الجيش يوضح بشأن حادثة بورتسودان    "ميتا" تهدد بوقف خدمات فيسبوك وإنستغرام في أكبر دولة إفريقية    بورتسودان وأهلها والمطار بخير    المريخ في لقاء الثأر أمام إنتر نواكشوط    قباني يقود المقدمة الحمراء    المريخ يفتقد خدمات الثنائي أمام الانتر    مليشيا الدعم السريع هي مليشيا إرهابية من أعلى قيادتها حتى آخر جندي    ضربات جوية ليلية مباغتة على مطار نيالا وأهداف أخرى داخل المدينة    الأقمار الصناعية تكشف مواقع جديدة بمطار نيالا للتحكم بالمسيرات ومخابئ لمشغلي المُسيّرات    عزمي عبد الرازق يكتب: هل نحنُ بحاجة إلى سيادة بحرية؟    فاز بهدفين .. أهلي جدة يصنع التاريخ ويتوج بطلًا لنخبة آسيا    بتعادل جنوني.. لايبزيج يؤجل إعلان تتويج بايرن ميونخ    منظمة حقوقية: الدعم السريع تقتل 300 مدني في النهود بينهم نساء وأطفال وتمنع المواطنين من النزوح وتنهب الأسواق ومخازن الأدوية والمستشفى    السودان يقدم مرافعته الشفوية امام محكمة العدل الدولية    وزير الثقافة والإعلام يُبشر بفرح الشعب وانتصار إرادة الأمة    عقب ظهور نتيجة الشهادة السودانية: والي ولاية الجزيرة يؤكد التزام الحكومة بدعم التعليم    هل هدّد أنشيلوتي البرازيل رفضاً لتسريبات "محرجة" لريال مدريد؟    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عشرة مبادئ حول المفاوضات
السودان على حافة تقرير المصير أو الوحدة (77)


ترجمة:سيف الدين عبد الحميد
أصدر الدكتور فرانسيس دينق مساعد الأمين العام للأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية،ووزير الدولة للخارجية الأسبق مؤخرا كتابا جديدا موسوم ب «السودان على الحافة» يحمل رؤى حول مشاكل الوحدة والانفصال والهوية السودانية ، وقضايا المهمشين، وتترجم «الصحافة» الاصدارة وتنشرها تعميما للفائدة..
إن المفاوضات بوساطة طرف ثالث هي نظير المواجهة العنيفة، فمنذ الاستقلال تعاقب السودان مرتين بين الصراعات العنيفة المدمِّرة والمفاوضات المفضية إلى الحل السلمي للصراعات. لقد أنهيت حرب السبعة عشرعاما (1955م - 1972م) باتفاقية أديس أبابا كما أنهيت حرب الإثنين وعشرين عاما (1983م - 2005م) باتفاقية السلام الشامل، وسيظل البحث عن سلام دائم وتظل آفاق تحقيق وحدة إجماعية حقيقية يتطلبان عملية مفاوضات مستمرة في المستقبل المنظور. وأرى أن التفاوض وحقل الدبلوماسية ذا الصلة اللصيقة به ما هو في الأساس إلا إدارة علاقات إنسانية تشمل الأفراد والمجموعات أو الدول، فبعض الناس يقولون إن الصراع هو الحالة الطبيعية للتفاعل البشري وبالتالي فمن العبث محاولة إيقاف الصراعات أو حلّها وأن أكثر ما يمكن فعله هو إدارة الصراعات. ويمكن أن يكون هذا صحيحاً إذا فُهم القصد منه بأن أسس الصراع توجد داخل العلاقات الإنسانية الطبيعية وبالتالي فإن حدوث الصراع أمرٌ طبيعي. وإذا كان المعنى أن الصراع هو الشكل الطبيعي للحياة فإنني إذن اعتبر ذاك الموقف مشكوكاً فيه تجريبياًوملتبساً قياسياً. وبعيداً عن النظر إلى الصراع باعتباره حالة طبيعية من التفاعل البشري، فإنني اعتقد أن الناس أكثر قابلية للتعاون وتوفيق مواقفهم المتضاربة أو ذات النزوع الصراعي الكامن.
وفي الواقع إن ذاك الصراع هو أزمة تدل على خللٍ في شكل السلوك الطبيعي. وبهذا المعنى ، فإن الصراع يقتضي تصادم مواقف متضاربة ناتجة عن الفشل في ضبط الخلافات أو توفيقها أو تسويتها، فالمجتمع يُبنى في مجرى الأحداث العادية حول القيم والمبادئ الجوهرية التي توجّه وتضبط العلاقات لتفادي صراع المصالح والمواقف المدمِّر. فإذا راعى الناس مبادئ القانون المعياري الذي يراعونه عموماً فإن الصيغة الطبيعية ستكون صيغة تعاون نسبي ومتبادل حتى ولو كان في إطارٍ تنافسي. فأن تصف تلك الحالة بأنها حالة صراع فإنك ستضع حكماً سلبياً على البواعث والجهود الإيجابية، وعلى درجةٍ عالية نسبياً من النجاح في التفاعل السلمي. بل الأهم من التأويل التجريبي الصارم هي الآثار المعيارية لتحميل الصراع حالة الوجود الإنساني الطبيعية التي ترمي إلى تعزيز تصرفٍ عدائيٍّ صراعيٍّ مريب في الأساس.
إن المستوى الذي يعكس به أفراد المجتمع أو المجموعة هذا السلوك قد يعتمد بقدرٍ كبير على الثقافة وقانونها المعياري محددة في مجموعة من الأهداف والقيم والمعتقدات المشتركة والثابتة التي تميز المجموعات القومية أو العرقية أو المجموعات الأخرى وتعمل على توجيه سلوكها. والثقافة نفسها هي نتاج التعليم الرسمي وغير الرسمي الذي تُغرس من خلاله قواعد السلوك التي طورها المجتمع خلال فترة طويلة من الزمن منذ الطفولة وتمضي جيلاً إثر جيل. فالأسرة هي قاعدة التعليم المؤسسية ولا سيما لغرس القيم الثقافية الأساس في الذهن، ومع ذلك ورغم الدور المحوري للأسرة وللثقافة في صياغة القيم والمواقف والطرائق العملية في العلاقات الإنسانية لكن نجد الأفراد يختلفون حتى داخل الأسرة في فهمهم للقيم المعنية وتقييمها وتطبيقها. هذه المجموعة من التكييف الثقافي الجمعي والنزعة الفردية لاستيعاب وتقبُّل وتطبيق ما هو مطلوب هي التي تعطي أهمية للتجارب الشخصية باعتبارها تطبيقات معينة للقيم والعادات وطرق فضّ الصراع والدبلوماسية داخل إطار ثقافي محدد. وقد يكون الصراع بحثاً إيجابياً عن الإصلاح بحسبانه تحدياً للنظام غير المتكافئ، ومن المهم أن نؤكد أن الهدف ليس مجرد حسم الصراع بل حسمه بأسلوبٍ مُرضٍ على نحو مشترك، ويعني هذا معالجة الأسباب الأصلية ومراعاة المبادئ الجوهرية كالعدالة والكرامة الإنسانية. بمعنى آخر مهما كان التغيير مطلوباً بصورة عاجلة فإن الوضع الراهن لا يمكن تأييده ببساطة من أجل الانسجام والتفاعل السلمي. ويمكن تعريف الصراع في هذا السياق بأنه وضع من التفاعل يشمل طرفين أو أكثر تتمخض فيه الأفعال الساعية وراء الأهداف أو المصالح المتضاربة عن درجات مختلفة من النزاع، فالانقسام الرئيس يكون بين العلاقات المنسجمة والتعاونية وبين مواجهةٍ عدائيةٍ ممزِّقة ترقى في أسوأ حالاتها إلى العنف الشديد. فحسم الصراع على أساس هذا التعريف هو مفهوم معياري يهدف إلى التوفيق بين المصالح المتضاربة وتسويتها أو إدارتها وذلك بتعزيز عملية تفاعلٍ سلمي مؤسس. وفض الصراع يضع تصوراً للاستراتيجيات الهادفة إلى الحفاظ على الوضع الطبيعي للأمور أو ترسيخه ورفع مستوى التفاعل السلمي والانسجامي والتعاوني والبنائي المثمر. إن تحقيق السلام والمصالحة يصبح هدفاً مشتركاً بيد أنه يكون أمراً سهلاً فقط في حالة أن شعر كلا الطرفين أن الحل المقترح هو للمصلحة المشتركة في الواقع.
وطالما أن كليهما كانا مستعديْن في المقام الأول للدخول في الصراع، فإن هذا يعني أن كلاً منهما يجب أن تكون له وجهة نظر ذاتية من الصواب والخطأ تعطيهما قدراً من الصواب وتعطي قدراً من الخطأ للطرف المعارض.
هذه المناظير الذاتية لا يمكن إغفالها عندما يحدث التفاوض أو عندما تقدم المقترحات لحسم الصراع رغم أن هذه المناظير يجب ألا تحفل بنفوذٍ كبير على هذه العمليات بل لا يجب أن يُسمح لها بذلك. وفي النهاية يجب ألا يكون هناك كاسب مطلق أو خاسر مطلق في الوقت الذي يكون فيه هناك تسلسل هرمي من حالات الصواب وحالات الخطأ في فض النزاعات عبر المفاوضات.
وإذا أتى المرء من ثقافة أو مجتمع أو أسرة تُقيّم فيها الوحدة والتوافق والتعاون تقييماً كبيراً ففي هذه الحالة سيصبح تضارب الصراع فوضى لا تزعزع المجتمع فحسب بل تزعزع الفرد أيضاً. وإذا افترض المرء أن هناك عوامل مساهمة في أي صراع يتشاطر فيها الطرفان المسؤولية ولو بدرجات متفاوتة فإن درجة الارتياب الحادثة يجب أن تخلق شعوراً بالمسؤولية المشتركة بالنسبة لأفراد المجتمع ذوي التعليم أو التربية اللائقة.
لذا فإن الرغبة في تطبيع الوضع والحفاظ على العلاقات الحميمة تصبح ذات طابع اجتماعي وكأنها هدف شخصي. ويجب النظر إلى المبادئ المقترحة حول التفاوض في سياق الإطار المعياري الموضح أعلاه، فهذه المبادئ منبثقة من التجارب الشخصية ومتجذرة في القيم والسلوك والعادات التي تنبثق من أسرةٍ إفريقية معينة وخلفية ثقافية وسط دينكا السودان.
إنها مبادئ تغطي التجارب في العلاقات الشخصية بين الأفراد ووساطة الطرف الثالث والمفاوضات الدبلوماسية بصور متداخلة. ورغم أنها مبادئ ذات طابع شخصي ومتأصلة في الأطر الثقافية الدينكاوية والسودانية والإفريقية إلا أنها تمثل القيم التي يمكن أن تستأهل مشروعية شاملة جامعة برغم الاختلافات الثقافية المتقاطعة حول التفاصيل وملاءمتها.
المبدأ الاول: نادراً ما تكون حالات الصواب والخطأ من طرف واحد رغم أنها نادراً ما تكون متكافئة، بل حتى عندما تشعر بأنك على يقين من أنك في جانب الصواب يجب عليك أن تقيس نفسك في حذاء الطرف الآخر بل يجب أيضاً أن تجعل الطرف الآخر يعترف بأنك راغب رغبة حقيقية في وجهة نظره أو وجهة نظرها.
المبدأ الثاني: ليس صحياً أن تترك المظالم في »بطنك« أو في »قلبك« . فالكتاب الذي كتبته حول هذا المضوع بعنوان »تحدث مباشرة« talk it out ليس هو الطريقة الأفضل لحلّ الخلافات أو المظالم فحسب بل يعتبر أيضاً كتاباً ضرورياً لصحة المرء العقلية بل حتى لصحته البدنية. وكثيراً ما تستخدم كلمات مقالة كتبتها حول ذاك الموضوع »ما لم يقال هو ما يفرّق« .
المبدأ الثالث: كرامة الإنسان ضرورية لفض الصراعات، إذ يجب على المرء أن يتفادى الحديث بأي شئ يكون مذلاً للطرف الآخر، ومن المستحسن ما أمكن أن تبدي الاحترام حتى ولو لخصم شريطة ألا يكون ذلك مداهنة رخيصة.
المبدأ الرابع: من المهم أن تستمع باهتمام وتسمح للطرف الآخر أن يقول كل ما يعتبره أو تعتبره مهماً أو ذا صلة، فحسم الخلافات ليس لعبة دهاء أو ذكاء لكنه معالجة للقضايا الحقيقية لطرفي الصراع، فقصص الدينكا الشعبية تقول إن ذكاء الثعلب ينقلب في النهاية على الثعلب. فيجب أن يكون للحلول عنصر أخذ وعطاء رغم أن القسمة يجب أن تكون نسبية لمعادلات حالات الصواب والخطأ المعنية. ففي تقييم تسوية النزاع المتفاوض عليها لن يكون من الحكمة التباهي بالنصر لأن هذا يشير ضمناً إلى هزيمة الطرف الآخر وبالتالي إلى نتيجة غير مقنعة.
المبدأ الخامس: تعطي ذاكرة العلاقات التاريخية عمقاً لوجهات نظر الأطراف والقضايا المعنية، لكن يجب على المرء أن يتفادى إثارة الوضع بالذكريات والقطعيات السلبية ويجب أن يعزز بدلاً من ذلك حواراً بناءً بالذكريات أو التفاسير الإيجابية للأحداث الماضية بدون تشويه الحقائق بالطبع.
المبدأ السادس: يجب أن يكون الوسيط محايداً ولكن حيثما كان هناك سبب للاعتقاد بأنه مقرب لطرف دون الآخر بأي صفةٍ كانت فعليه أن يصل إلى الطرف الأبعد، ولكن يجب ألا يكون هذا على حساب إنصاف الطرف المقرب للوسيط. ولا يعني الحياد ألا يكون لديك موقف حول القضايا موضوع النزاع رغم أن الجهر بالآراء يجب أن يُبعث بحذر لتعزيز الدور التجسيري والفهم المشترك.
المبدأ السابع: يجب أن يصغي الوسيط بصبر لكل الطرفين وحتى عندما تكون هناك خروقات واضحة في ما يقال يجب أن يعطي الوسيط وزناًمناسباً لأي وجهة نظر من الطرفين، فالرأي الشعبي هو أن الناس في النظام الإفريقي الأهلي لتسوية النزاع يجلسون تحت شجرة ويتكلمون حتى يتوصلوا لإجماع وهو نظام يعكس سلوكاً إفريقياً معيارياً تتم مشاطرته على أوسع نطاق. وحيثما كان تفسير وجهة نظر الخصم حول قضية معينة قد يسهِّل العملية التجسيرية فإن على الوسيط أن يتدخل لتقديم التفسير باعتباره جزءاً من بناء الإجماع.
المبدأ الثامن: في الوقت الذي تكون فيه حكمة التعبير والقدرة على الإقناع مهمتين يكون ثقل الضغط أمراً محورياً، وهذا يعني أن الوسيط يجب أن تكون لديه أو يعتقد أن تكون لديه القدرة على دعم العملية بالحوافز والتهديدات ذات العواقب السلبية وذلك وفقاً لمعادلات المسؤولية لنجاح المفاوضات أو فشلها. في الماضي كانت قوى العناية الإلهية الروحية وسط الدينكا تقدم الضغط المطلوب، وفي السياق الحديث فإن التأثير على موازنة القوة لخلق »مأزق مؤلم بصورة مشتركة« وللمساعدة على تحفيز عملية »الإنضاج للحل« - اذا استعرنا الكلمات الشهيرة لعالم تحليل الصراع المشهور وليم زارتمان - يعتبر جزءاً من الضغط الذي يمكن أن يسهّل مهمة الوسيط بصورة فاعلة.
المبدأ التاسع: تجمع المفاوضات الدبلوماسية عناصر من العلاقات بين الأشخاص ووساطة الطرف الثالث، ذلك أن المفاوض يمثل حكومته كما تجمع من بعض النواحي المفاوضة مع الوساطة بين الحكومات المعنية. إن حرية التصرف والإبداع في تكييف الموقف الرسمي مع محفزات الوضع بدرجة من المرونة ضروريان لاحتمالات العملية التجسيرية الناجحة.
المبدأ العاشر: في الوقت الذي يكون فيه هدف المفاوضين هو رؤية نتيجة جهودهم فيما يتلعق بالكسب أو الخسارة خاصة للاستهلاك المحلي، فإن النتيجة المرغوبة يجب أن تكون نتيجة لا يرى فيها أيٌّ من الطرفين نفسه فائزاً أو خاسراً إلا حيثما تكون حالات الصواب والخطأ المعنية واضحة وضوحاً لا جدال فيه. إن صيغة تعادل الفوز win-win يجب أن تكون هي الهدف ويجب ألا يتباهى أيٌّ من الطرفين بالفوز وبما يومئ بإذلال الطرف الآخر باعتباره خاسراً وذلك مهما كانت موازنات الفوز أو الخسارة في النتيجة موضوع الوساطة أو التفاوض. ويجب أن تكون هناك درجة من التكافؤ في كلا الطرفين فائزيْن أو خاسريْن.
موازنة العام بالخاص:
لا تزعم المبائ المقدمة أعلاه أنها حلّ ناجع، بل بالعكس فهي تعكس نظاماً قيِّميِّاً عاطفياً محدداً ربما يكون ذا طبيعة نسبية أكثر منها طبيعة كلية. من ناحية أخرى ربما يكون من الجرأة بل المخاطرة الادعاء بأن هذه المبادئ هي طرق تفاوض شاملة ومثبتة علمياً بحيث أنها قابلة للتطبيق على كل الأوضاع والأطر الثقافية المتقاطعة. إن القضية بالطبع يمكن أن تحدد لمعرفة خبير في التفاوض وهناك دور محدد يلعبه الأفراد الذين لديهم خبرة كهذي، ولكن لكي تكون خبرة فاعلة يجب أن يطور التعاون بين الطرق الشاملة والطرق المحددة ثقافياً.
في السودان نجد الزعماء والحكماء المعروفين بالأجاويد في الشمال ولكن لديهم ألقاب مختلفة على نطاق البلاد تتم الاستفادة منهم عادةً للتوسط في الصراعات التي تحدث بين القبائل. وفي الواقع أن معظم الصراعات القبلية المستشرية عبر البلاد بيسمها هؤلاء الوسطاء التقليديون الذين هم في الغالب الأعم أميون ولكنهم موهوبون بالحكمة والمعرفة الفطرية. فعندما يتذكر المرء أن عدد الاداريين الاستعماريين الذين حكموا تلك البلاد الشاسعة ذات المليون ميل مربع تقريباً كان عدداً قليلاً يرى من السهل كيف أنهم استفادوا استفادة فاعلة من الزعماء التقليديين في إقرار القانون والنظام والسلام والأمن على نطاق المناطق الريفية. فالفشل في استغلال هذه القدرات الأهلية المحلية يفسّر الكثير من الصراعات بين القبائل والعنف الإجرامي الذي كان قَدَرَ إدارة ما بعد الاستعمار في السودان. ويجب أن يغيّر هذا الحال إن كان للسودن أن يعزز قدراته الكاملة لإقرار السلام والأمن والاستقرار على نطاق البلاد.
خاتمة:
خلال النصف الأول من عام 2010م تطور موقف المجتمع الدولي حيال الوضع في السودان بصورةٍ بناءة جداً وبطرق مختلفة إذ برز إجماعٌ يؤيد التنفيذ الكامل لاتفاقية السلام الشامل. ويشمل هذا إجراء الاستفتاءات في الجنوب وفي أبيي حسب الجدول الزمني مع احترام خيار الشعب سواءً كان للوحدة أو للانفصال. ووفقاً لذلك فإن الترتيبات المطلوبة لإجراء الاستفتاءات مثل ترسيم الحدود وتكوين لجان الاستفتاءات وتسجيل الناخبين والمستلزمات الإجرائية الأخرى يجب تنفيذها بعناية وموثوقية وشفافية. كما تم الاتفاق بشكل واسع على أن يفاوض الطرفان ترتيبات ما بعد الاستفتاء حول العلاقات الشمالية الجنوبية وعلاقات الدينكا والمسيرية »أبيي« لا للتأكد من أن الاستفتاءات تم تنفيذها سلمياً فحسب بل للتأكد أيضاً من أن العلاقات السلمية الدائمة تم ضمانها للمستقبل.
أدرك المجتمع الدولي أيضاً أهمية إعادة دارفور إلى الشبكة المعقدة للصراعات الجهوية المترابطة في السودان، فمنذ اندلاع صراع دارفور في عام 2003م، كان الاتجاه في المجتمع الدولي أن يري ذاك الصراع بمعزل عن الوضع في الجنوب وعن أوضاع الصراع في مناطق الشمال الأخرى. وفي الواقع إن صراع دارفور هو آخر صراع في سلسلة صراعات جهوية بدأت في الجنوب في الخمسينات وامتدت إلى الشمال في منتصف الثمانينيات في مناطق جبال النوبة والنيل الأزرق والبجا وأخيراً في دارفور حيث كان تهميش هذه المناطق الطرفية من قبل المركز هو السبب المشترك لهذه الصراعات. هذا الانقسام المركزي/ الطرفي يُشبّهونه بانقسامٍ عربيٍّ/ إفريقي وهو انقسام خيالي أكثر منه واقعي.
إن تقرير لجنة الاتحاد الإفريقي رفيعة المستوى حول دارفور التي ترأسها ثابومبيكي رئيس جنوب إفريقيا السابق والتي تم تمديد تفويضها الآن ليشمل تنفيذ اتفاقية السلام الشامل قد حافظ على التوازن المناسب لكي يُرى الصراع في دارفور داخل الإطار القومي ويشمل ذلك ربطه باتفاقية السلام الشامل والجنوب. هذه المجموعة المعقدة من الاعتبارات تقود السودانيين أنفسهم والمجتمع الدولي إلى نتيجة فحواها أن الجدل حول وحدة السودان وانفصاله لن ينتهي باستفتاء تقرير المصير الجنوبي، فحتى لو اختار الجنوب الانفصال فإنهم سيظلون مرتبطين ارتباطاً لصيقاً بالشمال عضوياً واقصادياً واجتماعياً وثقافياً. بل الأكثر صلة أنهم سيظلون متماهين مع مظالم مناطق الشمال المهمشة وكفاحها من أجل تحقيق سودان جديد خالٍ من التمييز على أسس العنصر والعرق والدين والثقافة والتمييز بين الجنسين، فإذا تحققت تلك الرؤية كان يمكن لأساس الوحدة الوطنية أن يُوطَّد، ولهذا السبب يكون من الحكمة النظر إلى التصويت للانفصال باعتباره ترتيباً مؤقتاً يجب أن يترك الباب مفتوحاً لإعادة التوحد.
وعلى ذات المنوال يجب أن يؤسس شكل من أشكال الترابط يكون من شأنه الإبقاء على خيوط الوحدة والتعاون اللصيق، فهذا لن يحافظ على رؤية الوحدة حية فحسب بل يعمل أيضاً على تسهيل بيئةٍ من حسن النوايا والانفصال السلمي إذا كان هذا هو نتيجة استفتاء تقرير المصير في الجنوب.
إن أبيي تبدي أيضاً تحدياً مماثلاً بين الشمال والجنوب، فإن كان للاستفتاء الجنوبي أن يحدث قبل استفتاء أبيي وأن الجنوب صوّت للوحدة فسأؤيد أنا وضعاً خاصاً لأبيي داخل الوحدة، وسيكون السؤال حينذاك ما إذا كان الوضع الخاص لأبيي داخل إطار الانفصال الجنوبي أمراً سهلاً. سيكون الهدف هو إعطاء كلا الطرفين علاقة إيجابية لأبيي ومفاوضة شراكة تهدف لإعطاء أبيي وضع الانتماء لكليهما لكي تظل تمثل رباطاً ديناميكياً بين الشمال والجنوب.
كما أن مجلس الدينكا المسيرية للسلام والتنمية الذي اقترحته خلال مفاوضات اتفاقية الشامل سيهيئ أساساً قاعدياً مؤسسياً لهذه الشراكة. ولكي ينجح هذا الإجراء يجب أن يعطي الدينكا والمسيرية فوائد مشتركة واضحة وملموسة تجعل منه موضوع تعاقد وتفاعل وتعاون جاذب بين الشمال والجنوب، ويجب أيضاً أن يعطي كلا الشمال والجنوب فائدة واضحة في وضع أبيي.
لقد كان رأيي دائماً أن هناك الكثير المشترك بين السودانيين والذي يتجاوز التقسيم الشمالي/ الجنوبي وذلك بأكثر مما يدرك السودانيون، ولكن ربما بذات المنطق كانت هناك نزعة لإقرار ما يفرّق بحيث تعطي هذه النزعة المتطرفين في كلا الطرفين شعارات للمطالبة بشرعية »أجندتهم« الشّقاقية. ومن المفارقة أن تأتي رؤية الوحدة داخل سودان جديد من الجنوب الذي ظل تاريخياً مرتبطاً بالانفصال، كما أن من الملائم أيضاً أن تستحوذ هذه الرؤية على خيال مناطق الشمال المهمشة التي تشكل الأغلبية. لقد كان التحدي الكبير للقيادة في المركز هو الاستجابة إيجابياً لمطالب الأغلبية الغالبة من الشعب السوداني من أجل سودان جديد ذي مساواة كاملة دون تمييز على أي أساسٍ من الأسس. وهذه رؤية كبيرة جداً ومُرْغِمة لأي زعيم يستأهل الشرعية القومية والدولية للبقاء. إن الاعتبار العملي الوحيد هو كيفية التخطيط لتدابير تحمي مصالح الأقلية المهيمنة [الآن] مع تخليها عن السلطة للأغلبية المرؤوسة [الآن]، فالشهامة مطلوبة على السواء من جانب أولئك الذين سيتخلَّوْن عن السيطرة والتحكم ومن أولئك المطلوب منهم تولّي السلطة ورسم خريطة مصير الأمة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.