(1) كيف تكون وحيدا وسط تلال من الهياكل البشرية ؟، كيف تزرع في وجنتيك ابتسامة وسط جبال من الغبن ؟، كيف تتحدث بلسان بغير لسانك ؟، وكيف تظهر شجاعة مصطنعة وأنت ترتعد خوفا من الآخر ؟. (2) في المدينة تتراجع علاقات النسب أو تلك القائمة على نسيج الدم مقابل علاقات جديدة غير مستقرة، متحولة ومتحركة وفق مصالح هي بدورها دائرية لا تكف عن الحركة، الولاء والانتماء والتلاقي اليومي القائم على أسس القرابة يكاد يتلاشى بسبب دائرة من الذهول والركض المتواصل. (3) هذه الوشائج المشبوهة تذكرني ب (خليل) بطل قصة معاوية محمد نور (ابن عمه)، هذا البطل كان يعيش في المدينة مذ زمن طويل، إلا أن دواخله ظلت رافضة لنتاج النسيج الاجتماعي للمدينة، يراها قائمة على كل شيء عدا النقاء. (4) عندما استقبل في إحدى الأيام صديقه وابن عمه ورفيق طفولته (يوسف) الآتي من القرية إلى المدينة، ابتهج كما لم يبتهج من قبل، وظن أنه سيستعيد بنقاء قروي كل تفاصيل قريته وطفولته، ولن يفارق (يوسف) للحظة واحدة، ولكن هل وهبته المدينة ما أراد ؟. (5) تدريجيا اندمج (يوسف) في حياة المدينة، كان أكثر تصالحا معها من ابن عمه، أكثر مرونة وانفتاحا، تمددت علاقاته الاجتماعية، واتخذ له صديقا آخر على أسس أخرى، قلت زياراته لابن عمه. شعر (خليل) بشعور مرير .. شعور بالتجاهل واللااعتبار، أحس بالفراغ يملأ دائرته الضيقة. (6) غيظ وغبن وغضب وحنين عارم لحياة أخرى ضاق بها صدر (خليل) للدرجة التي قرر فيها قتل ابن عمه: (كان الليل مظلما في تلك الليلة، ظهر يوسف ورآه خليل فأرغي وأزبد كالثور الهائج، ولما دنا منه تحفز خليل يريد الانقضاض عليه ..) (7) بغض النظر عما حدث في نهاية القصة، لا يوجد قاتل هنا بقدر ما يوجد مقتول، فعدم الادراك السليم لطبيعة العلاقات بين البشر في المدينة، تلك العلاقات التي لا تضع قيمة كبيرة لعلاقات الدم والنسب والجيرة كان هو القاتل والمقتول في آنٍ واحد. (8) لا يشعر المهاجر أو قل تحديدا النازح من القرية إلى المدينة بمجمل التغيرات التي تحدث في سلوكه خاصة على مستوى التواصل الإنساني، يعتقد بأنه أفلح في نقل قيمه السامية معه، ولا يدري أن سلبيات الإيقاع السريع التي تتسم به حياة المدينة قد تغلغلت في وجدانه. (9) عادة ما يشرع النازح الجديد في توزيع حصص من اللوم والخصام على كل أقاربه في المدينة الذين لا يهبونه وقتا من وقتهم، دون أن يدع لهم فرصة ليبرروا له سبب الصلات الإنسانية المبتورة هنا، فينتهي به الأمر عادة بثلاثة خيارات لا رابع لها. (10) فإما أن يرفض الواقع الجديد ويعود من حيث أتى، أو يستلسم ويدمر سماته القديمة لصالح صفات جديدة، أو يعيش مشروخا من الداخل فلا هو قروي ولا هو مدني.