ما هو عارف قدمو المفارق.. «خليل فرح» ٭ ويكون ليل عندنا في «باريس» معناه حينما يغرس الجوع انيابه في احشائنا فنمضي على الاقدام.. إلى «شاورمة» الاغريق.. الى ازقة الحي اللاتيني الضيقة حيث لا نوم.. في غرفته، على رنكها الايمن كان ثمة «جردل» قديم، يستقبل نقاط المطر التي تسربت من السقف.. وكان لايقاعها لغة.. لغة خاصة طق.. ط..ق ق..ق.. طا.. ثم سرعان ما يتواصل ايقاعها. - يا صلاح ما تغير «الاستديو» دا!.. - ما فيش حاقة من دي خالص.. يا استاذ «يرد البهجوري».. دي ادخن «لأطة» «يقصد لقطة».. - ويشد الحوار صديقة «جورج البهجوري» الفرنسية، التي تقبع كالقطة فتموء قائلة: - هذا ايقاع.. موسيقي.. اسمعوها.. جيدا.. تاك.. تاك.. تاك!! تيك.. اك اك.. ونحاول ان ننصت.. ٭ «برتيان» شمال غرب فرنسا 1978م. كرت صغير يحمل خط صلاح الواضح المرتاح كخط «اولاد المعهد العلمي».. - مبروكة «داليا»، انتظرني مساء الخميس بقطار السابعة ان شاء الله حمداً لله على السلامة. ولم تتح الظروف «لجودو» ان يجيء. كان كما ذكر لي فيما بعد، يخوض بعض المعارك الفرعية. ٭ باريس الخميس 28 أغسطس 1978م في حجرة صلاح بالحي اللاتيني. - «الأولاد» ماشين الخرطوم!!.. والله كويس.. طيب - يا «عمار» لو واحد ماشي وماشي.. وماشي وتعب يعمل شنو؟! ويضحك قع. قع. قع. وماشي وتعب.. ودون أن ينتظر اجابة عمار، - يقعد..!! يحدق هو في مدخل بابه حيث اشرأبت حروف اسمه يتشكل S.A.I ويسأل في حزن عميق: - حنقعد بتين يا ربي!! - وقع. قع «ويواصل» تعرف انا طباخ جدا، يلا نجرب ويصنع لنا للاسرة طاجنا من «الكفتة» و«المصقع» ولنأكل ذلك وبعض فسيخ مغربي في انبوب، ويتخلل الطعام حديث عن «ما» التميمية او لعلها «ما» «الزائدة» ونردد حوارا، قديما قال فيه نحن عرب العرب، ثم ليقول، بل نحن الهجين عنترة. وحاولت ان «الزمه بالموقف الاول». فكان مما اورده ليس للفكر ان يجمد!! ويحدثني عن رواية «لا ادري مصيرها الآن» اسمها «أقنعة من حديد» قرأ لي بعض فصولها.. وتحدث كثيرا عن وزارة الخارجية.. وعن مفارقة.. غربته.. هي معادل استمرارها.. وهو حديث لم يأت بعد اوان نشره.. ٭ باريس رين 15 سبتمبر 1978م ونحن نجلس في أمسية خريفية، على مقهى «الالمايو»، يقترب مني احد الاصدقاء المصريين، يخبرني، بأن برقية وصلت الى «رين» حيث كنت اسكن تفيد بوصول أخي «محمد الحواتي» وصديقه «الطاهر حسين الطاهر» الى «مطار شارل ديجول».. هذا المساء.. - ما تنزعج المسألة.. سهلة جدا.. جيبهم من المطار.. حنساهر لغاية الصباح.. فلا حاجة لسراير.. النوم واطة ويجيء الضيوف. ومن هنا الى منزل «محمد الحسن» مبعوث مؤسسة التنمية الصناعية، من «مترو» لآخر.. صلاح ويونس الامين وبولا «وهو يحمل عودة!!» و«حمودي» وكان زائراً من «رومانيا». وحين نبدأ.. السهرة «يفقع» محمد الحواتي سؤالا في وجه صلاح: - يا صلاح.. إنت مالك مع ناس نميري.. ما إنت زولهم..!! ويضحك صلاح. قع.. قع.. ويبدأ في توضيح وجهة نظره ويطل الصباح.. وكانت لشهرزاد حديثها المتصل المتواصل.. وكان لنا، ان نسافر لاحضان الريف الفرنسي.. وأحاول.. أحاول.. أن أفهم موقف صلاح من سلطة «النميري». ٭ باريس 28 ديسمبر 1979م - يعني خلاص «لبكت»، حد يخلي «باريس» في رأس السنة. - نكاية بها وتوددا «لأم درمان».. - هل تخون «مونبارناس» بهذه «السرعة»؟ - لا.. أنا أسجل نبضها في حسي.. وايقاعها في عقلي.. - طيب ابقوا عشرة على البلد. وين ضحكاته المتواصلة.. يطل الالم، يبرز الحزن. اقرأ فيها جراحات بلا حدود واستشف منها غفرانا بلا مدى. - طيب هاك.. ساعة.. مقبض لمفتاح.. هاك.. وهاك.. - للسودان.. للبلد ينبغي أن تكون المواقف.. هذا السودان يقتلني بحبه.. ولكن.. وقع.. قع.. شايف كيف.. ولا مش كدا.. وكنت أشوف بالفعل.. رجلا مسكونا بالوطن. ويمضي الزمان وتتداعى المواقف وتهش المسلمات.. وتتغير الوجوه.. ولكن السودان يبقى.. كما تبقى مقابر «البكري» ومقابر «أحمد شرفي». مطار شارل ديجول باريس 23 أكتوبر 1992م. - سفارة.. قطر.. - نعم.. من تريد؟ - ممكن أكلم صلاح.. - أي الصلاحين.. صلاح أحمد إبراهيم.. أم صلاح عبد الرحمن عيسى؟ - الاثنين معاً. وأذن بحديثهما. ويأتي صلاح عبد الرحمن عيسى ليأخذني من المطار الى شقته في إحدى ضواحي باريس الجميلة، وهناك يهاتفني عبد الوهاب الصاوي من السفارة. - يا أخي.. انت ما عرفت.. وللا شنو؟! «علي المك» مات.. ويفجؤني فراق علي وليس موته.. وحين يهاتف صلاح: - يا بركات علي محظوظ.. احب الناس واحبوه.. تذكر فيلم شين.. هل يعود.. حين صرخ الطفل: هي... Hay .. كم باك شين.. كم باك شين.. ولا يعود.. شين.. يعلم.. هو الى اين يمضي!! ولا يضحك صلاح.. لا يضحك.. - حاتصل بيك.. لانو يمكن نسافر لندن سوا.. عايز اشوف «فاطمة».. ويجيء سفير قطر.. ليسافر هو معه.. بالطائرة الى لندن.. وأرغب أنا في السفر اليها بالباخرة.. وقبل ذلك.. قبل سفره.. - يا أخي لو اتلاقينا في لندن كويس.. ولو ما اتلاقينا ابقوا عشرة على البلد.. الذئاب تتأهب للانقضاض عليه.. لتجرح جسارته.. لتلعق جراحاته.. ٭ ايقاع خاص جدا.. كرهت الحزن «الرسمي»: ما احببته، ما وددته وما اريده.. للدموع فيه مرتبة ودرجة، وللمشاعر أرقام جلوس، وللحروف تصميم، وللايقاع توقيت، أما الحزن الشخصي فهو دائم في النفس/ تنساب المشاعر فيه فيضاً بعد فيض/ فلا مجال أبداً لصناعتها. للحزن الرسمي عمومته تختال فيه القصائد البكر، وتزدري الخصوصية، ولقد آن أن أقول كل همهمات المواسم الى فعل نقدم فيه ابداعات من مضى. ويا صلاح.. أشهد أنك من تراب هذه الأرض.. من قلب عناء فقرائها، ومن أصلب معادن أهلها البسطاء.. شاعر.. نحت الأناشيد، من أعماق أعماق الثورة.. ومن فجر ميلاد صحوتها.. وأشهد يا صلاح أنك من أنقى وأشجع وأقدر فرسان هذا الوطن. ولقد كنت دائماً ود الوجعة ولم تكن أبداً ود المصارين البيض.. رفضت وأبيت وتأبيت.. على كل محاولات الاحتواء، كنت الرقم الصعب.. في منظومة المثقفين.. ولمن يكن للرقم الصعب.. غير أن يموت واقفاً. وأن يحيا غريباً.. ولم يكن غريباً أيضاً أن تعانق العطر في لحظة النزع الأخير. - أكرمك الله يا صلاح، ولتحفك إن شاء الله سنديانات الجنة خضرة واخضرارا.. ولعلي أثبت هنا نوح سبدرات عليه: هو التياع سيف النجومي «بتوشكي» في ضحى الشهادة. هو يقين «الخليفة» عند افتراش «الفروة» في «ام دبيكرات» استقبالاً للشهادة. هو صحو الضحى يطوف عند مزار ود حبوبة. هو «زهو» «الككر» يوم التتويج بسنار القديمة. هو صهيل خيل الحق في رهيد البردي تنادي الزاكي طمل لرد العدوان. هو البوصلة التي تشير دوماً إلى السودان.