد الى مجالس نيابية قوية، معتبرا ان مرد ذلك ضعف تمثيله والتجاوزات وعدم التحديد الدقيق للسلطات بينه والمجلس الوطني. وحول النظام الاوفق للبلاد قال الهندي « ان كان لابد من الرئاسي فيجب تقييده وتقييد سلطات الرئيس». ووصف القيادي الاتحادي تجربة السودان فى تطبيق النظام الرئاسي ب» المريضة» وقال انها لا تنفع كنموذج يحتذى لانها ارتبطت بالانقلابات العسكرية وبالتسلط على الدوام من قبل المركز ، وليس ذلك التسلط على مستوى الحريات فقط وانما على مستويات ادارة الدولة المختلفة. وطرحت ممثلة حزب الامة القومي د. نجاة يحيى رؤية حزبها فى القضايا المطروحة ، قائلة ان النظام الرئاسي يجب ان يعدل فى هذا الدستور وان يعود السودان الى نظام الاقاليم الستة القديم ، كما يجب النص على ضرورة محاسبة البرلمان للحكومة واقالتها ان دعا الامر. ومضت نجاة لتؤكد ان حزبها يؤيد الدعوة الى مؤتمر دستوري تشارك فيه كل القوى السياسية لانجاز الدستور القادم ، راهنت نجاح ذلك بتوفير المناخ السليم والصحى لتحقيق التوافق من قبل الجميع على الاجندة الوطنية. ولم تنه د. نجاة مداخلتها الا بلفت الحضور الى ان هذا الدستور المزمع يجب ان يحظى بقبول الشعب السوداني وهو ما يستدعى ان يتم فتح حوار حوله يتسم بالشفافية والوضوح. اما ممثل حزب البعث عثمان ابوراس فقد اكد استحالة وضع دستور ديمقراطي فى البلاد فى ظل نظام غير ديمقراطي، مشيرا ان المناخ الذي تتم فيه عملية اعداد الدستور من اهم عوامل نجاحه. الا انه دعا لان تكون لجنة اعداد الدستور من كافة قطاعات المجتمع والساسة كى تصبح مرآة للشعب السوداني ،على ان تمضى فى عملها بروية تامة . واكد ممثل البعث انه لا يجب ان تترتب على الدستور الاسلامي اية اضرار على المواطنين وهو مالا يمكن ضمانه فى ظل تجارب الدولة الدينية، والتى رأى انها لا تصلح اليوم بعد ان خلقت الطائفية وقادت الى التفتيت والتجزئة. ولفت ابوراس فى هذا الاطار الى خارطة الصراعات داخل المجموعات الدينية الواحدة فى انجلترا وبنغلاديش والهند وافغانستان، معربا للمشاركين فى الحوار عن ثقته فى ان دعاوى الدولة الدينية لا تجد التفافا من الناس. لكن ابوراس طالب بتأكيد هوية السودان فى الدستور القادم على انه بلد عربي اسلامي وافريقي بكل ما يترتب من ذلك التعريف من حقوق وواجبات ، وان ينص الدستور كذلك على ان اللغة العربية هى اللغة الرسمية على ان تلقى المجموعات اللغوية الاخرى مكانة موازية واهتماما. واضاف ابوراس مجموعة من المرتكزات التى يرى حزبه تضمينها فى الدستور فى مقدمتها اعتماد النظام البرلماني واشاعة الحريات العامة وغل ايدي الاجهزة الامنية مع اعادة هيبة الجهاز القضائي واعتباره سلطة مستقلة. سليمان حامد ممثل المؤتمر الشعبي فى ورشة الحوار قال ان المركز ظل قابضا على السلطة ولذا كان من الطبيعي ان ينسحب الامر على الحكم المحلي عندما اتيحت الفرصة للولايات والمحليات ، واشار الى ان فساد المركز يستتبع فسادا اخر فى الولايات كما ان نجاح تجربة المركز فى الحكم تقود الى نجاح تجربة الحكم الاتحادي باكملها. ولفت القيادي الشعبي الى ان تجربة تكاثر الاحزاب وتشتتها وضعفها تبرز اول ما تبرز بعد مضي فترة من الكبت والحكم الشمولي، واكد على ان ما يحدث للاحزاب فى هذا الاطار وثيق الصلة بالحزب الحاكم ، اذا ان المؤتمر الوطني والكلام لحامد يعمل على تشظي وانشطار الاحزاب حتى لا تكون قوية وتنافسه على السلطة. وانتقد ممثل الشعبي الى ورشة الحوار، كثرة الولايات والوزراء معتبرا ان دوافعها استرضاية ، وقال ان طابعها العام يصل بها الى حد الرشوة التى تدفع لاسكات المحتجين ، وطالب بالنظر اليها فى اطار ممارسات النظام المركزي القابض. ورأى ممثل جماعة الاخوان المسلمون د. الحبر يوسف نورالدائم ان كل الصفات التى يبحثها عن السودانيين فى دستورهم الدائم متوافرة فى الاسلام . الا ان الشيخ الجليل اشار الى ان الاسلام المعنى فى هذا الصدد ليس هو بالضرورة النصوص المطروحة، ومضي ليضيف: « اذا تمكنا من ايجاد نظام ديمقراطي يحكم فيه شخص بالعدل والحرية والمساواة « . وشدد القيادي بجماعة الاخوان المسلمين على ان كفالة الحريات العامة والعدل والمساواة التى يبحث عنها الناس من اصول الاسلام، وانها ليست بالمنحة التى يتفضل بها الحاكم عليهم. واورد الحبر اختلافات فقهاء المسلمين حول جواز الخروج على الحاكم حال عدم تطبيقه الشريعة الاسلامية ، موضحا ان بعضهم يرى فى استقرار المجتمع وسلامته قيمة يجب ان يضحى من اجلها بأية قيمة ..و»ان تم ذلك بعد نزاع». واختتم د. الحبر بالتأكيد على ان اصل الحكم فى الاسلام هو الشورى وليس غيرها. وقدم من بعد ذلك اللواء معاش الهادي بشرى مدير جهاز الامن الاسبق والوزير السابق ايضا فى عهد الانقاذ قدم مداخلة فى غاية الاهمية حول اوضاع القوات النظامية فى الدستور القادم، فقد طالب بتصحيح الخطأ الذى قال ان الرئيس الراحل نميري ارتكبه باطلاق تسمية القوات النظامية على كل من القوات المسلحة والاجهزة الامنية والشرطية على حد سواء. وقال البشرى ان القوات المسلحة يجب ان تظل هى الوحيدة التى تحمل صفة قوات مسلحة، وان على الاخرى ان تضع فى اطارها الصحيح كقوات مدنية، مهمتها تحقيق الامن بضوابط يحددها القانون ويؤطرها الدستور. وشدد اللواء بشرى على ضرورة ضبط وضع هذه القوات فى الدستور القادم والقانون، ذلك لمنع التأثيرات السالبة من قبلها على الحريات. كما اطلق فى هذه الورشة الحوارية اللواء معاش بابكر على التوم، دعوة الى القوى السياسية لتشكيل لجنة من مختلف الوانها، لرأب الصدع بين الاحزاب المختلفة من جهة ،وبين د. حسن عبد الله الترابي وقيادات الوطني من جهة اخرى، وذلك فى اطار تصفية الاجواء وتهيئة المناخ اللازم لانجاح مثل هذه الحوارات المهمة.