يبقى(عدم الإستقرار السياسى) أهم معوقات التنمية فى الدول النامية. وتبقى كل هذه الإشكاليات السياسية العالقة بالوطن _ فى مجملها تشكل عندى قيوداً، تقيد (الذهن) السياسى، وتصرفة عن الإنجاز والإبداع فى مجالات التنمية عامة. ويبقى السؤال هو هل يمكن إنفاذ برامج التنمية بعيداً عن المعترك السياسى؟!! دعنا نحاول كلما كان ذلك ممكناً!! وعلى أية حال.. أدعوك قارئى اليوم لرحلة علمية فى بطون غابات ولاية شمال كردفان.. و كنت أتمنى أن تكون هذه الرحلة أبان موسم الخريف والذى يهل علينا قريباً، لتكون الرحلة أكثر متعة مع رشاش المطر ونسائمه، والخضرة والإخضرار الذى يلون يومذاك أرض كردفان، إضافة إلى هاتيك الغيوم والسحائب والأسحار التى ستذدان بها سماء كردفان. ولكن خشيت إن اتيتنا في الخريف تصعب عليك العودة من حيث أتيت! فما تذوق أحد مطر كردفان إلا وتعلق بها عشقاً.. والتصق بها إلتصاقاً.. فيصعب فصله! دعنا نبدأ الرحلة من الأراضى الرملية فى شمال الولاية.. تلك الأشجار التى تبدو لك على الرمل هى أشجار السيال والمرخ والسدر وأشجار الدوم.. فالنبق والدوم الذى يستمتع به صغارك.. هو من (عندنا!). هذا وإذا تحركنا قليلاً جنوباً إلى أراضى القردود فإننا نجد أشجار الكتر والعرديب والتبلدى.. التبلدى الذى التفتت إليه مؤخراً كل المؤسسات البحثية فى مجالات الغذاء والتغذية أما أشجار السنط والصباغ وقليل من أشجار الطلح، تتنأثر فى الأراضى الطينية والخيران. كل هذه الأشجار بكل فوائدها كانت أيضاً ولازالت مأوى لكثير من الحيوانات البرية والتى تشمل أنواع متعددة من الغزلان، أهمها غزال (النلت) ،وهو غزال غالى الثمن ونادر الوجود عالمياً، إلا أنه يتكاثر فى منطقة جبل الدائر بولاية شمال كردفان الأمر الذى يفرض ضرورة حمايته ورعايته. ونحمد الله ان افتتحت محمية جبل الدائر فى عام 2010م. هذا وتكثر الأرانب أيضاً. ولعل أخوتنا المصريين فى شمال الوادى يعشقون الأرانب أكثر منا. (فالملوخية بالأرانب) هى أشهى وأقيم طبق بمصر. وهكذا ويبقى الإستتثمار فى مجال تربية الأرانب مجالاً حياً. كما ونجد القطط الخلوية وجداد الوادى والضباع والطيور النادرة. هذا وان كنت تهوى الصيد، فرحلتنا هذه ستكون بلا نهاية! أما تلك الأشجار التى تقف فى شموخ على الحزام الممتد بين الأراضى الطينية والرملية، بين خطى عرض 10ْ 14 ْ شمالاً هى أشجار الهشاب.. الهشاب الذى هو بلا منازع ذهب كردفان الأخضر! ولابد لنا من (قعدة) تحت ظل هذه الشجرة لأحدثك عن شجرة الهشاب. فشجرة الهشاب لها خواص متعددة.. فأولاً هى شجرة سهلة الإستزراع إذ أنها تنمو طبيعياً بالبذور أو الشتول وبأقل التكاليف الممكنة. ولعلك قارئى لاتعلم أن من أهم خواص شجرة الهشاب أنها تحمى التربة من الإنجراف وبذا تكون عاملاً من عوامل مكافحة التصحر وصد الرمال. إضافة إلى أنها تساعد فى تحسين التربة وبذا تساعد فى زيادة الإنتاج الزراعى وتحسين المرعى. زد على ذلك أنها ذاتها علف طيب لكثير من الحيوانات. هذا ولعله لايفوت عليك ان شجرة الهشاب كغيرها من الأشجار تساعد فى توفير منتجات الغابات من حطب الوقود والفحم النباتى وغيره. لكن.. فوق كل ذلك فشجرة الهشاب هى شجرة منتجه للصمغ هذا المنتج هو من أهم المحاصيل النقدية بالسودان. وكان السودان ويبقى أكبر منتج ومصدر لأحسن أنواع الصمغ العربى فى العالم، محتكراً إنتاج وتصدير هذه السلعة عالمياً رغم التذبذب الذى يعانى منه الإنتاج من عام لآخر. ثم ان ولاية شمال كردفان هى الموطن الذى إرتبط تاريخياً بهذه الشجرة وإرتبط تاريخياً بإنتاج الصمغ العربى ،إذ نتج هذه الولاية نصف إنتاج السودان من الصمغ وهوما يعادل نصف أنتاج العالم. هذه الثمرة الطيبة التى تنتجها شجرة الهشاب تتعدد إستخداماتها داخل وخارج السودان والتى يمكن أن نلخصها فى الأتى: يستخدم الصمغ بدلاً من المحسنات الصناعية ذات الأثر السالب على صحة الإنسان وهو يدخل فى: • صناعة الحلوى وفى الدقيق لتحسين نوعية منتجاته من الخبز والكيك والفطائر وغيرها • يدخل فى مياه الشرب ليسد النقص عن بعض المواد كالصوديوم والكالسيوم. • يدخل فى الصناعات الدوائية ومستحضرات التجميل • يدخل فى صناعة المشروبات الغازية كمادة مجانسة للزيت والماء. • بالصمغ 90% من مكونات مايسمى بالألياف الغذائية الذائبة والتى تغذى البكتريا النافعة. • كما وأنه يستخدم كعلاج لمرضى السكرى وإلتهاب الكلى أضف إلى أنه منشط للطاقة ومعالج للإمساك. إلا أن إنتاج الصمغ العربى تواجهه وواجهته عدة عوامل أدت لتقلبات الإنتاج من سنة لأخرى وان الإنتاج الكلى فى تدهور مستمر. وتعود أسباب هذا الإنخفاض والتذبذب فى الإنتاج لعدة عوامل أهمها: • تذبذب الأمطار والتغيير المناخى • آفة الجراد سارى الليل والتى هى من أخطرالعوامل الطبيعية على الإنتاج • توسع الزراعة الآلية والمطرية على حساب الأراضى المنتجة للصمغ. • عدم توفر مياه الشرب بالصورة الكافية الأمر الذى يعوق عملية الطق واللقيط ويؤدى إلى هجرة سكان الريف من أماكن إنتاج الصمغ. • سياسات التسويق الغير مجزية للمنتجين • ضعف الإرشاد الغابى. • إنعدام المخزون الإستراتيجى الأمر الذى يشجع تسويق بدائل الصمغ. ولترقية إنتاج الصمغ العربى والنهوض به يجب الإهتمام بالأتى: 1. العمل أولاً على حل مشاكل المنتجين والوقوف على مشاكلهم وذلك بعد إجراء دراسة إجتماعية مستفيضة تستهدف معرفة المشاكل لوضع الحلول اللازمة. ولعل من أهم المشكلات التى يعانى منها هذا القطاع هى مشكلة قلة أو إنعدم مياه الشرب الأمر الذى يؤدى لهجرة أعداد كبيرة من السكان من قراهم. أضف إلى ضعف أو إنعدام الخدمات الضرورية الأخرى الجاذبة للبقاء والتوطين. ولعل مشروع مد المياه بالفناطيز الذى مولته شركة الصمغ العربى ونفذته إدارة التنمية الريفية بوزارة الزراعة بولاية شمال كردفان فى ثمانينات هذا القرن كان يهدف إلى توطين وإستقرار المنتجين بأماكن الإنتاج وذلك بإستجلاب المياه لهم فى قراهم من المصادر القريبة. أما المشكلة الثانية هى مشكلة تكلفة الإنتاج وتكلفة طق الصمغ واللقيط فتكلفة الإنتاج أعلى من عائدات الإنتاج. فيجب التفكير فى حل هذه المعادلة التسويقية المجحفة والغير محفزة للإنتاج. تشجيع القطاع الخاص وراس المال الأجنبى للإستثمار فى مجال إنتاج الصمغ. إمتداد خدمات البنك الزراعى والبنوك التجارية الأخرى لتشمل أعمال إنتاج الصمغ. تشجيع المنتجين التقليديين لزراعة الهشاب فى حيازاتهم وإعادة تعميره وذلك بتوفير البذور المحسنة والشتول والإرشادات الفنية والقروض المالية اللازمة. وأخيراً يبقى أمر إستزراع شجرة الهشاب وإعادة تعميرها أمراً ملحاً وعاجلاً، إذ يجب ان يتصدر ذلك اولى إهتمامات السياسات المركزية والسياسات الولائية بولاية شمال كردفان. لابل أرى ان أهمية عملية إستزراع شجرة الهشاب أمراً يتطلب نفرة قومية وصندوقاً قومياً ووثبة جماعية لدعم مجلس الصمغ العربى للقيام بأدواره المنوطه به ولدعم كل الأنشطة اللازمة لإعادة الإستزراع والتشجير، لتتوطن شجرة الهشاب فى موطنها بذات تلك الكثافة الإنتاجية التى كانت تزخر بها غابات كردفان ولتبقى مدينة الأبيض كما هى، أكبر سوق للصمغ العربى على الأراض. وعندها فقط يحلو لنا ان ننشد مع الحردلو: ياشدر الهشاب قوم ثانى فرهد وشيل السودان خلاص كسر قيدو وقام هميم بلحيل