الكلمة هي الوسيلة التي نعبر بها عن الافكار سواء أكانت هذه الافكار نثرا ام شعرا. ونحن في بحثنا هذا بصدد استخدام الكلمات، سنحاول بقدر المكان الا ننجر وراء التجريد، لأن التجريد قد يمنعنا من تحديد ما نرمي اليه حين التعرض لبحث دلالات الكلمة في الشعر، كما أن شيئاً منه لا بد.. وذلك أن تحليل الكلمات يجرنا الى فحصها لغويا وموسيقيا.. فدراسة الكلمة وحدها لغويا لا تجر الى غموض المفاهيم قدر ما تجر اليه دراستها في صلتها بالبناء الشعري. وهي الصلة الوحيدة التي تفصل بين الموسيقى بوصفها نغما مطلقا وبين الشعر بوصفه مادة موسيقية. يقول الدكتور عبد الله الطيب، يرحمه الله (وانت تعلم ان الجرس اللفظي مهم جدا في ابراز موسيقى الاوزان، كما انه مهم جدا ممن حيث انه المكون للكلمات التي تكون اداء الشاعر، وعن طريقها تظهر المعاني التي يقصد اليها..) - المرشد. وفي هذا المنحى مثال قول زهير: وإن أحسن بيت أنت قائله ٭٭ بيت يُقال إذا أنشدته صَدَقا وفي مستهل بحثنا هذا يحسن بنا أن نعقد مقارنة مختصرة بين دلالات الكلمة في النثر ودلالاتها في الشعر للوصول إلى تفرقة حاسمة بينهما، للنظر على ضوئها الى تمييز الفرقة، أو تحديد علاقة الصلات. فالكلمة في النثر لا تعطي سوى دلالة واحدة جبرية تحدد في وضوح وصرامة تامة ماهية المراد والمقصود، ونحن حين نقول لأحد اكسر الحائط، او افتح الباب فنحن إذن نعبر عن تصوير فعل تاريخي تم في الماضي متعارف عليه، كما أننا دائماً نعيد تأكيد الفعل الأول محددين هنا بشكل جازم وصارم علاقته بالواقع بما يوحي معناه أن لغة النثر هي جزء عميق الصلة بالواقع الاجتماعي، وما دامت هذه اللغة هي الصلة الوحيدة بين الناس.. فالسؤال هنا هل تختلف لغة الشعر عن هذه اللغة؟ وإذا اختلفت فهل تفصح؟ من الطريف أنني لازلت أذكر من أيام المرحلة المتوسطة أن أستاذ التاريخ قال لنا ذات يوم: ان النساء هن من اخترعن اللغة!! وكان ذلك في معرض كلامه عن الانسان القديم... وعلل ذلك بقوله: عندما يذهب الرجال للصيد والقنص يكون للنساء متسع من الوقت يجتمعن للثرثرة في بعض شؤونهن. إلا ان اللغة لم تكن معروفة، مجرد اشارات واصوات وصيحات.. وشيئا فشيئا اصبحت تلك الاشارات والاصوات ذات مدلول ومعانٍ متعارف عليها بينهن، وهكذا كانت اللغة، وربما اختلاف الألسن نظرا لاحتمال اختلاف البيئات المحيطة. أردت من هذه الطرفة التي مازالت مخزونة في الذاكرة.. أن أدلل على ان الروابط الجماعية في المجتمع هي التي خلقت واوجدت اللغة التي يتخاطب بها الناس، ذلك انها جزء مهم وخطير من العلاقة بين الفرد والمجتمع المحيط به، ومن غير الممكن أن نتصور مجتمعا ما بدون وسيلة من وسائل التخاطب والتفاهم، او نقل الافكار والتعبير عنها، مهما كانت الوسيلة. بيد أن لغة الشعر ليست وسيلة للتخاطب، بمعنى ما في لغة النثر من إشارة وتحديد صارم ومباشر للموضوع، وحذف وبتر لكل ما هو زائد وخارجي، وبالمقابل يمكن القول إن الشعر من خصائصه الاحتفاء بما هو زائد وخارجي، بل ويهتم به أكثر - أي بما تبتره لغة النثر وتتحاشاه وتتجنبه. ورغم ذلك فلغة الشعر تصدر عن المجتمع كما تصدر لغة النثر، كما انهما تشتركان في غاية واحدة، هي غاية الوصول للجمهور متصلة دائما بالفهم والادراك، والتطلع، اتصالا لا فكاك منه. كما أن للنثر حدودا فكرية تصيغ اطارها الكلمات المستخدمة، نجد ان للشعر ايضا اطارا مثل النثر، الا انه اطار واسع مطاط بعيد الغور في اللفظ ومعاني الكلمات، ما يضفي عليه جلالة ورونقا بهرا يتغلب فيه التطلع إلى عالم تغلب عليه الشفافية والتجريد. وفي اطار هذا الاستخدام فالمجتمع الذي لا يسمح للنثر ان يتعدى حدود الصلات الاجتماعية يقبل من الشعر ان يتجاوز هذه الحدود، وان يوغل في اجتيازها، ذلك لأنها شريانه وعصبه ولحمته، وهذا السماح، يمد اللغة الشعرية بقدر هائل من خصائصها الرمزية والمدلولية، وبدون هذا التجاوز لا يستطيع الشعر أن يحيا ويمارس قدراته. إذن فإن المجتمع الذي سمح للغة الشعر ان تتخطاه رغم صدورها عنه يأذن كذلك لعناصر الكلمات ان تكون مختلفة وعلى اتساع مداها، حتى تعطي الشعر حريته وانطلاقه غير المحدود فتمكنه من ان يطول ما لا يمكن ان تطوله الكلمات، غير ان لغة النثر تظل مرتبطة دائما وبصورة وثيقة وفق ما يحدده العالم الطبيعي المتصل بالأشياء هذا وليس بالامكان أن نقيم برهانا على أن هذه الأشياء هي ما هي عليه في الطبيعة في لغة الشعر. ذلك لاعتماد الشاعر على الاحالة لابراز الصورة التي في ذهنه ودواخله، مما يجب معه تأهيل الكلمات وتدفقه دفقا لاعطاء الكلمات معنى جديدا بصورة غير مباشرة تحاول أن تكشف صورة قد تكون غامضة او جزئية او رامزة. هذا ولا عجب أن انماط التعبير الشعري من هذه الانماط الثلاثة هي التي تحيل كلمات الشعر من واقعها لتعطيها مذاقها وطعمها الخاص المختلف عنه في النثر، فالغموض الشعري حالة عقلية غير غموض النثر تتجلى حين يريد الشاعر مداهمة المطلق لتجاوز تعبيره إلى ما لا يمكن التعبير عنه مباشرة، لأن التعبير المباشر يعد من خصائص النثر وفصاحته. هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى لأن مداهمة المطلق تتطلب ألا تكون للكلمات دلالات تطبيقية وتاريخية تعيدها الى صورتها المادية المكثفة، وكذا نمط الصورة الجزئية نمط تعبيري لا يختلف عن النمط التجريدي السابق، فإن محاولة الشاعر الإحاطة بالكل والامساك به تدفعه وتحفزه لطلب هذا الكل في الجزئيات والتفصيلات الصغيرة، وان هذه الصورة التجريدية تتغلف الصورة الجزئية وتندمج بها. فبرعم النبتة النابتة لتوها، او اوراق شجرة ذابلة مثلا، يلح على الشاعر في ادراك الصلات الحقيقية بين المثال اعلاه وبين الحياة والموت في الكون. وهكذ الرمز، حين يحول الشاعر شكل تلك النبتة والاوراق الذابلة الى بناء يتكلم عن بداية حب أو ذبول علاقة حبه، وبذلك يقيم معبرا معنويا يتعدى حدود الاشياء في ذاتها ويصل الى طبيعة الشيء، او العلاقة التي في ذهنه هو، حيث تفصح عنها الصورة افصاحا احتماليا.. فالكلمات في الشعر تستخدم فقط لدلالاتها المعنوية، لا حرفية صلتها بالارض والواقع. إذن فالكلمات في الشعر ليست تعبيراً عن واقع اجتماعي، رغم نشوئها وصدورها عن هذا الواقع الحي المتعين، ولو كانت كذلك، اي انها تعبر بالفعل عن مثل هذا الواقع. لاكتفت والتزمت بما التزمت به لغة النثر من صلة عميقة بالأشياء لكنها غير موحية. قد يقول قائل إن الشعر العربي القديم مليء بالقدرة المذهلة الكاشفة للواقع الاجتماعي من خلال الندب والتفجع والبكاء على الاطلال. نقول هذا صحيح ولكنها أيضا قدرة فائقة على إخفاء مثل ذلك الواقع الاجتماعي والانطلاق منه الى اهداف وعوالم اخرى جد مختلفة.. فالوثائقية التي يزخر بها الشعر العربي القديم سريعا ما تنجاب وتنزوي، إذا طرح المتذوق طلاء الوثائقية الخارجي.. ذلك أن الشعر العربي ذاتي لدرجة كبيرة.. وهاك بعض النماذج.. كقول المرقش: ألا يا سلمِي لا صُرم لي اليوم فاطِما ٭٭٭ ولا أبداً ما دام وصلُك دائما ولابن زيدون: أضحى التنائي بديلاً من تدانينا ٭٭ وناب عن طيب لقيانا تجافينا وقال جماع: أنتِ السماء بدت لنا واستعصمت بالبعد عنا ماذا عليك إذا نظرنا غير أننا نلفت الانتباه هنا ان الذاتي قد تخالطه عناصر غير جد ذاتية مثل الحكمة كما ترى في قول المرقش: ألم تر أن المرء يجذم كفّه ٭٭ ويجشم من لوم الصديق المجاشما فمن يلق خيراً يحمد الناسُ أمره ٭٭ ومن يغوِ لا يعدم على الغي لائما وأبو تمام في قوله: السيف أصدق إنباءً من الكتب ٭٭ في حده الحد بين الجد واللعب نعود الى الذاتية في الشعر - قلنا ان الشعر العربي ذاتي الى حد كبير رغم أننا نجد في مطالعه كما هائلا من التسجيل الوثائقي التقليدي، وتتضح السمة القبلية بصورة بارزة وجلية في قصائد الشعراء الذين يعبرون عن روح هذه القبلية وتمردها وسخطها وتطلعها، إلا ان هذه الروح القبلية سريعا ما تتبخر وتتلاشى عندما يشاء الشاعر ويقرر ان يصبح ما هو.. تعال الى امرئ القيس بعد مطلعه البكائي على الاطلال، ذات المضمون الوثائقي نراه يقول بعد ابيات من هذا المطلع: وواد كجوف العير قفر قطعته ٭٭ به الذئب يعوي كالخليع المعيَّل هذه الصورة الشعرية بكل ما فيها من ادراك جمالي ذاتي معبر عن مضمون واقع اجتماعي، الا انه لا يعبر شكلا عن هذا الواقع.. ومن هذا التناقض يزدهر الشعر ويحيا. والشعر ينقسم الى صوتين، الاول صوت الشاعر في العزلة، والثاني صوته في المجتمع، والكلمات هي سبيل الشاعر الى عرض افكاره التي لا تتسم بالوثائقية... لأن كل كلمة يكتبها ينبغي لها ان تساوي شيئا ملموسا متينا واضحا محددا، إلا ان الارتباط الماثل بين المتعين الماثل وبين الصورة المحالة هي التي تعزل الشعر عن الواقع الاجتماعي، ومن الضروري جداً ان نضيف نمطين من الشعر احدهما هو النمط الذي يؤكد عن قصد وتعمد هذا الاتصال الحميم بالواقع الاجتماعي، بحيث يتعذر فيها فصله عن النثر، والنمط الثاني هو ذلك الذي يسقط في حبائل وشراك الوثائقية دون ان يدري.