مسقط - في أقصى شمال السودان ، منطقة تسمى «بطن الحجر» كِدِنْ توُ باللغة النوبية تقع بين منطقة سكوت المحس ومنطقة الفديجادار أي منطقة وادي حلفا وقراها . بطن الحجر أنموذج بيئي ديمغرافي إجتماعي إقتصادي متفرد على امتداد بلاد النوبة من دنقلا إلى الشلال الأول جنوبي أسوان . تفردها أنها وتفردهم أنهم : 1- أوفر بلاد النوبة عدداً في السكان (نسبة المواليد عالية نسبياً) ، قياساً بمساحة المنطقة التي تصغر كثيراً عن مساحة وادي حلفا وقراها ومساحة منطقة سكوت ومساحة المحس ومساحة دنقلا كُُّل على حدة . 2- لم يكن أهلها مهاجرين طلبا للعمل ومورد العيش خارج حوزتهم ، قبل تراجيديا السد العالي ، ولم يعرفوا الهجرة إلى الخرطوم ومدينة وادي حلفا ومدن السودان الأخرى أو مصر بمدنها . بايجاز لا مثيل لاستقرارهم ولا نظير لتضاد هذا الاستقرار مع موجبات بيئتهم الطاردة . 3- طوعوا أرضهم الصخرية القاسية للعيش والزراعة بشتى الوسائل والتدابير ، وخلصت لهم دون غيرهم في بلاد النوبة زراعة التبغ المحلي (القمشة والشكيم) ، وتربية الإبل ، وسيلة نقل التبغ التي تجوب المناطق النوبية جنوباً وشمالاً كنشاط تجاري مع سلع محلية ومستوردة أخرى . هم شغيلة بمعنى الكلمة ، أشداء أقوياء فرسان النجدة وأهل التنادي إلى المروءات والنفير ، ولا يستنكفون أي عمل متاح محليا في النوبة السودانية ؛ وكالرباطاب بينهم وبين المظاهر والوجاهات عداء وخصام . مرحون ؛ عفو الخاطر نكتة حاضرة وطرفة نادرة . لا يستهزئون ، لماماً إذا سخروا فسخريتهم لاذعة ضاربة . 4 - «طنابرة» من الطراز الأول ، فنانو طرب ، ويوالون نوعاً من الدوبيت يسمى «الكلكية» ويؤدونه في كثير من الحالات باللغة العربية العامية ، وهذا أمر محير ، فهم في محليتهم العميقة لا يتحدثون إلا بلسان نوبي مبين ولا يعرفون غيره إلا بالتعلم في المدارس لمن كان قد تعلم .. غير أن هناك بلدة تسمى «أمبكول» في وسط المنطقة المعنية جميع سكانها من عرب القراريش النازحين من ديار الشايقية ، ولا أثر للسانهم العربي على الأهالي ، وإن كان هؤلاء القراريش يخلطون لغتهم بشئ من النوبية ويزرعون التبغ أيضا ويترحلون بالجمال . في بلدة «أتيري» ببطن الحجر منجم مشهور للذهب ، كان صاحبه المرحوم السيد / عبدالله الفاضل المهدي ، ومن المرجح لو أجري مسح جيولوجي علمي فالأرض حبلى بالثروات المعدنية وأنواع الرخام وغيرها ، فتخيل فقراء كانوا يمشون يوميا فوق كنوز تخبئها بواطن الأرض . ذلك قبل أن تغمر بلادهم «تسونامي» السد العالي . 5- من بينهم شعراء كانوا قد تغنوا بالعامية السودانية ، لعل أشهرهم فروحي وديشاب الكبير (الجد) ، وحول تقمص الأخير اللغة الشعرية العربية رواياتٌ وأساطير فقد قيل إن هاتفاً خيره بين الشعر والغناء ، أو العبادة والتفقه في الدين فأختار الشعر ، وفي مرض الموت بكى فعاتبوه على خوفه مما ليس منه مهرب فقال : بل أبكي لأن ما في صدري من شعر سيفنى معي . اقتبس منه الشاعر إسماعيل حسن - على ما سمعت- أبياتاً في أغنية (الريلة) والتي منها : «حليل ناس آمنة في بطن الدياباب ..... جات تتدلى في وديان عديلة ..تمشي قدم قدم في المشي تقيلة . أما آمنة فقيل إنها كانت فتاة جميلة من عرب الأمبكول ، وقيل إن الشاعر في جلسة مع صحبه تمنى إذا مات والدها المسن أن يحتضنها ويبكي معها الفقيد . أما وديان عديلة فهي «وادي عديلة» المعروف لدى أبناء المنطقة يخترق بين الجبال طريقا بين (قهوة بير أمبكول) المعروفة في طريق اللوارى والقوافل من وادي حلفا إلى المحس وبين بعض بلدات بطن الحجر على النيل . وبطن الحجر تعج الآن بالشعراء المثقفين أبرزهم المعلم جعفر محمد عثمان (له قصيدة مقررة في مناهج التعليم السودانية) ، والأستاذ ميرغني محمد ديشاب (حفيد ديشاب السالف الذكر) ، وبعض هؤلاء المثقفين يكتبون ويتغنون بالنوبية كشاعر الطمبور المغني ود أحمد خير بقرية مك الناصر وإبراهيم عبده ببلدة أتيري أودوشات . وعلى إلمامي المتواضع بأحوال (بطن الحجر) فإنني ولسوء حظي لم أزر أو أنزل بأي من ديارها ، ولكن بلدتي (شياخة أكمة) وقبلها (شياخة سنقى) تجاوران بعد فاصل طويل آخر شياخة في بطن الحجر من الناحية الجنوبية .. وشياختا أكمة وسنقى هما البلدات التي تبدأ منها منطقة سكوت المحس من جهة الشمال .. وكثير من أبناء النوبة يأخذون قرانا في عداد (بطن الحجر) بحكم الجوار ، إلا أننا وللاسف نختلف في طرائق الحياة والنظر والتمظهر بالاعتبارات والاعتداد بشيء من ثروة النخيل وعطاء الأرض والسواقي والعمل خارج منطقتنا تجاراً أو عاملين وموظفين في الخدمة المدنية أو الخدمة التي كانت في مصر .. وربما تيسر لبعض أهلنا في أكمة وسنقى قدر من التعليم العام أو التعليم العالي منذ عهد الاستعمار (الحكم الثنائي) . هنا - بعد هذه التقدمة - وصلت سادراً لمقصدي أقول إن هذه المنطقة (فطرةً أو بيئةً أو لما إنطوت عليه عبقريةُ مكانٍ متضادٍ في سحره وفقره أو لظروف تاريخية بعيدة في المكَّون الإثنى والقيمى والإجتماعى ) شكلت ظاهرة مذهلة هى أن أولئك القوم البسطاء ملكوا في تلك الأجواء من الأمية وشح الحياة قدرات فريدة في التعامل مع الِحَرف والمهارات الوسيطة ، إنن زراعةً أو تطويعاً لوسائل الرى وآلتها الساقية (إسكلي ) وأدواتها الخشبية الهندسية المعقدة التي لا تدخل فيها مادة حديدية أو معدنية أو الأنفاق الأسطوانية التي تحفر تحت الأرض من النيل إلى بئر الساقية العميقة ، أو إنَّ صناعةً للمراكب النيلية وأدوات الصيد وتوليف البارود وأعمال الحدادة والتجارة وبناء المنازل ...الخ مما يمكن أن تمتد إليها الأيدي العاملة الماهرة ، بل والمبدعة المبتكرة أحياناً . وعلى قلة مَنْ خرج مِنْ شباب أولئك القوم للعمل في المدن فإنهم لم يركنوا عبر تلك الأجيال الماضية إلى الخدمات السهلة في العمل التابع ، لكنهم تخيروا مظان المهارات اليدوية والفنية في مجالات الأجهزة والكهرباء والميكانيكا والحياكة والصيانة ، وسمعت عن فني مشهور منهم بفرع شركة جلاتلى هانكي بوادى حلفا - لا أخال أنه نال قسطاً يذكر من التعليم أو التدريب - كان ملقباً باسم (جلاتلي ) ، ولا يعرف الكثيرون اسمه الحقيقى ، وانطبع عليه اللقب فهو الشركة نفسها وليس فقط العامل الأساسي في تقنيات الأجهزة وصيانتها في تلك الشركة الفنية .