ما أشبه الليلة بالبارحة ،فالمشهد هنا وسط جبال النوبة المشرئبة للجديد ،المتشحة بالجفاف يعيد الى الاذهان ذكرى أيام مضت ،في مثل ذات الايام من أبريل العام الماضي ،حيث تكرر مشهد احتفاء الحركة الشعبية بتدشين حملتها الانتخابية بولاية جنوب كردفان الفريق عبد العزيز أدم الحلو ،عدة مرات في ولايات السودان الشمالي المختلفة .وكان العرس الكبير حينها في منزل المناضل علي عبد اللطيف ،الذي شهد تدشين الحملة الانتخابية لمرشح الحركة لرئاسة الجمهورية ياسر سعيد عرمان وسط التفاف جماهيري كبير،ضمن ما كان يعرف حينها بحملة «الامل والتغيير»،وهو ذات الشعار الذي ترفعه الحركة بعد عام كامل، كشعار لحملتها في الانتخابات التكميلية لجنوب كردفان.وقائع الاحوال على الارض هنا في كادوقلي حاضرة الجبال تحمل ذات ملامح حملة الامل والتغيير ،ذات الشعارات التي تنادي بالعدالة الاجتماعية وسودان جديد يستهوي الكثير من السكان هنا،للدرجة التي جعلتهم يتدافعون في تظاهرة جماهيرية لاتقل عن تلك التي خرجت لمناصرة عرمان في عرس أمله الذي تبخر . لكن ثمة فوارق كبيرة بين امال تغيير أبريل الماضي وامال أبريلنا هذا ،ففي أبريل الماضي كان الامل ينعقد على سودان جديد واحد ،فيما تأتي حملة عبد العزيز الحلو لتحمل ذات الشعارات لوطن مختلف ، تبخر فيه أمل الوحدة وأضحى طموح الحركة ينحصر فقط في «جبال نوبة» وشمال جديدين بعدما مضى الجنوب لشأنه وذهب معه أكثر من ثلث «السودان الجديد». الطريق الى كادوقلي طويل وشاق ،محفوف بالجفاف والمساحات الشاسعة التي تقطنها الشجيرات وأشباح المساكن ،جنباً الى جنب العطش و«التهميش» والمعاناة ،الجبال المتناثرة على طول الطريق تتساءل هي الاخرى مع شماليي الحركة الشعبية عن حساباتهم وترتيباتهم قبل يناير الماضي وبعده .فلطالما سلك «كومرتات» الحركة الشعبية هذه الطريق الى عروس الجبال التي تحفظ أضابيرها جيداً حساباتهم في ذات الايام من يناير الماضي ،كانت الحركة الشعبية وفقاً لهذه الحسابات ستكتسح الانتخابات وتحكم سودان المليون ميل مربع ولن يتبقى لندهم اللدود «المؤتمر الوطني» سوى طلقة أخيرة هي انتخابات جنوب كردفان المؤجلة حينئذ ،عندها كانت الحركة ستدخل الى المعركة بكل هالة السلطة وطلقاتها ،ليتمسك الوطني ب«قشة» جنوب كردفان وحدها والتي كانت ستقصم ظهر الحزب الاسلاموي بعد عقدين من الحكم حسبما كانت تقول بذلك قراءات «الرفاق» .لكن سرعان ما ذهبت أحلام أبريل «الفين وعشرة» أدراج رياح المحاصصات وحوارات الغرف المغلقة ،لتمضي الامور عكس مايروم «الرفاق» تماماً ،ليستأثر الوطني بجميع «الطلقات» ويبقى الرهان على «طلقة» جنوب كردفان وحدها والتي تخوض بها الحركة معركتها الاخيرة ،معركة بقائها في الشمال بعد أن اختار الرفاق الجنوبيون تكوين دولتهم الجديدة .الا أن انفصال الجنوب لن يُنسي قادة الحركة نضالات أبناء النوبة لاجل السودان الجديد ،حسبما أكد على ذلك جيمس واني ايقا، نائب رئيس الحركة الشعبية والرجل التشريعي الاول في السودان الجنوبي ،والذي أتى برفقة وفد كبير من جوبا الى جنوب كردفان، مشاركاً في تدشين الحملة الانتخابية ،ومؤكداً على أن الحركة الشعبية لم تتخل عن الشماليين رغم الانفصال ،مشيراً الى أن مرشحها عبد العزيز الحلو سيكتسح الانتخابات ،وهو الرهان الذي طرحته ربيكا قرنق أرملة الراحل جون قرنق ديمابيور ومستشارة خلفه سلفاكير ميارديت ،مذكرة أهل الجبال بماقدمه نفر عزيز منهم لاجل السودان الجديد ،قبل أن تصب جام غضبها على المؤتمر الوطني ،محذرة اياه من مغبة تزوير انتخابات جنوب كردفان. بعبع التزوير الذي حذرت منه ربيكا قرنق يخيم كذلك على أرض الواقع هنا في كادوقلي المدينة وساحة المعركة ،التي تعيش حالة من الشحن الكبير بين مناصري طرفي الصراع ،فالتنافس هنا على أشده ،والدوافع كذلك تبدو متقاربة الى حد كبير ،فالوطني والذي رصف شوارع المدينة بصور مرشحه أحمد هارون يسعى جاهداً الى أن يمزق نهائياً فاتورة الشراكة مع الحركة الشعبية في التاسع من يوليو المقبل ليعود الى وضع ماقبل نيفاشا ،فيما ترنو الحركة هي الاخرى الى ابتدار مرحلة جديدة في تاريخها السياسي في ذات اليوم ،في اطار حملة شاملة لتغيير شمال السودان عبر بوابة جنوب كردفان ،حسبما مضى الى ذلك عبد العزيز الحلو الذي كان يتحدث الخميس الماضي وسط الالاف من أنصاره باستاد كادوقلي، مؤكداً على مفصلية الانتخابات لكونها تمثل حجر الزاوية في تنفيذ المشورة الشعبية التي تحدد علاقة الولاية بالمركز، قبل أن يخيره بين اللامركزية الكاملة و الحكم الذاتي وهما الخياران اللذان يمثلان «الطلقة» الاخيرة التي تبقت في جعبة الحركة في اخر محطاتها في ماتبقى من السودان ،وهو مايعتبره كثيرون خياراً صعباً وعسيراً ،فالحركة ليس أمامها سوى أن تنتصر أو تنتصر لتبقى في شمال السودان ،وهو نصر يرى الحلو أنه قريب بعد توفر شروطه المتمثلة في اكتمال الترتيبات لقيام انتخابات حرة ونزيهة.وان كانت الانتخابات اخر «طلقات» الحركة في معاركها السياسية ،فان حقائب جناحها العسكري «الجيش الشعبي» مكتظة باكثر من طلقة ،يبدو أن الحركة تدخرها ليوم ما ربما يأتي قريباً وفق تحذيرات قادتها للمؤتمر الوطني والتي تفيد بانه ليس هنالك من خيار سوى النصر والا فان دماء كثيرة ستنحدر من أعالي الجبال لتغمر المركز ،حالما قام الوطني بتزوير الانتخابات ،كما حذر من ذلك عبد العزيز الحلو ،مبيناً أن السودان باكمله ينتظر فرصة التغيير الاخيرة التي ستنطلق من جنوب كردفان ،مشيراً الى أنها الفرصة الاخيرة قبل أن يطالب الخرطوم بان تصغي جيداً لمطالب الجبال لانها ان لم تستمع لها فستسمع هديراً اخر سيمحي السودان من على الخارطة. الحلو والذي امتدت فعاليات تدشين حملته الانتخابية الى ساعات متأخرة من الليل بدا واثقاً من الفوز ،وهي الثقة التي عضدتها حسابات الارض والضبط الصارم للسجلات الانتخابية التي نبعت من سجلات احصاء سكاني جديد وما الى ذلك ممايرى مناصرو الحركة هنا أنه سيقودهم الى فوز كاسح على المؤتمر الوطني ،لكن المؤتمر الوطني يلعب خارج صناديق الاقتراع التي ينتظر أن تفتح في الثاني من مايو القادم ،وهي لعبة يرى كثيرون أنه من شأنها أن تجعل الحركة تطلق اخر طلقاتها في الهواء لتغادر محطتها الاخيرة في السودان الشمالي ،مشيرين الى أن محاصصة ما تدور في الخفاء بين قيادة الحركة الشعبية و المؤتمر الوطني قد تخرج معركة «الجبال» ،من السجلات الانتخابية الى فضاء المحاصصات وهو الامر الذي يمكن أن يكون على ذات طريقة «الانفصال مقابل الانتخابات» عبر كرت أخر هو نزاع أبيي الذي يمكن أن يطرح على الطاولة مقابل أن تغادر الحركة الجبال للمؤتمر الوطني ،وهو الخيار الذي استبعده الحلو في حديثه ل«الصحافة» مشيراً الى أن معركة جنوب كردفان منفصلة تماماً ولاتخضع لاي مساومات. [email protected]