قارئ ... العلوم الإنسانية تتداخل (والحدود ) بينها ، يصعب ترسيمها ، وما عملية ( إنفصالها ) إلا عملية تنظيرية ، إذ أنها لابد أن تتلاقح على المستوى العملي .وهكذا أجبرني تخصصي في علم الإجتماع لطرق باب السياسة في مقالىّ السابقين .. طرقاً خفيفاً .. أشبه بطرق من لايرغب في الدخول ! لأنني كما حدثتك في مقالات أسبق أتحاشى السياسة ،إذ لازلت أخلط بين الدبلوماسية والنفاق !أضف إلى أنني ومنذ طفولتي الباكرة أرتعد لصوت البندقية وإن إستهدفت (كلباً !).ولاأخفي عليك ،أنني ومنذ الصغر كنت أهاب رجل الشرطة وأفسح له الطريق إن رايته قادما ً ..ثم وحتى بعد الكبر .. والذي أدركت معه أن رجل الشرطة ماهو إلا لحماية الأمن والنظام .. لم يمت الخوف بداخلي خشية أن أكون غير (منظمة!)في تقديره والقاعات التي لا أرغب في زيارتها طيلة حياتي هي قاعات السجون حتى وإن كانت للإصلاح !. وحقيقة أقولها هي أنني لست (مناضلة) سياسية ولكني (مناضلة )من أجل تحقيق التنمية والنماء لهذا الوطن . وعلى أية حال ،رأيت أن أعود بك قارئ إلى أحاديثي (الآمنة) ،فأحدثك اليوم عن النمو السكاني وإنعكاسات ذلك على البرامج التنموية .فالنمو السكاني العالمي في تزايد متنامي ،يفوق كل تكهنات الدوائر الإحصائية وهذا النمو السكاني المضطرد يشكل مشكلة تعوق عملية التنمية ،خاصة في الدول النامية ومنها دولة السودان . ودعني أولاً أدعوك للتأمل في الرسم البياني أدناه :- المصدر : إدارة الإحصاء ولاية شمال كردفان ولعلك تلاحظ النمو السكاني المضطرد بالسودان والزيادة السكانية المتلاحقة ، هذا وقد حددت نسبة الزيادة بمعدل 2.8%سنوياً. ثم إجتهدت في عملية متوالية حسابية بسيطة لأجد أن سكان السودان (الموحد ) سيعادل 64.984 مليون نسمة تقريباً في عام (2030) أي بعد عشرين عاماً وذلك بالتقريب يساوي ضعف عدد السكان الآن (2008) . فما هي خططنا الإستراتيجية طويلة المدى للتجاوب مع مسألة الزيادة السكانية وتداخلاتها في كل برامج التنمية ثم ترابط ذلك مع مشاكل الهجرات الداخلية والتدهور البيئي والتغيرات المناخية ذات الآثار السالبة على البيئة ! . أولى هذه المشاكل التي تطل برأسها هي مشكلة الأمن الغذائي لسد حاجة السكان المتزايدة بتلاحق منتظم . هذا وبالرغم من كل الجهود لإنتاج الغذاء بالسودان والتي تتلخص في :- وضع سياسات زراعية حسب البيئات المختلفة. توجيه البرامج البحثية والإرشادية لإنتاج المحاصيل الغذائية . توجيه سياسات التمويل الزراعي وتبسيط أشكال ضمانات التمويل . دعم وتفعيل وحدات وقاية النباتات . تفعيل الشراكات بين المنتجين والمؤسسات الزراعية الفنية . ثم أن تنفيذ هذه المجهودات ستزيد بلا شك مخرجاتها من إنتاج وإنتاجية المواد الغذائية ولكن هل تلك الزيادة المتوقعة تعادل الطلب المتنامي لسد حاجات البشر المتزايدة سنوياً ؟! أم الزيادة في إنتاج الغذاء تبتلعها الزيادة السكانية المضطردة ،لنقف حيث كنا في محطة (الفجوة الغذائية ) عاماً بعد آخر . ومشكلة أخرى تأبى إلا أن تتصدر الاولوية أيضاً ، هي مشكلة النمو السكاني وإستخدامات الأرض .فالإنسان يستخدم الأرض منذ الأزل للزراعة والرعي والغابات ومنتجاتها وللسكن والمأوى وللمعادن والموارد المائية وغيرها .. ولاشك أن النمو السكاني يؤدي إلى إستنزاف هذه الموارد الطبيعية وتدهورها والعمل على عدم إستدامتها .لابل أن الزيادة السكانية تؤدي بالطبع لزيادة الرقعة الزراعية مما يؤدي لتغول الزراعة على المرعى أو على الغابات مما يخلق النزاعات ،الأمر الذي يشكو منه الرعاة في معظم أماكن تواجدهم .كما وأن الزيادة السكانية تزيد من معدل القطع الجائر للغابات مما يهدد التوازن البيئي ويجذب الصحراء .وبلاشك أن كل تلك المشاكل ستتضاعف في العشرين عاما المقبلة والتي سيصل فيها التعداد السكاني ضعف تعدادة اليوم (2008). ثم وأود أن أفرد حديثاً خاصاً لعلاقة الزيادة السكانية والتوسع العمراني الأفقي . ولنأخذ مدينة الخرطوم كمثال .وبقليل من التأمل يدرك الفرد مدى حجم الإمتدادات السكنية وتوسعها في العشرين عاماً الماضية ولنا أن نتخيل حدود مدينة الخرطوم بعد عشرين عاماً قادمة !! وفي دراسة ميدانية قمنا بها في ولاية جنوب كردفان عكست نسبة 35% من المستجوبين أن التوسع العمراني تمدد على حساب الأراضي الرعوية والزراعية ، وأصبح مشكلة يعاني منها الرعاةُ والمزارعون .. فهل سينبطح العمران إنبطاحاً يبتلع كل الأراضي الزراعية والرعوية والغابات !أم يجب التفكير في التوسيع العمراني الرأسي والذي يؤدي إلى حصر المساحات الجغرافية مع سهولة وصول الخدمات ، إضافة إلى الحد من تغول المساكن على الزراعة والرعي وإفساح مساحات جغرافية أكبر للتنقيب عن الموارد الطبيعية الكامنة ! أما مشكلة البطالة وشح فرص العمل ، هي مشكلة تطل برأسها وذيلها ! فمشكلة الأعداد الهائلة من الخريجين والاعداد الهائلة من العاطلين أفرزتها عوامل عده منها :- الزيادة السكانية المضطردة . عدم ربط التعليم ومناهجه بحاجة العمل الفعلية . تحجيم التعليم المهني والفني مقارنة بالتعليم الأكاديمي . وبما أن الإدارة التعليمية المركزية هي التي تتحكم في نسق التربية الرسمي لذا يجب أن تتحكم أولاً في مضمون المعرفة والمناهج والتأهيل لسوق العمل وحاجته .. أما الزيادة السكانية والتي تزيد بمعدل 2.8سنوياً فتلك قضية .والسؤال ..هل توفير عدد ثلاثة ألف وظيفة والتي وعد بها والي الخرطوم لهذا العام ستحل المشكلة جذرياً ! أم أننا نحتاج لنفس العدد من الوظائف أو أكثر عاماً بعد آخر ؟! وهل يستطيع دولاب العمل العام والخاص بحجمه هذا من إحتضان هذه الأعداد سنوياً ؟- وفي هذا الصدد أحس أن سياسات التمويل الصغير للمشاريع الإستثمارية المنتجة قد يكون من الحلول الناجعة ، لذا لابد من تشجيعه وتبنيه ، إضافة إلى أن هذه الوسيلة هي درب يقود إلى الإرتقاء بالإنتاج الزراعي والغذائي والصناعي إن حسنت إدارته .ويبرز سؤال ملح هو كيف نعاني من مشكلة بطالة وعطالة ثم نهوى إستيراد الأيدى العاملة ؟!أم لعل العمالة(الرطانة) ذات اللون غير الأسود والشعر الأسود الناعم أكثر جاذبية ؟!! ثم أزمة المواصلات والطرق والنقل تعد أيضاً إحدى المشاكل الملحة ،ورغم الإنجازات في شق الطرق القومية داخل وخارج العاصمة إلا أن النمو السكاني ينبئ بمزيد من وسائل الحركة سنوياً . وفي زيارتي الأخيرة للخرطوم (فبراير 2011) ضقت ذرعا داخل العربة التي (تمشي الهوينى !)من الخرطوم لأم درمان ، حتى تملكتني رغبة قوية في أن أواصل سيراً على الإقدام ،فلعل ذلك يكون أسرع بالإضافة إلى أن في ذلك رياضة وترويحا أحتاجه مع (النسيم العليل !) في شارع النيل .. النيل الذي نشوقه نحن أهل كردفان و (نغرق) فيه عشقاً . ثم ولعلى أقول حقيقة ،وهي أن الزيادة السكانية تفرض مضاعفة الخدمات التعليمية والصحية والوقائية وخدمات المياه ، فهل تتمكن الدول النامية من مواجهة هذا الإنفجار السكاني الذي يؤدي حتماً إلى ضعف الخدمات وتدنيها ، أضف إلى أننا دولة ناميه ويزيد من مشاكلها وقوعها في حزام الدول المعرضة للجفاف من آن إلى آخر . فكيف إذن الخروج من عنق هذه الزجاجة ! هذا وقد فطنت كثير من الدول النامية ومنها السودان للتصدي بمحاولات جادة لزيادة الدخل القومي ومستوى دخل الفرد من خلال عدة محاور أهمها : الاهتمام بالمشاريع القومية . تحسين التقنيات للكشف عن الموارد الطبيعية الكامنة . تأهيل الموارد البشرية لحسن استغلالها . هذا وبلاشك أن هذه المجهودات زادت / وتزيد من معدلات الدخل القومي إلا أن الزيادة السكانية المضطردة تكون عائقاً لزيادة دخل الفرد مما يجعل الفرد يقف حائراً عند محطة (حد الفقر!) . هذا عرض سريع (الفزاعات!) الزيادة السكانية المضطردة وهي محاور يلزم كل منها بحثاً علمياً دقيقاً ،كما ويستوجب تأهيل كوادر إدارات التخطيط الإستراتيجي في كل ولاية وضرورة التنسيق بينها وبين إدارات الاحصاء والمجلس القومي للسكان لوضع خارطة لدروب الحلول العملية المستقبلية .هذا ولابد من إيقاظ حاسة الإستشعار عن بعد لإعطاء هذه المشاكل حجمها الحقيقي ثم الإستعداد لمواجهتها بقدر ذلك الحجم . والله من وراء القصد . * ماجستير تنمية ولاية شمال كردفان الأبيض