** آفة الأخبار لم تعد رواتها فحسب ، بل أجندتها أيضا .. أي ، نفهم ونتفهم أن تخطئ الصحيفة في رصد خبر ما ، ثم تعتذر عن الخطأ في صبيحة اليوم الثاني بعد التأكد من خطأ خبرها ، وهذا شئ طبيعي في عالم الصحافة ، ويحدث في أرقى الصحف .. ولكن ما ليس طبيعي ومنافٍ لمواثيق الشرف الصحفية هو أن تنشر الصحيفة خبرا ما بعد تلوينه بأجندتها ، ثم تتمادى - في سبيل ترسيخ ذاك الخبر المغلف بالأجندة في أذهان الناس - في تحليله أو التعليق عليه .. أي ، تكذب على الرأي العام بتلوين الخبر ، ثم تبني على الكذب جبالا من التحليل والتعليق ، حتى يصدقه عقل الرأي العام .. هذا فعل قبيح ، ولايمت إلي أخلاق الصحافة بأدنى صلة .. فالأصل في الخبر - ياسادة ياكرام - هو أن يكتب كما هو ، وليس كما نهوى .. !! ** وعليه .. فالرئيس البشير لم يقل برومبيك : سيضطر الجنوبيون لأخذ فيزا للشمال حال انفصال الجنوب .. أو كما نسبت له تلك الصحيفة - غفر الله لها - في صدر صفحتها الأولى يوم الخميس الفائت .. ذاك النص لم يرد في خطاب الرئيس الموثق - بالصوت والصورة - في الإذاعة والتلفاز وبعض المواقع الإلكترونية .. وفي النص الموثق ، يقول الرئيس بالنص : نحن رغبتنا في أن يختار أهل الجنوب سودان واحد وقوي يستوعب كل أبنائه ، ولايحوجهم للتنقل بين الشمال والجنوب بالفيزا وجواز السفر ..هكذا كان النص ، ولك أن تقارن ، صديقي القارئ ، روح هذا النص بروح ذاك المسمى بالخبر عند تلك الصحيفة ، لتكتشف - بلا عناء - بأن آفة الأخبار هي الأجندة أيضا .. فالبشير تمنى - مثل أي سودانى حريص على وحدة البلاد و متوجس من تمزقها - بأن يبقى السودان موحدا وقويا ومستوعبا كل أبنائه بمختلف ألوان طيفهم السياسي والثقافي والعقائدي ، وألا ينشطر إلي دولتين ، يرغم انشطاره أبناء الشمال والجنوب على أخذ تأشيرات الدخول والخروج للتواصل فيما بينهم .. أو هكذا روح خطاب الرئيس .. ولكن الخبر في تلك الصحيفة مغلف بروح كريهة يقول معناها : لو انفصلتو يا ناس الجنوب ما بتجو الشمال إلا بالتأشيرة .. !! ** وللأسف ، تمت صياغة وطباعة ذاك الخبر في ذات الساعات التي كانت تناقش فيها وزارة العدل ومجلس الصحافة ، بقاعة المجلس التشريعي لولاية الخرطوم ، ورقة بعنوان : النشر الصحفي ، الحدود والقيود .. وما يحزن أن حدود النشر هى بعض من خارطة ميثاق الشرف الصحفي ، وكذلك قيود النشر هي البعض الآخر في ذات الخارطة .. أي ، الميثاق لم يفوت شاردة أو واردة - فيما تخص الحدود والقيود - وإلا وثقتها ، ولكن الأجندة - الذاتية منها والحزبية - هي التي تحل محل نصوص ذاك الميثاق عند النشر في بعض الصحف ، وتلك نموذجا.. ولذلك تلجأ جهات أخرى إلي فرض سطوة القيود وسلطة الحدود على الصحف .. بمعنى : بارعون نحن في جلد ظهورنا بسياط تمسك بها أيادي الآخرين ، وذلك بتغييب الوعي الوطني فيما ننشر.. والوعي الوطني ، ياسادة ياكرام ، ليس هو كيل الشتائم والسباب للعدو الأجنبي فقط ، بل قمة الوعي الوطني هي نشر وبث روح السلام والتماسك في مجتمع وطنك.. وأي مجتمع - ما لم يكن متماسكا - تتخطفه الطير بلا منقار ، ناهيك عن دول نهج أنظمتها يرفع شعارا فحواه : القوي آكل والضعيف مأكول .. والإعلام ، الإعلام فقط لاغيره ، هو أقوى سلاح مستخدم في عصرنا هذا لتقوية المجتمعات أو لإضعافها .. فلنحسن استخدام هذا السلاح يا سادة ياكرام ، بحيث به نقوي مجتمعنا ، بدلا عن تسخيره بحيث يصبح خنجرا على ظهره .. فليكن إعلامنا سلاحا لمجتمعنا وليس سلاحا عليه ، لكي لايتسرب تراب أجداده من تحت أقدام أحفاده ، فنصبح على ما فعلنا نادمين .. أوهكذا أنصح نفسي قبل تلك الصحيفة ... !!