عندما كان المبعوث الامريكي الجديد من قبل وزارة الخارجية الأمريكية الى السودان، السفير برنستون ليمان،يتحدث أمام النواب الامريكيين في جلسة أمام لجنة مجلس النواب الأمريكي للشؤون الخارجية، عن تفاصيل خارطة طريق أمريكية للحكومة السودانية، تتعلق بخطوات التطبيع بين واشنطنوالخرطوم في الفترة المقبلة من عمر السودان الواحد .كانت الأمور قد حسمت تماماً على الارض هنا في الخرطوم .انفصل الجنوب وحزم امره استعداداً لتكوين دولته الجديدة ،بينما تغير الكثير في ملف العلاقات السودانية المتأرجح ،حتى تلك اللحظة،التي وقف فيها ليمان أمام النواب وهو يرسم خطة جديدة للتطبيع مع الخرطوم ،كانت عبارة عن تفاصيل الخطاب الذي بعث به الرئيس الامريكي باراك أوباما لحكومة الخرطوم مفصلاً فيه ،خطته الجديدة للتطبيع ،الذي كان حتى وقت قريب من عمر حكومة الانقاذ ،أمراً مرفوضاً ويندرج تحت الخيانة الوطنية العظمى .بيد أن تفاصيل الخطاب الذي حمله للخرطوم السيناتور جون كيري ،الذي يترأس لجنة العلاقات الخارجية بالكونغرس الامريكي ،يحمل هذه المرة كما في المرات السابقة شروطاً أمريكية تعبر عن مطلوبات المرحلة السودانية الجديدة ،فقد كان الاعتراف باستقلال الجنوب في حال تصويت الجنوبيين للانفصال حينها ،احد الشروط التي وافقت عليها الخرطوم فور اعلان النتائج الأولية للاستفتاء ،دون أن تفي واشنطن ب»جزرة» سحب السودان من قائمة الدول الراعية للارهاب واستئناف الحوار وتبادل السفراء والالتزام بتقوية العلاقات الاقتصادية مع السودان،وفق ما وعدت في رسالة أوباما الأخيرة للحكومة السودانية .وهو الامر الذي دفع الخرطوم حينها الى وصم المساعي الامريكية للتطبيع بغير الجادة ،الا أن ليمان رد مؤكداً على حرصهم على السير نحو التطبيع الكامل مع شمال السودان ،مستدركاً أن خارطة الطريق لتطبيع العلاقات، تعتمد على أفعال الخرطوم وليس أقوالها، مشيراً الى أنه و بعد اعتراف الحكومة في الشمال بنتيجة الاستفتاء ،سيتحرّكون، لرفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للارهاب، لكن الأمر وفق ليمان لن يتم قبل حل القضايا العالقة مثل البترول والحدود والجنسية والمياه وقضية أبيي وحل الأزمة في دارفور . قبل أن يضيف الى قائمة شروطه الطويلة «العسيرة» وهو يهم بالنزول من على منصته بالكونغرس ،أنه بعد أن تقوم الخرطوم بالايفاء بكل هذه الشروط سيعود مرة أخرى للكونغرس لاطلاعه عليها ،ليقوم بدوره هو الاخر في الايفاء بالالتزامات التي قطعها للشمال .ومع وضوح خارطة الطريق الامريكية ،الا أن ثمة ضباب متكاثف حول النية الحقيقية لللوبيهات المختلفة ،داخل الكونغرس الامريكي حول الخطوات القادمة تجاه الخرطوم ،خاصة في الوقت الذي لاتزال فيه النيران مشتعلة في أطراف دارفور وقلب أبيى .فالاستفتاء والاعتراف به حسب ليمان ليس الفصل الأخير في اتفاق السلام الشامل، لان هناك الكثير من العمل لا يزال يتعيّن القيام به لضمان أن الاستفتاء سيؤدي الى السلام الدائم والاستقرار للجميع في السودان الجنوبي وماتبقى من الشمالي . الخرطوم من جانبها ترى أن الولاياتالمتحدةالامريكية ،غير جادة تماماً في تطبيع علاقاتها بها ،مشيرة الى لحجم التأثيرات وقوة الضغط والتنافس الحاد بين اليمين المتشدد والمحافظين الجدد، أثر كبير في جعل الادارة الأميركية بكل دوائرها الداخلية تتخذ القرارات الخطأ تجاه التطبيع مع الخرطوم ،وفقاً لتحليلات المؤتمر الوطني الحاكم الذي يعزو التعقيدات التي لازمت الحوار بين الخرطوموواشنطن الى مايسميه بالتداخلات والتقاطعات داخل منظومة الحكم الامريكية ،حسبما يفصل ذلك القيادي به ووزير الاعلام السوداني كمال عبيد ،مشيراً الى أن الادارة الأميركية،قد فشلت تماماً في قراءة أوضاع السودان الداخلية ،لأنها اعتقدت أن انتخابات 2010م ستؤدي لانفراط عقد الأمن، وأن استفتاء الجنوب سيفقد البلاد مطلوبات الحرية والديمقراطية وسيؤدي لانفجار الأوضاع الداخلية. قبل أن ينعي الحوار السوداني الامريكي في حديثه للصحفيين أمس الاول ،مبيناً أن الحوار مع الولاياتالمتحدة لن يؤدي لنتائج سياسية واضحة بسبب التنافس والتقاطعات الحادة بين متخذي القرار الأميركي،واصفاً النظام السياسي الأميركي بأنه يعاني من اشكالات بنيوية معقدة تجاه كافة القضايا السياسية والاقتصادية والأمنية العالمية، مشيراً الى ان التأثيرات التي ظهرت على خلفية تلك التعقيدات أوضحت للعالم أجمع حجم الأخطاء الجسيمة لدى النظام الأمريكي.لكن أمريكا لازالت متمسكة باهداب الحوار مع الخرطوم ،حسبما تقول بذلك تقارير لجنة الشؤون الخارجية بالكونغرس الامريكي ،التي تمضي الى أنه وعلى الرغم من انفصال جنوب السودان ،الا أن استقرار الشمال مُهمٌ بالنسبة للامن القومي الامريكي ، وأنه بحسب اتفاقية السلام الشامل يجب أن يحدث تغيير سياسي في الشمال، لكن هذا الأمر لم يحدث لأن الاتفاقية لم تنفذ.وقائع الاحوال كذلك تشير الى أن السياسة الخارجية الامريكية تنبني أساساً على مصالح الشعب الامريكي الاستراتيجية ،والتي تتحكم فيها بالطبع مجموعات ضغط ،تمثل قوى رأس المال المالك من بنوك وشركات كبرى وما الى ذلك من القوى الرأسمالية التي تتحكم في رسم الخطوط العريضة للسياسة الخارجية الامريكية ،وبناءً على كل هذه المعطيات فان السياسة الخارجية لاية دولة اخرى تجاه الولاياتالمتحدةالأمريكية ،ينبغي أن تنتحي منحى موازياً ،يفصله المحلل السياسي المعروف الدكتور حاج حمد محمد خير ،مشيراً الى أنه لايمكن التعاطي الايجابي مع امريكا الا بانتهاج سياسة خارجية متوازنة تقوم على التعامل بالمثل في مجابهة السياسة الخارجية الامريكية ،وهو الامر الذي لن تستطيع اليه حكومة المؤتمر الوطني سبيلاًحسبما يرى حاج حمد لكون النظام الحاكم الان في السودان قد أتى للحكم عن طريق امريكا ،وبالتالي يتعذر استمراره على سدة الحكم دون رضاها عنه ،وما حديث كمال عبيد وغيره عن معاداة امريكا سوى حالة درامية شبيهة بالتي يعيشها البطل في أساطير سوفوكليس المسرحية ،بحسب حاج حمد الذي وصف في حديثه ل«الصحافة » أمس السياسة السودانية تجاه أمريكا بالعشوائية غير المبنية على المصالح الاستراتيجية لشعب السودان ،مبيناً أن الخرطوم أخفقت في كثير من الاختبارات فيما يتعلق بالعلاقات مع أمريكا لكونها تقدم التنازلات للحكومة الامريكية دون ان تلعب على حبائل تناقضات المصالح الامريكية الاستراتيجية. [email protected]