آسيا محمد توم .. هويدا محمد علي.. التومة شرفي.. آمنة جبريل.. زهرة البشاري.. مدينة سليم.. أم سلمة عبد الله.. حنان آدم.. أسماء لم تكن ليجمع بينها الا ذلك الصرح التعليمي، ليقمن فيه بأعمال التنظيف وفق ما اقتضته ظروف الحياة. وفي كلية الدراسات الزراعية وجدن ما يبحثن عنه.. عمل يوفر لهن مكسب الرزق الحلال ولقمة العيش الهنيئة. ولكن أقدار الله كانت كفيلة بأن تجمع بينهن في ذلك اليوم الذي بدأ عادياً لا يختلف عن سابقه في شيء قبل أن تشرع العاملات في أداء عملهن اليومي. وفي تمام التاسعة من صباح الاربعاء التاسع من الشهر الحالي، وداخل معمل الأنسجة، لم يكن اكثر المتشائمين يستطيع ان يرسم ما يمكن ان يحدث من تطور اللحظات القادمة داخل غرفة المعمل الذي التصقت بارضيته بعض مواد الطلاء والاسمنت. وشرعت العاملات الثماني في تنظيفه باستخدام منظف «فلاش» امريكي لنزع ما التصق بالارضية من مواد البياض والطلاء، ولكن ما هي الا نصف ساعة من الزمن ليتحول الهدوء الي جو من الارتباك بعد تعرضهن الى حالات اختناق وسعال مستمر، قبل أن يتم إسعافهن إلى وحدة الكلية ومن ثم الى مستشفى بحري لتلقي العلاج، لتصبح تلك الدقائق هي الفاصل ما بين الصحة والاعتلال. ويفيدني مسؤول الأمن والسلامة بالكلية، الشيخ احمد سليم، بأنه وفي تمام التاسعة من صباح الاربعاء، اعطيت المادة للعاملات ليستخدمنها في عمليات النظافة بالمعمل «مع العلم بسميتها»، وقال «وما هي الا دقائق معدودات حتى دخلت العاملات فى حالات تسمم حاد ادى الى استفراغهن دماً»، ليتم اسعاف المصابات على الفور الى مستشفى الخرطوم بحري التعليمي لتلقي العلاج بعد استخراج اورنيك «8» من القسم الاوسط بحري. واتهم الشيخ إدارة الكلية بالتقصير الإداري بتوجيهها لعاملات أميات لا يجدن القراءة والكتابة، باستخدام هذا المنظف، لأن المحاذير مكتوبة على المنظف من الخارج، هذا إلى جانب أنهن استخدمنه بدون أدوات السلامة ووضع كمامات. وقال إنه تم فتح بلاغ بالرقم «151» تحت المادة «44» إجراءات. لتأتي جامعة السودان وبعد خمسة أيام بخبر تنفي فيه حادثة تعرض العاملات بالكلية الى عمليات التسمم. وذكرت أنه اثناء قيامهن بعملهن تضايقت بعض العاملات من رائحة المنظف، ولم يتساقطن او يغمى عليهن، بل ذهبن الى الوحدة العلاجية بالكلية بأرجلهن، واجريت لهن الاسعافات الضرورية من كوادر الوحدة، قبل أن تتم احالتهن الى مستشفى بحري للاطمئنان فقط، وخرجن من المستشفي بعد بضع ساعات ليباشرن عملهن صبيحة اليوم التالي، كما تم تقديم العلاج لهن بالمستشفى بدون استخراج اورنيك «8»، ثم باشرت معظم العاملات عملهن صبيحة اليوم التالي، وزاولن واجباتهن في اليوم التالي بصورة عادية. وبعدما ورد من خبر الجامعة ذهبت «الصحافة» الى الحديث بدقة اكثر عن تفاصيل الواقعة مع عاملات المستشفى اللاتي فضلن حجب اسمائهن خوفا من فصلهن عن العمل. وبعد أكثر من عشرة أيام تقول إحدى العاملات: «مازلت أشعر بمرارة في حلقي من أثر ذلك المنظف»، وتمضي في سرد التفاصيل قائلة: «كنا ثماني عاملات داخل معمل الانسجة، وطلب منا تنظيف معمل الأنسجة بمادة نستخدمها لاول مرة، حتى أن المسؤولة كانت قد قالت لنا إن المنظف امريكي، وانها لن تعطينا له، وانما ستسكب لنا المقدار الذي يكفي للنظافة. وداخل المعمل الذي لا تعمل به مكيفات ولا مراوح وكل نوافذه مغلقة تماما، بل حتى ان المسؤولة لم تعطنا ادوات تنظيف، فاضطررنا الى استخدام الحجارة وقطع الزجاج، ولكن وقبل اكتمال التنظيف بدأت احس بحساسية في الجلد وسعال مستمر، الى ان قالت لنا احدى العاملا ت معنا إن هذا الامر قد زاد وعلينا الخروج ووقف العمل. وعند وصولنا الى بوابة المعمل ازداد الحال صعوبة بتعرضنا الى ضيق في النفس «اختناق» وفي الوحدة الصحية للكلية قال الطبيب المعالج إنه لا يوجد بالوحدة اوكسجين ولا حقن حساسية، وكانت الحالة تسير في صعوبة بلغت درجة ان «استفرغنا دما». وهنا طلب احد المسؤولين بالكلية نقلنا الى مستشفى بحري بحافلة نقل، وعند بوابة المستشفى كنا كمن فقد الوعي، وتم ادخالنا الحوادث عبر نقالات، وتم اعطاؤنا محاليل «دربات» واوكسجين، وظللنا بالمستشفى حتى الخامسة مساءً، ومن ثم صرفت لنا علاجات قبل خروجنا من المستشفى «حبوب حساسية ودواء لطرد البلغم»، ولم نستطع الذهاب للجامعة إلا يوم الأحد. ومن تاريخ إصابتنا وحتى الآن لم نستطع معاودة نشاطنا والعمل، لعدم مقدرتنا، فمازالت هناك اعراض فتور وتعب. ولم يتم منحنا راحة رغم أني لا استطيع الأكل، وعند شرب أي شيء أشعر بمرارة في الحلق». وفي حديث مشابه تحدثت إلينا اخرى قائلة إنها في اليوم الأول بدأت تشعر بحساسية في عيونها، ومن ثم اخذ جسمها ينتابه احساس بالخدر وسعال متواصل وصعوبة في التنفس. وقالت: «بعد خروجي من المستشفي لم انم يومها»، وتقول أخرى إنها شعرت باختناق. وبخلاف ما أوردته الكلية تحدثت الينا احداهن فقالت: «ان المعمل لا توجد بة اية منافذ تهوية بخلاف الباب الوحيد، وحتي النوافذ الموجودة فهي مغلقة على الدوام ولا تستخدم للتهوية». وعن وصفها للحالة التي تعرضن لها تقول: «شعرت باختناق وسعال متواصل، وعند اسعافي للوحدة الصحية اعطيت جرعة تنفس صناعي «اوكسجين» ولكنه لم يعالج اعراض الاختناق والسعال، ليتم اخذنا الى المستشفى». وتضيف: «في الطريق شعرت برجفة شديدة «وطمام» ولم يتم استلامنا إلا بعد استخراج أورنيك «8»، ولم استطع مواظبة العمل إلا صباح الاحد بعد اكثر من ست ساعات قضيناها بالمستشفي، قبل ان تستقر حالتنا حوالي الثالثة مساءً، الا ان احدانا تم حجزها الي صباح اليوم التالي، وذلك لاجرائها عملية قسطرة بالقلب من قبل. وحاليا اتناول علاجات وادوية لتفتيح القصبة الهوائية ودواء طارد للبلغم». وكانت «الصحافة» قد علمت بأنه تم توقيف مسؤول الأمن والسلامة بالكلية الذي تبنى قضيتهن، ولكن هذه الخطوة مثلت مصدر خوف ورهبة لدى بعض العاملات ليتراجعن عن حقوقهن خوفا من فصلهن وتوقيفهن عن العمل.. ليجري له تحقيق من قبل مجلس محاسبة عن تصريحه باسم وحدة الأمن والسلامة. وأنه أخبر بالواقعة بدون الرجوع اليهم حتى يعبر بلسان حالهم. وعن امر توقيفه يقول: «ان ذلك تم بطريقة خاطئة من قبل ادارة الأمن والسلامة، بدون الرجوع إلى إدارة شؤون العاملين الجهة المسؤولة». ولكن ها هي الأحداث تمضي وتتطور إلى أبعد من تسمم عاملات وتوقيف موظف، لتصل الى مستوى مساومات ما بين الوظيفة وشطب البلاغات. ويقول الشيخ: «ما بين يومي الثلاثاء والاربعاء تلقيت مساومات بواسطة زملائي في إدارة الأمن والسلامة بالجامعة ونائب المدير السابق الذي احيل للمعاش، يطلبون فيها مني التنازل عن البلاغ والجلوس لحوار حتى يتمكنوا من إعادتي للعمل». ولكنه رفض الأمر الذي قد يزيد الامر تعقيدا. وان كانت إدارة الكلية قد نفت استخراج اورنيك «8». وقد تحصلت «الصحافة» على ثلاثة من تلك الارانيك «استمارات الفحص الجنائي» المستخرجة للعاملات بتاريخ اصابتهن في التاسع من مارس، وجاء في الفحص المطلوب الاشارة الى حدوث اذى، وصحب الاستمارة قرار الطبيب حاملا ختم مكتب المدير الطبي لمستشفى الطوارئ والإصابات ببحري.. ليظل السؤال الأخير هو أين ذهبت بقية الأرانيك الخمسة؟!