شاهد بالفيديو.. قائد كتائب البراء بن مالك في تصريحات جديدة: (مافي راجل عنده علينا كلمة وأرجل مننا ما شايفين)    تسابيح خاطر    شاهد بالفيديو.. الفنان الدولي يدخل في وصلة رقص مثيرة مع الممثلة هديل تحت أنظار زوجها "كابوكي"    شاهد بالصورة.. المذيعة المغضوب عليها داخل مواقع التواصل تسابيح خاطر تنشر صورة حديثة وتسير على درب زوجها وتغلق باب التعليقات: (لا أرىَ كأسك إلا مِن نصيبي)    شاهد بالصورة.. المذيعة المغضوب عليها داخل مواقع التواصل تسابيح خاطر تنشر صورة حديثة وتسير على درب زوجها وتغلق باب التعليقات: (لا أرىَ كأسك إلا مِن نصيبي)    شاهد بالفيديو.. الفنان الدولي يدخل في وصلة رقص مثيرة مع الممثلة هديل تحت أنظار زوجها "كابوكي"    شاهد بالفيديو.. الفنانة مروة الدولية تعود لإثارة الجدل..تحضن زوجها وتدخل معه في وصلة رقص رومانسية وهي تغني: (حقي براي وملكي براي بقتل فيه وبضارب فيه)    إنتر ميلان يطيح ببرشلونة ويصل نهائي دوري أبطال أوروبا    الهند تقصف باكستان بالصواريخ وإسلام آباد تتعهد بالرد    برئاسة الفريق أول الركن البرهان – مجلس الأمن والدفاع يعقد اجتماعا طارئاً    إستحالة تأمين العمق الداخلي سواء في حالة روسيا او في حالة السودان بسبب اتساع المساحة    والي الخرطوم يقف على على أعمال تأهيل محطتي مياه بحري و المقرن    ترمب: الحوثيون «استسلموا» والضربات الأميركية على اليمن ستتوقف    اعلان دولة الامارات العربية المتحدة دولة عدوان    عادل الباز يكتب: المسيّرات… حرب السعودية ومصر!!    الأهلي كوستي يعلن دعمه الكامل لمريخ كوستي ممثل المدينة في التأهيلي    نائب رئيس نادي الهلال كوستي يفند الادعاءات الطيب حسن: نعمل بمؤسسية.. وقراراتنا جماعية    مجلس الإتحاد يناقش مشروع تجديد أرضية ملعب استاد حلفا    من هم هدافو دوري أبطال أوروبا في كل موسم منذ 1992-1993؟    "أبل" تستأنف على قرار يلزمها بتغييرات جذرية في متجرها للتطبيقات    وزير الطاقة: استهداف مستودعات بورتسودان عمل إرهابي    أموال طائلة تحفز إنتر ميلان لإقصاء برشلونة    قرار حاسم بشأن شكوى السودان ضد الإمارات    بعقد قصير.. رونالدو قد ينتقل إلى تشيلسي الإنجليزي    ما هي محظورات الحج للنساء؟    شاهد بالصورة والفيديو.. بالزي القومي السوداني ومن فوقه "تشيرت" النادي.. مواطن سوداني يرقص فرحاً بفوز الأهلي السعودي بأبطال آسيا من المدرجات ويخطف الأضواء من المشجعين    توجيه عاجل من وزير الطاقة السوداني بشأن الكهرباء    وقف الرحلات بمطار بن غوريون في اسرائيل بعد فشل اعتراض صاروخ أطلق من اليمن    الأقمار الصناعية تكشف مواقع جديدة بمطار نيالا للتحكم بالمسيرات ومخابئ لمشغلي المُسيّرات    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حوار قضايا السلام
السودان على حافة تقرير المصير أو الوحدة (3)
نشر في الصحافة يوم 13 - 04 - 2011


ترجمة: سيف الدين عبد الحميد
أصدر الدكتور فرانسيس دينق مساعد الأمين العام للأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية،ووزير الدولة للخارجية الأسبق مؤخرا كتابا جديدا موسوم ب «السودان على الحافة» يحمل رؤى حول مشاكل الوحدة والانفصال والهوية السودانية ، وقضايا المهمشين، وتترجم «الصحافة» الاصدارة وتنشرها تعميما للفائدة..
ذهبت وبونا ملوال إلى أديس أبابا لنلتقي بدكتور جون قرنق دي مابيور زعيم الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان للتفاكر حول التطورات في البلاد والمنطقة، وكان ذلك في شهر سبتمبر 1989م بعد أقل من ثلاثة أشهر من استيلاء تحالف الجبهة الإسلامية القومية والعناصر الاسلإمية داخل الجيش السوداني على السلطة في 30 يونيو 1989م باسم ثورة الانقاذ الوطني. وقد قررت وفقاً لمبدئي القائم على التواصل مع كل الأحزاب أن أغادر إلى الخرطوم بعد زيارتنا إلى أديس أبابا وذلك بغرض اللقاء بالقيادات الجديدة والتشاور معها، وقد عارض أهلي وأصدقائي هذا القرار بشدة ولكنني أصررت على الذهاب إلى الخرطوم. لقد دُهشت كثيراً بالحفاوة التي تم بها استقبالي لأنني ما كنت أعرف الكيفية التي سيتم بها استقبالي، فمن خلال المساعي الحميدة للعقيد مارتن ماكويل ملوال ثالث ثلاثة جنوبيين أعضاء في مجلس قيادة الثورة التقيت بالفريق عمر حسن البشير قائد الثورة، وفي الحقيقة التقيت بكل أعضاء مجلس قيادة الثورة، بل منحت بناءً على طلبي إذناً لزيارة أعضاء الحكومة السابقة الذين كانوا معتقلين في سجن كوبر آنذاك وهم يشملون السيد الصادق المهدي والسيد محمد عثمان الميرغني ود. حسن الترابي الذي برز للمفارقة زعيماً روحياً للثورة.
لقد وصلت الخرطوم مع انعقاد المؤتمر القومي لقضايا السلام وأخبرت أن الدعوة كانت على وشك أن ترسل لي في واشنطن للمشاركة في المداولات. ولما كان عليّ أن أعود لمواصلة المهام في الولايات المتحدة لم استطع البقاء في الخرطوم ولكن طلبوا مني أن أخاطب المؤتمر. ورغم أني أوضحت أنني هنا لأعرف ما يدور ولم تكن لديَّ فكرة كافية لأدلي بإفادة، لكن العقيد مارتن ملوال وزملاءه شجعوني على الحديث كيلا يفسر صمتي بأنه معارضة. وقررت مع قبول الدعوة أن أقول الحقيقة كما أراها بكل أدب ولكن بكل قوة، وتلا ذلك أن استنسخت إفادتي للمؤتمر الموثقة في الشريط. ويجب فهم مادة البيان ولغته في سياق التوقيت وهو مرحلة أولية بأقل من ثلاثة اشهر للحكومة الوليدة التي كانت سياساتها وصبغتها إسلامية لكنها لم تبلور بعد. وكان عليّ أن أقول آنذاك اأ الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان ما زالت موحدة خلف هدف سودان جديد، فالاتجاه الانفصالي لم يبرز بوضوح حتى حدوث انشقاق رياك مشار ولام أكول وغوردون كونق في أغسطس 1991م، بل إن مطلب تقرير المصير الذي أصبح فيما بعد موضوع إجماع في الجنوب أتى لاحقاً ولم تتخلَّ الحركة الشعبية لتحرير السودان عن دعوتها لسودان جديد مؤسس ديمقراطياً. وما كان له أن يصبح أكثر بلورة هو أن الجنوب ونتيجة لاتفاقية السلام الشامل منح الآن حق تقرير المصير ليمارس من خلال استفتاء يشمل حق الانفصال ولكن فقط بعد بذل الجهود لجعل الوحدة خياراً جاذباً للجنوب.
وأنا لوحدي كنت أرى دائماً ثلاثة خيارات متاحة، هي:
الوحدة على أساس سودان جديد أو شكل من التعايش السلمي يحاول التوفيق بين الوحدة والانفصال أو الانفصال الصريح. ويجب أن أقول إن أزمة الهوية القومية التي ظلت موضع اهتمام كبير في الأعوام الأخيرة ستظل باقية أياً كان الخيار المعتمد، فالشمال بحكم تركيبته خاصة فيما يتعلق بالثنائية العربية/ الافريقية سيتحتم عليه التعامل مع هويته ذاتها حتى ولو انفصل الجنوب. وبالنظر الى الأعداد الكبيرة من شماليي المناطق الجنوبية الذين ظلوا مغلقين بدرجات متفاوتة ولكنهم سيُغرَون إلى الخروج إذا نجح الجنوب في إظهار صورة أكثر احتراماً واعترافاً بها فليس من المرجح حتى للانفصال أن يقلل درجة روابط القربى والروابط الثقافية التي تربط شطري البلاد والتي هدف العداء الطويل إلى تعتيمها. إذن يجب أن تعطي فكرة أكثر جدية للعلاقة مما يريد أن يفعل السودانيون على كلا الطرفين، فربما بهذه الروح يجب أن تكون الرسالة المطلوبة لتطوير وتعزيز طار هوية قومية موحد عنصراً مهماً في النقاش الجاري حول مستقبل البلاد حتى بعد الاستفتاء الجنوبي. ففكرة الوحدة المتجاوزة للانفصال تصبح ذات صلة في هذا السياق.
كان هذا هو جوهر إفادتي لمؤتمر الحوار القومي لقضايا السلام في الخرطوم في سبتمبر 1989م، وقد أعدت إخراج النسخ في أجزاء ذات عناوين فرعية بارزة لتسهيل القراءة للقارئ ولخلق ترابط للبيان في سياق البحث عن السلام والوحدة في البلاد.
الامتنان للاستقبال الحار:
أود أن أقول في بداية ملاحظاتي كم أنا مقدرٌ أن أجد نفسي وأنا في زيارة عابرة مدعواً لا للمشاركة في محادثات المؤتمر فحسب بل أن تعطي إليّ الفرصة لمخاطبة الحشد في هذه المرحلة من مداولاتكم. هذا بوضوح هو الحال لأن عليّ أن أعود راجعاً إلى الولايات المتحدة ولذا لن أشارك في عمل المؤتمر، ويجب أن أقول وأؤكد على ما قلته لوسائل الإعلام حين كانت المناسبة وهو أن هدفي من المجيء إلى هنا كان ذا طبيعتين مزدوجتين، إحداهما كانت منسجمة مع العمل الذي أقوم به في معهد بروكينغ باعتباري شخصاً أوكل إليه تأسيس برنامج الدراسات الإفريقية الذي لم يكن موجوداً هناك من قبل، ولكن لكوني سودانياً أيضاً تجدني مهتماً أيضاً بشؤون بلادي وقد جعلت من دراسة مشاكل السودان جزءاً من أولوياتي المهنية. ولذا كان قصدي بالنظر إلى المتغيرات التي مرت بها بلادنا في الآونة الاخيرة أن آتي وأطلع على التطورات واتحدث مع قادة ثورة الانقاذ الوطني ومع المواطنين العاديين وأن أراقب الوضع لانوِّر نفسي واتزود بصورة أفضل لكي أنفذ بحثي حول أوجه بناء الدولة المختلفة في بلادنا وأنفذ جهودي في البحث الجاري عن السلام.
لقد وجدت من هذه الزيارة شيئاً أكثر مما كنت اتوقع في أنني استقبلت استقبالاً حاراً وعلمت الكثير سلفاً، فقادة الثورة فتحوا أبوابهم وقلوبهم ليضعوني في الصورة فيما يتعلق بتفكيرهم والجهود المبذولة.
ويمكن أن أقول إنني كنت أكثر حكمة بفضل الأيام القليلة التي قضيتها هنا مما كنت عليه لدى وصولي. وبهذه الخلفية تجدني ممتناً امتناناً واضحاً للفرصة التي جعلتني جزءاً من هذه اللحظة التاريخية. إن البحث عن السلام يعتبر تحدياًلنا جميعاً نحن السودانيين حيثما كنا، سواءً أكنا في الحكومة أو خارج الحكومة أو حتى خارج البلاد.
واعتقد لمعرفتنا بالسودانيين أنه يجب أن نزعم ما لم يثبت العكس أن أي سوداني ملتزم بمصالح البلاد وبالمساهمة بكل ما يمكنه أو يمكنها لتحقيق الأهداف القومية وبالأخص قضية السلام والوحدة.
منظور شخصي حول الوحدة:
دعني استميحكم وأنا اتحدث عن قضية السلام والوحدة أن أقول كلمة شخصية حول ما يعني إليّ هذا، فوحدة السودان بالنسبة لي ليست ببساطة قضية تفكير شخصي أو قرار شخصي مبنية على بعض المعلومات التي حصلت عليها خلال فترة تعليمي وتفاعلي مع السودانيين الآخرين، كلا إنها قناعة متجذرة بعمق وعقيدة تعود إلى خلفيتي، فبدون أن أجعل هذه القضايا القومية شخصية جداً فلن استحيي أن أقول إنها ترجع إلى إرث أسرتي. فأنا من منطقة أبيي الحدودية بين الشمال والجنوب ومن أسرة باتت لعدة أجيال تقود قضية التفاعل السلمي الإيجابي بين مختلف أهل السودان شمالاً وجنوباً، عرباً ودينكا وهي تعزز شعوراً من الوحدة والتعاون في ترقية المصالح المشتركة في ملتقى الحدود الشمالية والجنوبية الحساسة. فجهودهم إلى حدٍّ ما قدمت طريقة بسيطة ولكنها مهمة داخل الصورة الأكبر للوحدة الوطنية. فأنا متأكد أن بعضكم إن لم يكن كثيراً منكم قد سمعوا بأسماء أشخاص مثل الناظر الراحل دينق مجوك وهو والدي الذي حافظ مع صديقه وجاره الناظر الراحل بابو نمر ناظر عرب المسيرية على السلام والاستقرار في منطقة واسعة وذات حساسية وتقلبات حيث تلتقي القبائل الرعوية وتتفاعل ولا تهدد كثيراً بانفجار الصراعات. ورغم أننا في الحقيقة لا نميل لرؤية الكيفية التي ساهم بها هؤلاء الأشخاص بالطرق المختلفة في بناء أمتنا وفي استقرار البلاد لكن اعتقد أنهم أعطوا الأمة قاعدة أساسية يجب أن ننظر إليها باعتبارٍ جاد. فربما كان بسبب خلفيتي الشخصية أو بسبب اهتماماتي الأكاديمية التي بدأت بدراسة القانون إلا أنها أصبحت باضطراد اهتمامات تاريخية وآنثربولوجية وسوسيولوجية رأيت من المناسب أن نتعلم من هذه التجارب وهي تجارب عززت من رؤيتي للأمة. ويمكن أن أزعم أن جزءاً من اهتمامي الأكاديمي الذي عززته مهنتي لا في الداخل فحسب بل في الخارج أيضاً كان له أن يتعاطى مع مثل هذه الدراسات، وبعضكم رأى الكتابين: «ذكريات بابو نمر» و»رجل يدعى دينق مجوك» اللذين يعكسان في جوهرهما مساهمة القيادة في القواعد. لذا عندما اتحدث عن الوحدة الوطنية فإنني أعنيهما بمعنى عميق وشخصي يعود إلى جذوري وللأجيال في داخل أسرتي.
منظور الحركة الشعبية والجيش الشعبي حول الوحدة:
دعوني الآن مع تلك المذكرة الشخصية أن أدلف إلى ما أنا واثق من أن له اعتباراً كبيراً في أذهانكم ألا وهو كيف أن إخواننا وإخواتنا على الجانب الآخر يرون قضية الوحدة، وأعني بهؤلاء الإخوان بالطبع أولئك الموجودين في الحركة الشعبية والجيش الشعبي. فنحن كثيراً ما نسمع السؤال الذي يقول: »ماذا يريد جون قرنق؟« وفي بعض الأوقات يتسع السؤال ليقول: »ماذا تريد الحركة الشعبية والجيش الشعبي؟« فوجهات نظرهم عُكست بعدد من الطرق في الوثائق بل وفي الكتب، وقطعاً لا يجوز لي أن اتحدث نيابة عنهم، ولكن مجرد طرح السؤال يعني أنهم مهما قالوا لتفسير وجهة نظرهم فإن الرسالة لم يلتفت إليها. وكما يعلم بعضكم فإنني شاركت في عملية السلام محاولاً تسهيل الاتصال بين الأطراف المختلفة، في الوقت الذي أقوم فيه بأكثر من دور الساعي أملاً في تعزيز أساس مشترك وتضييق الفجوة.
واعتقد من وجهة النظر هذي أنني يمكن أن أجازف لتقديم بعض الملاحظات التي أفهم بناءً عليها إخواننا الذين حملوا السلاح للنضال من أجلها. واعتقد على الأقل بقدرما يتعلق بأخينا جون قرنق قائد الحركة »ويجب أن أقول اإني أجريت مناقشات مكثفة معه« فليس هناك شك في التزامه بالوحدة الوطنية، فأنا مقتنع جداً بذلك، كما أنني متأكد ليس هناك أجندة خفية لدهشة الجميع، فالكثيرون يظنون أن الحديث عن وحدة البلاد هو إطار تكتيكي أو حتى استراتيجي قد تنفذ داخله أهداف إقليمية محدودة. دعوني اتجاوز الشخص الأخ جون قرنق وأخبركم بشيء عما اعتقد أنه التزام أوسع نطاقاً بالوحدة، وأعود مرة ثانية إلى اهتماماتي الدراسية، فيجب أن أقول إنني كنت في الآونة الأخيرة استمع بشدة لأغاني الحركة الشعبية الحربية. وأنا أعرف أن كثيراً من زملائي من القانونيين وعلماء السياسة الآخرين ربما يظنون أن مصادر المعلومات التقليدية هذي يمكن أن تنبذ باعتبارها غير مفيدة لفهم القضايا الجوهرية للحرب والسلام.
ولكن إذا عرف المرء شيئاً عن وظيفة الأغاني في المجتمع التقليدي وإذا عرف المرء أيضاً شيئاً عن المدى الذي بني الجيش الشعبي فيه على بعض القيم والعادات الثقافية التقليدية، فسيعلم أن الأغاني تعتبر مصدراً مهماً جداً للتعبير عن الوعي الفردي والجماعي. فالأغاني الحربية ربما يؤلفها الشعراء وبالتالي يمكن أن تصنف بطابع فردي بيد أنها تعبِّر عن تجارب مشتركة ولذا تصبح جماعية الطابع.
لقد لاحظت في أغاني الجيش الشعبي حيث استمعت لها كثيراً أن هناك تحولاً في نظرة المحاربين والمحاربات ومعظمهم جنوبيون. ففي الماضي كان الجنوبيون عموماً مشهورين بالقتال سعياً وراء الطموحات الإقليمية ويمكن أن تلبي طموحاتهم بترتيباتٍ تمنحهم إدارة فاعلة على المستوى الإقليمي. وهذا ما تم تحقيقه بموجب اتفاقية أديس أبابا، ولكن أحسست في هذه الاغاني نصاًوروحاً ً استراتيجياً نحو رؤيةٍ قومية، ولم تعد هذه الرؤية تتحدث عن أرض الجنوب كما حددتها الحدود السابقة بل تتحدث عن البلاد كلها. وبالحديث عن البلاد فإن هذه الأغاني السودانية لا تعرَّف السودانيين بتعريفات الماضي المحدودة ولكن بمعايير جديدة تستوعب أي سوداني باعتباره أخاً أو أختاً. وخلف هذه النصوص والروح التي تعبِّر عنها الأغاني هناك إحساس بالتمكين والثقة وبالمصير فهم يؤمنون بأنهم سيحققون هذه الأهداف القومية. والوجه الآخر لهذه الأغاني التي وجدتها جديرة بالملاحظة هو التناوب من اللغات القبلية إلى اللغة العربية وبالعكس. ففي بعض الأوقات تبدأ الأغنية بجملة عربية وسرعان ما تمضي إلى لغة محلية وأحياناً وبدون أي سابق إنذار ترتد إلى اللغة العربية. وفي بعض الاأقات ربما تكون كل الأغنية بالعربية وأحياناً تتناوب جملة إثر جملة أو كلمة تقحم في مكان ما، والكلمات التي تقحم قد تكون محلية أو عربية. وما توصلت إليه هو حيوية التخيلات السودانية لتلك الكلمات باعتبارها وجهاً من أوجه الثقافة المشتركة سواءً كنا نتحدث عرقياً أو ثقافياً أو لغوياً، وبمعنى من المعاني إن واقع السودان يتم التعبير عنه بصورة متواضعة بيد اأها صورة رمزية ذات دلالة. ومرة ثانية اعتقد أن الجنوبي قد غيَّر رؤيته وحرَّر نفسه من الانحيازات المحلية التي لها علاقة باللغة وهو يتطلع بطريقة دينامية نحو رؤية قومية تستوعب التنوعات حتى لو كانت اللغة المضمنة هناك ليست الأكثر تمثيلاً فيما يتعلق بالأشكال التقليدية.
فماذا يستنتج المرء من هذه الملامح ملامح النماذج الكمالية للجيش الشعبي سواءً في كتاباتها أو خطاباتها أو أغانيها؟ اعتقد أنها تعني أن هناك تحولاً مدهشاً يجب أن نأخذه بصورة أكثر جدية مما نفعل عندما نتحدث عما إذا كان على المشكلة أن تحدد بحسبانها جنوبية أو إقليمية أو قومية. فعندما نسمع عن الاختلافات في الرأي حول ما إذا كنا نناقش مشكلة جنوبية أو مشكلة قومية أشعر بأني مقتنع أن الموضوع ليس موضوع دلالات لفظية بل موضوع رؤية استراتيجية للمشكلة. وبناءً على كيفية تصورك للمشكلة فإن معالجتك لها وتحليلك واستنتاجاتك وبالتالي حلولك ستتأثر بعمق بهذه الكيفية. وأنا أسلم بأن التحول الاستراتيجي من النظر إلى المشكلة باعتبارها مشكلة جنوبية محلية إلى النظر إليها باعتبارها مشكلة قومية له آثار عميقة، فهو تحول مهم جداً للسياسات التي نتبناها وأنواع الحلول التي نطورها. وقد يكون أيضاً أن أية طريقة نبدأ بها تحليلنا أو أينما بدأ منظورنا فربما ننتهي إلى رؤية الصورة كلها، لأنه حتى لو نظرنا إلى المشكلة باعتبارها إقليمية فإن أثرها أقومياً. ولكن اعتقد أن النظر إليها باعتبارها إقليمية أو قومية له تداعياته الخاصة.
تحدي الحركة الشعبية والجيش الشعبي للدولة:
إن ما قلته يعكس لنا أشياء كثيرة من الناحية الإيجابية والناحية السلبية حيال التحدي الذي يواجهنا. ففي المنحى الإيجابي أرى من المهم أن ندرك أننا قطعنا شوطاً طويلاً في صياغة مفهوم للوحدة الوطنية والعمل باتجاهها، كما اعتقد أنه تطور كبير أننا لا نسمع عن الانفصال جزءاً من الأجندة الجنوبية وهذا يعني أننا على الأقل وحّدنا رؤيتنا لصالح الوحدة الوطنية. وهذا بالتأكيد شيء إيجابي أما الشيء السلبي هو أن الرؤية الآتية من تلقاء الحركة الشعبية والجيش الشعبي هي رؤية تهدد المؤسسة لأنها تتحدانا في أن يكون لدينا إعادة اختبار جوهرية لرؤيتنا لبلادنا ومستقبلها.
وعندما اتحدث عن الرؤية الآتية من تلقاء الحركة الشعبية والجيش الشعبي إنما أريد حقيقة أن أؤكد على أن ما نسمعه سواءً في كتاباتهم أو في أغانيهم وأن ما نعرفه حول طبيعة الصراع ومن الذي يخوض الحرب في الجنوب يشير كله إلى أننا يجب ألا ننظر للقيادة بمعزل عن الجماهير. فالقيادة ترأس حركة ذات قاعدة واسعة تعكس انفجاراً يضم الكثير الكثير من الشباب من المدارس العليا والجامعات من الذين يئسوا ولجأوا إلى استخدام السلاح نتيجة للتجربة الطويلة من المظالم المتجذرة. وهذا نتيجة لوضع لم يروا فيه أية بدائل سلمية واعدة، فهؤلاء الناس يعيشون تحت ظروف ليست سهلة بأقل ما يقال، ولكن صراحة أن اولئك الذين التقيت بهم خلال زياراتي اإى أديس أبابا وجدتهم يرون أن هناك معنىً جديداً من الإنجاز في كفاحهم، معنى الكرامة في نضالهم لشيء يؤمنون به ومضحين بالكثير من أجل قناعاتهم. ومن المهم أن أؤكد على أن الطاقات الضخمة لمئات الآلاف من الشباب الذين يشكلون مصدراً كامناً لإعادة البناء نجدها تستغل في التخريب لأن هذه هي الطريقة الوحيدة التي يجدونها للتعبير عن كرامتهم. ماذا يعني هذا؟ يعني أن هناك بالتحديد تهديداً للطريقة الراسخة للتعامل مع الأشياء، فعندما يحمل أناس السلاح ويقولون إن الكلام لم يتمخض عن نتيجة، فهذا يعني أنهم يئسوا وفقدوا الأمل في الحلول السلمية للمشاكل. والجنوبيون حملوا السلاح برؤية تهدف إلى مراجعة شخصية الدولة، فتوجههم يقول إنه بتغيير النظام على المستوى القومي يمكن لهم أن يضمنوا الإنجاز الهادف لطموحاتهم على المستوى الاقليمي، فهم أصبحوا سلفاً يشكلون تهديداً وتحدياً حقيقياً. وهذا هو السبب الذي يجعل المرء يلتقي بكثير من الشماليين من ذوي النوايا الحسنة بل بأناس تجدهم من ناحية أخرى ليبراليين وذوي عقول راجحة وفجأة يسألونك السؤال التقريري: من الذين يريد قرنق أن يحررهم؟ أو: من هم الذين يتوقع أن يحكمهم؟ هناك شيء ذو طابع شقاقي عميق في قولنا: من الذين يريد فلان وعلان أن يحكمهم؟ لكن التهديد هو رد فعل آتٍ من تلك القوى الملتزمة التزاماً قاطعاً بتغيير شخصية أمتنا.
فإذا أخذنا هذين الموقفين معاً: الموقف الإيجابي فيما يتعلق بالالتزام بالوحدة الوطنية والموقف السلبي فيما يتعلق بتهديد نظام الأشياء الراسخ، فسنجد تحدياً يدعو قادتنا أن يعترفوا بشكلٍ أساس بالمشكلة والحاجة لحلول جديدة أو ما يسميه قادة ثورة الإنقاذ الوطني «حلاً جذرياً». فبالنظر إلى الرؤية المشتركة التي أوضحت في بيانات الحركة الشعبية والجيش الشعبي وما سمعناه الآن من بيان لقادة ثورة الإنقاذ الوطني يبدو لي أن هذين العاملين الإيجابي والسلبي يمكن التوفيق بينهما. ويمكن لنا أن نتسامى على المواجهة التي تأتي من ردِّ فعلٍ على تهديد إلى رؤية مشتركة وموقف مشترك في تعزيز شكلٍ للسودان يمكن أن نتماهى فيه جميعاً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.