قدمنا في عدد الجمعة الماضية الحلقة الاولى من هذا المقال حول استخدام الكلمات في الشعر والنثر ويواصل الكاتب هنا تقديم فكرته حول انماط الكتابة . (المحرر) مثال النمط الاول: سأروح بين وفود مكة وافدا ٭٭ حتى اذا صدروا فما أنا بصادر وهذا كما ترى جنوح ظاهر الى استخدام الكلمات النثرية يسير بها ناظمه في طريقة الشعر الى ما يسمى بالإخلاء ، فكأننا نصطدم بمحاولة شكلية لتحويل الافكار النثرية عن طريق الكلمات النثرية الى شعر ذي وقع رصين بالغ الحلاوة، غير ان ذلك مستحيل. ومثال النمط الثاني: لا تذكروا أبي وحبله القصير ومرتقاه الوعر في كفاحه المرير لا تذكروا جناحه الكسير لا تذكروا أبي وجرحه الكبير فإنك عزيزي القارئ ترى أن الكلمات: حبله، كفاحه، جناحه، جرحه، تطلب وتستدعي باضطراد صفاتها، فالحبل يستدعي القصير، والكفاح يدعو المرير، والجناح يدعو الكسير، ، والجرح يدعو الكبير، وهذه ليست لغة شعر بل هي لغة النثر، كأنك تقول على سبيل المثال في كلمات، القمر، الشمس، النجوم، صفات المنير، الساطعة، المتلألئة، على التوالي، وكثيرا ما يقع في مثل هذا العيب اللغوي الخطير بعض الشعراء الذين يريدون التعبير عن موضوع مجتمعي غير شعري باستخدامهم بطريقة ميكانيكية - بقصد او دون قصد - لغة غير شعرية، ومثل هؤلاء يجب عليهم الانتباه للغتهم الشعرية. وهذا لا يدعونا للقول إن جميع الانماط الشعرية التي تبتعد وتنأى عن الواقع الاجتماعي، كلها شعر جيد، حيث لا يغيب عن ذهن المتذوق للشعر ان هناك شعرا حديثا يكتبه البعض يكاد يحسبه المرء عبارة عن ثرثرة لا طائل منها ولا معنى ولا غاية، فالتعبير عن المجتمع لا يعني سقما في الروح الشعري كما لا تعني العزلة عنه جودة ورهافة حس وصنعة رائقة.. والواقع أننا امام صوتين، تحمل كل منهما من الدرجات ما يجعله مساويا للآخر، فالصوت الاول هو صوت الشاعر في العزلة، والثاني هو صوته في المجتمع. ونجد ان الاول يملك خصائص وقدرات لا يملكها الثاني، ومنها هذه القدرة الواسعة على استخدام الكلمات الشعرية في المكان الصحيح.. اما الثاني فيملك القدرة الهائلة على تحسس المضامين الحياتية للمجتمع ... فالكلمات في الصوت الاول لها قوة دفق وميزة خاصة تتأتى نتيجة للصقل المستمر المتواصل. وايضا نتيجة للقدرة الفائقة على عزل المضمون الشعري عزلا تاما عن الواقع.. الذي يشكل في معظم الاحيان خطورة على الشعر.. ونادراً ما نجد من النماذج التي استعانت بالواقع دون أن تقع في براثن التلوث بالتقليدي فيه وبالوثائقي، وارتباط جمالية الشعر عند الصوت الاول متصل بالعقل لا بالواقعية. فتأمل «المجنون» في استخدامه صورة العقل في مكان الواقع: فبعد ووجد واشتياق ورجفة ٭٭ فلا انت تدنيني ولا أنا أقرب كعصفور في يد طفل يخرسها ٭٭ تذوق حياض الموت والطفل يلعب فلا الطفل ذو عقل يرق لما بها ٭٭ ولا الطير ذو ريش يطير ويذهب فالكلمات هنا افصحت عن حالة وجدانية لا يملك المتذوق إلا ان يضع يده على الصورة والانفعال عن طريق هذه الكلمات الدافقة، والملاحظ هنا ان الاحالة ليست تعديلا للمسار الذي تضرب فيه عواطف الشاعر، وإنما هي للتدليل والشرح، فالصورة الواقعية يمكن أن تكون بدائل وصفية للحالات المطروحة تنسجم مع ما يطرحه البنيان من صفات، كما اننا يمكن ان نلاحظ بوضوح أن استخدام الصورة الواقعية لا ينطبق الا على وصف الأشياء الخارجية فقط، كما يظهر جلياً في أبيات السياب التي تحكي عن طريق مرعب وموحش: درب كأفواه اللحود لولا التماعات الكواكب وانعكاس من ضياء تلقيه نافذة ووقع خطى تهاوى في عياء ولا شك أن استخدام الشاعر الواقعي للكلمات استخداما نثريا جعلنا نحس في جمالياته صلة عميقة بالخارج المتعين، بمعنى أن صوره الفنية ليست عقلية بل مأخوذة أخذاً من الواقع الماثل الخارج عنه.. وحينما يتناول الموضوع قرينة جمالية بحتة فإنما فقط ليجعل من الاقتران وسيلة للشرح والافصاح، ولا يعني ذلك ان الشاعر يختار الموضوع ويكتبه ثم بعد ذلك يضع او يضفي عليه المادة الجمالية، وما نود ان نقوله ان (المادة الجمالية) عند الشاعر الواقعي مستمدة دوما ودائما من مظاهر الواقع الخارجية والمحالة دوما الى الانفعال الوجداني الداخلي. ويكتسب الموضوع الشعري صفته الشعرية اثناء عملية المزاوجة بين الجماليات والموضوع المطروح. وهي مزاوجة عقلية، وهو الانفتاح الذي يؤدي الى ضرورة ان يكون التعبير بالصورة متسقا ومنسجما كامل الاتساق والانسجام، مع الحادث او الذكرى او الواقعة. ولعلنا لا نشتط ان قلنا ان ذلك قد يعني ان «الفن» هنا عنصر مضاف الى الواقع الخارجي، الا انه ليس كذلك بالضبط، لأن الشاعر يقوم بعملية «جبر» كي يضبط ويوائم بنية مشروعه الواقعي مع بنية الشكل الجمالي في الخارج. أما شاعر العزلة فهو يستخدم موضوعات منتقاة بعناية، والكلمات التي يستخدمها شاعر العزلة هي كموضوعاته متدفقة من نبع تلقائي عفوي. وبالمقارنة بين طبيعة الكلمات التي يستخدمها الشاعر الواقعي وشاعر العزلة، يتبين لنا امرا يعتبر من الاهمية بمكان، فكما سبق ان قلنا.. يحدد الموضوع او التجربة صوره الفنية، مثلما تحدد الكلمات التي يستخدمها الشاعر تعبيراً عن هذه الصورالفنية، فالتجربة ثقل وسطوة ينوء تحتها الشاعر الواقعي ولا يستطيع الفرار من اطر هذه التجربة التي تحدد مساره وتضبط له عالمه، ذلك ان الموقف العقلي والاخلاقي الذي يرتبط به شاعر الواقع، ليتم بناء الهيكل العام الذي يسجل فيه الحدث الشعري من خلال عملية مراقبة الواقع وفحص كنهه، وهي كما ترى عوامل عقلية، وما يحسنه الشاعر الواقعي لا يحسنه شاعر العزلة، ان قصائد الاول تموج بالحركة ومنشأها الحراك والنمو الاجتماعي والصراعات والتناقضات التي يزخر بها المجتمع، وتنعكس كل تلك الحركة تلقائيا في عمله الفني بكل ما فيها ممن تفصيل، اثناء عملية التسجيل، اما شاعر العزلة، فأكثر الحركات تموجا قد تصبح عنده مادة عصية او على الاقل مادة غير مهمة، نتيجة تنحيه واستخدام ما يجده الشاعر متوافقا ومتجانسا مع رؤيته الفنية، فتجعل موقفه ثابت غير «ديناميكي» فالجمال حس جامد والعطاء الذي يمنحه المجتمع لمثل هذا الشاعر عطاء غير مكتمل، وبهذا يتشكل لنا خطان متوازيان في الشعر، خط يمثله عالم الكلمات الحية، لدى شاعر الواقع تعبيرا عن رؤية حية للمجتمع، وخط يمثله عالم الكلمات المجنحة لشاعر العزلة تعبيراً عن رؤية خيالية.