٭ يهزج صوت من حولي يقول لي، الأفكار مثل الطيور ترسو وحدها وتطير وحدها، لا تستأذن. آخر ما كنت أفكر فيه عند عبوري لآخر طريق واحتفاظ الطريق دون استئذان لآثاري، هو كيفية الرّد على بائع الصحف، ذلك القليص، الذي شجب حظي من الاطلاع. ثم عاد واغلظ عليّ حينما عرف عدم رغبتي في شراء جريدة كنت أقلبها في جميع اتجاهات الأفق. آه لو كنت استطيع لاستخدمت جميع الجالسين على المصاطب الأمامية بالطريق كمشاهدين لمسرح الحافلات، وتزويدي بما لديهم من شحنات للسخط حتى نوجهها عليه جميعاً، وسوف نتغلب عليه وقتها. ٭ تعلل كثيراً وزفر كثيراً وحدثت آلاف التحولات في ملامحه التي لو وزعت على سطح الأرض لاعتبرت خرائط جغرافية غير مسلوقة، وقاسية التضاريس وبعد كل ذلك قال: لا يوجد جريدة. ثم فجأة تذكرّ كومة الجرائد الكثيرة المتقبضة في ركن متجره الصغير.. الحصير ثم باغتني قائلاً.. ما لونها؟ أهي جريدة فيها؟!! ويعود يسأل مرة أخرى ما حجمها الحقيقي؟ يا سيدي أرجوك اعرض لي عدداً مما عندك حتى اقرر شراء ما اريد. لا صاحب كشك جرائد يبني معاملته مع الزبائن كما تفعل! عاد الرجل بفكرة جديدة.. أين تطبع هذه الجريدة؟ فرديت مستخدماً ضعف جغرافية ملامحه بغيظ شديد: في الجو! رفع وقتها كومة الجرائد عالياً بالجو واخترت منها الصحيفة المطلوبة التي توقعت نشر قصيدتين عليها. ٭ قلبت الجريدة في الاتجاهات المعلومة جغرافيا، والاتجاهات الأخرى المعلومة فقط إليّ. ولم أعثر على القصيدة. ومن الاتجاهات المعلومة لديّ هو قلبها رأساً على عقب بسرعة عالية، ورجرجتها بشدة لعلّ القصيدة تصدر صوتاً أعرفها به، حتى اعتقدت أنها معتقلة في مكان ما داخل الجريدة.. وقد كتب صاحب الكشك كل ما لديه من معلومات ورثها في مادة الرياضيات ودونها على الجريدة. ٭ ربّما لم يدع كلمة جرت على قلمه إلا ووضعها ككية نار عليها مع جميع حساباته ومعاملاته اليومية.. ومشاكله حاشداً ذلك في كل الأماكن الفارغة الخالية، حتى هزج في نفسي صوت يقول: لو أن تلك المعاملات التي دونها، وضعت في أرض فضاء لاستطاعت سفلتة طريق بين مدينتين، على الأقل ستحل فيه بلبلة المطبات والحفر. ولكن بالطبع دون أن يفعل ذلك هو. فجأة وضعت الجريدة وتعجبت أن كيف استطعت قبلاً رفعها وذلك بالطبع يحتاج إلى ونشٍ من كثرة ما دونه ذلك المستغل لجرائد الآخرين من ألفاظ وعمليات. ٭ نهرني يريد قيمة الجريدة.. ردت آسفاً، ما وجدت القصيدة، قلت ربما أن مكانها المناسب والمخصص لها هو تلك المساحات التي عباها برداءة خطه.. قال.. ربما ان الناشر اخطأ وطبعها في صحيفة أخرى! آخ.. يا أخي.. لا استطيع وصف الأمر وكيف يتم.. وقلت في نفسي (كيف أشرح هذا الأمر ومن أخطائي أنني أسير بغير جهاز توضيح، أي فهامة) ولكن الرجل صار الأقرب إلى فهم ما أريد الآن مع حرصه على تغريمي قيمة العدد. فقال خذ الجريدة معك وأكتب فيها ما تشاء، ولكن ادفع الان فوراً.. قلت وهل تركت شيئاً منها يمكن قراءته؟ عبأتها بكل ما بالطرق من غبار وخناقات مرورية واختلافات، لم تترك حتى الذي يقوله صبيان وصبيات حارتكم. قال آه (بطريقة يمكن أن تسبب مخالفة مرورية).. آسف.. لا مشكلة خذ الجريدة. ٭ انصرفت دون أخذ الجريدة والرجل صاحب الكشك يهددني ويتوعدني من بعيد، عدت وقلت له: لقد أثقلت الجريدة بهمومك ولا أستطيع حملها، فقال: تعال إذن خذ غيرها. معظم الجرائد فيها فراغ كبير يمهلك أن تكتب ما تشاء وعندما أردت شراء غيرها بدّل رغبته معلناً عن رغبته في اغلاق المحل.. وقال: اشتري من أي مكان آخر، لا نود بيع شئ هيا. ٭ عادت لي الأفكار من جديد كطائر حائر لا يدري في أي الأماكن يرسو.. أين تكون قد اختفت تلك القصيدة؟ بحثت في دفاتري، وفي حقيبتي.. إنها غائبة تماماً.. ليست في أي صحيفة حتى التي طبعت تحت البحر... أقرأها مرات مكتوبة على أعلى أسلاك الكهرباء - على شكل طيور - افتح الحقيبة بهدوء، أعد الأوراق والقلم - طارت الطيور - أبحثها أيضاً في وجوه أولئك الواقفين والواقفات بالممرات وبِنيات على الطريق وتمنح ملامحهم، بغير حاجة للفحص، آلاف القصص.. وآلاف القصائد والحصص لكن لا استطيع حفظهما جميعاً الآن حتى أنقلها من بعد على الورق.. لن يقبل أحد أن يعيرني قصيدة.. ولا أرى أن أي قصيدة تقبل أن تعار، القصائد الأصلية لا ترد ولا تستبدل، افكارها وقيمتها.. انها مثل الزمن. ٭ آخر ما سجى إلى خاطري، ان أتأمل السماء.. فلربما تسقط مثل التي تظهر في الأفلام كأموال كثيرة تمطر بها الأرض.. حسناً لو حدث ذلك كيف أحصل عليها في مقاومة أولئك المتلهفين لتلك الفرص؟ ومنهم بلا شك أولئك الثابتون والثابتات على الطريق حتى صنفوا جزءاً منه وحفظتهم الأقمار الطبيعية والصناعية. لا فائدة ترجى إذن من بعد. غير محاورة فتاة، كأنها تستأنس بي أمام صيدلية. قالت لي وهي تلاحظ اختلاف صورة الزجاج المنعكسة من بابها والتي يجب أن تطابقنا تماماً، قالت ما رأيك في مسألة الاوراق المالية التي يتكلمون عنها كثيراً؟ قلت لا يحتاج الأمر لجهاز توضيح ولكن لماذا تشغلين نفسك بهذا الأمر؟ الجرائد اليومية أكبر من الأوراق المالية. انفجرت ضاحكة وهرولت ثم عادت لاستلام حقيبتها بعد ان نسيتها على المقعد الذي لم تجلس عليه. راجعت انعكاس صورتها على الباب.. تأكدت أنها فعلاً لا تطابقها.. أخذت شنطتها.. وهرولت وقد قررت تبديل نظارتها. ٭ أنا متأكد أن مكان القصيدة بالجريدة كان الذي كتب عليه ودون عامل الرائد بالكشك.. تلك المساخطات الكثيرة.. يريد أن يعبر بها عما يريد دون أن يعتذر للقارئ أو يعتذر للشعر.. سأحاول كتابتها من جديد ولكن أولاً يجب أن لا أترك تلك القصيدة الهاربة تولي بتلك الطريقة الطفطفائية تبين أنها انتشرت حتى في الفراغ ثم لا تعثر لها على أثر. سأفعل شيئاً واحداً. توجيه خطاب لاذع رادع لها في شكل قصيدة هجائية مهندة، والأمر كالسيف، لن يفوت على أي ناشر حتى لو كان ذلك الكشك.. مكان ما حدث من نضال.. تلك الحالة حقاً.. نادرة لم تحدث في عالم الشعر، أن تهجو قصيدة من الشعر قصيدة أخرى لنفس الكاتب. ٭ عزائي الوحيد هو ابتكار وصناعة قصيدة الكترونية، يمكن التحكم فيها من على بعد كل تلك المسافات الجغرافية التي تعبر عن ملامح وجوهنا الحقيقية وملامح أوجه أولئك الثابتين بمواقفهم على الطرق المسفلتة.. لا يدركون لأي الأبصار يجب أن يصوروا.. وأي الطيور الطائرة يصدقوا.. ويفرقوا من بينها الأفكار. سأشطب بعضما أكتب، وأفرغ جانباً منها.. لأن القصائد الالكترونية تكهرب وقابلة.. للانفجار.. وهي كذلك محصنة ضد الكسر، والهروب والأسر. ٭ «أحبها كالجو للأوزون، الشعر في بعضٍ جنون، كالنجم البحر للعطرون. الحبّ فيكِ نواته، وفيّ الكترونْ، الحب فيّ حنانك الهَامِي.. شآبيب العيونْ، وعيناك التي تمحو، عليّ قصيدةً، كانت إليك تكون. (الهامي - أي النازل) الشآبيب - دفعات المطر.