الخلاف السياسي: وبعد المهدية جثم على السودان الحكم الثنائي الغاصب، وعمل على تصفية آثار المهدية الإسلامية في كافة الاصعدة، وحكم السودان بدستور مؤقت «احكام عرفية» فيه صفة العلمانية. إلى أن قيض الله للانصار قائدا فذا ذلك هو السيد الامام عبد الرحمن المهدي مجدد المهدية الثانية، وقد كانت مهمته عسيرة، فكان عليه رعاية اسرته الصغيرة واسر الخلفاء الذين استشهدوا في معارك القتال، وان يجمع شمل السودانيين مرة اخرى، وقد بذل كل جهده ووقته وحاله في تحقيق هذه الغايات. وقد واجهته في أثناء مسيرته عقبات كثيرة، وواجه خلافا فكريا واقتصاديا وسياسيا، وعمل على تذليله بجهوده وصبر لا مثيل لهما، ولذلك فإن جهاده السلمي لا يقل عن الجهاد الحربي الذي سار عليه والده وخليفته وقد قال الشاعر: ابوك غزا بالسيف فانقاد من طغى... وسيفك للاعداء رأي مسدد وأهم وجه الخلاف الديني في الأسئلة التي وجهت له في ممارسة الشعائر الدينية، وكان يرد عليها في مجلس الاثنين في توضيح مقنع، مثلا قيل له في الصلاة، اذا كان الامام مالكيا كيف نصلي وراءه، والامام المهدي قد الغى مذهبه، وانه لا يستعذ في الصلاة، فكان رده انك في سرك قبل دخول الصلاة تقول «اقتديت بسيدي رسول الله ووسيلتي الدالة اليه الامام المهدي وبهذا الامام القائم ثم تكبر، وفي كيف نستخرج الزكاة والحاكم نصراني، فرد ان الزكاة تخرج للاقربين والمحتاجين الى ان يصدر لكم مني قرار بشأنها، ثم كان قراره بأن تورد الزكاة للامام لتوزيعها على فقراء الانصار وسميت «حق الله». والجدير بالذكر أن بعضاً من ايراد هذه الزكاة كان يأتي من مشاريع النيل الابيض الخاصة التي لعب الامام عبد الرحمن المهدي دورا مهماً في انشهائها بتشجيعه للمقتدرين باستصلاح الاراضي، وكان جزءاً من هذه الزكاة «العيوش» يرسل الى خلاوى جنوب السودان للسلاطين الذين اعتنقوا الاسلام في فترة المهدية في اطار المؤلفة قلوبهم، كما أنه انشأ دائرة المهدي الزراعية والاقتصادية لتمويل كيان الانصار الذي بدأ في تجميعه في الجزيرة «ابا»، وقد أدت هذه الدائرة دورا مهماً في خلق كيان ومجتمع انصاري نظيف في الجزيرة ابا، سرعان ما تسارع اليه الانصار من كل حدب وصوب ليشاركوا في البناء الاقتصادي له، وليسهموا في رد الاعتبار لبيت المهدي، فكانت هجرات المهاجرين الى الجزيرة ابا. وساهم السيد عبد الله الفاضل المهدي في دعم هذا الصرح الاقتصادي. ولم يذكر في حياة الإمام عبد الرحمن خلاف يذكر، اذ انه ربط الانصار بالناحية الروحية والناحية السياسية، ووفق الى حد كبير فيهما، والشيء الذي اثاره بعض الناقمين عليه انه اوكل مهمة الحوار والعمل السياسي الى افراد ليست انصاريتهم كاملة، ولكنهم مثقفو هذا البلد ووجهاؤه، وبرزا منهم شخصيات مهمة فيما بعد لعبت دورا في دفع العمل السياسي في السودان في داخله وخارجه امثال: عبد الرحمن علي طه ومحمد احمد محجوب ومحمد صالح الشنقيطي وعبد الله خليل ومحمد علي شوقي، وكانوا خير رسل له وداعمين لخطه السياسي. وكان السيد عبد الرحمن يتقبل النقد بصدر رحب، ويتأكد من المعلومات التي تصله في مسألة من المسائل من عدة مصادر، ويتأكد من صحتها ثم يتخذ القرار، ولم يكن متسرعا في قراره. ومناديا للانفراد بالرأي، فقد كون له مجلسين. هما مجلس شورى الامام او مجلس الحل والعقد، وقد كان يختص بشؤون الأنصار مثل ترتيب الزيارات والمنزلة والضيافة، وعيد الامام المهدي واحتفالات المولد الشريف، ومكون من شخصيات ذات كفاءة وحنكة، وفيهم ممثلون لبيت الامام المهدي وخليفة المهدي والخلفاء. أما المجلس الآخر فقد كونه بعد تسجيل الحزب بوصفه حزبا سياسيا 5491م برئاسته، يقول عبد الرحمن علي طه «وضع اول دستور للحزب 5491م، وبعد الفراغ من اجازته سئل السيد هل انت رئيس الحزب ام سكرتيره قبل ان نمضي في العمل، ولا بد من تبين الوضع، فاجاب السيد اجابة الرجل الذي يعرف الحياة ورسالته فيها: «اني جندي في الصف معكم، ولكن الله سبحانه وتعالى وهبني بعض الامكانيات المادية ما لم تتيسر للكثير منكم، فسأهب هذه الامكانيات وسأهب صحتي وولدي وكل ما املك لقضية تحرير السودان». وكون مجلس ادارة الحزب من 51 خمسة عشر عضوا هم السيد الصديق المهدي، عبد الله خليل، عبد الرحمن علي طه، عبد الرحمن عبد الله نقد، محمد الخليفة شريف، السيد عبد الله الفاضل، علي بدري، أمين التوم، عبد الكريم محمد، محمد حاج الأمين، احمد الصاوي فضل الله، النفراوي عثمان رحمة، ابراهيم احمد، محمد عبد الرحمن نقد الله، عبد الرحمن عابدون، محمد علي شوقي، محمد صالح الشنقيطي. وكان السيد عبد الرحمن بارعاً في الحوار ومعظم القضايا التي اختلف فيها كان المخالفون له يخرجون من عنده وقد زالت خلافاتهم، وحتى في الحوار مع الشخصيات غير الانصارية او الاجنبية كان دقيقا في انتقاء الكلمات التي تعبر عن رأيه بوضوح، ونجد ذلك في المقابلة التي بينه وبين ايدن 7391م حول ما ورد في اتفاقية 6391م بين مصر وبريطانيا عن ماذا تقصدون بكلمة «تحقيق رفاهية» للشعب السوداني. وايضا ما دار بينه وبين اتلي رئيس وزراء بريطانيا حول الاستقلال ماذا تقصدون بكلمة «تحقيق امانيكم الوطنية»، ولم تشر المصادر الانصارية الى حدوث اي اختلاف طوال حياة السيد عبد الرحمن. ولكن هناك اختلاف رأي حول انقلاب عبود. «ولم تتوفر حتى الآن الوثائق التي توضح لماذا بارك السيد عبد الرحمن انقلاب عبود» الا ما ورد على لسان السيد الصادق والسيدة فاطمة عبد الرحمن في حديثها الى Thomas ولقد تعرضت مسيرة الانصار السياسية الى ابتلاءات اظهرت قوة وتماسك الانصار وتأييدهم لزعامتهم، وخاصة في فترة الإمام الصديق طيب الله ثراه الذي قاوم الحكم العسكري مقاومة لا هوادة فيها، وحافظ على كيان الأنصار متماسكا تحت قيادته، ولم يحدث اي خلاف بينه وبين القيادات التي كانت مبايعة لوالده، وايدت بيعته تلك البيعة التي قال فيها المحجوب: فيا أبا الصادق الصديق... أنت لها ونحن الجحفل اللجب وأما اهم خلاف حدث في كيان الانصار فهو الاختلاف الذي حدث في فترة الديمقراطية الثانية «4691 9691م» بين الإمام الهادي الذي سار في خط الانصار التقليدي وبين ابن اخيه الصادق الذي قاد حملة لتطوير العمل السياسي والشعار الاسلامي، ولم تجد فكرته قبولا من الجهات التقليدية في الحزب. وأدى هذا الخلاف إلى شق الحزب سياسيا الى شقين من 6691 8691م، حيث خاض الانتخابات بجناحين، وكان برنامج السيد الصادق هو ما دعا اليه «اصلاح وتجديد» بينما دخل السيد الهادي بشعار الجمهورية الرئاسية الاسلامية، ورغم الانشقاق فقد حصل حزب الامة بشقيه على ثلاثة وستين مقعدا تمثل اكثر اصوات الناخبين المؤيدين له اكثر من اي حزب آخر، وقد عمل الحادبون على مصلحة الحزب والانصار على احتواء هذا الانشقاق بين السيد الهادي وبين السيد الصادق، وتم الصلح قبل انقلاب 9691م، وظل السيد الصادق مبايعا للامام الهادي حتى اعتقاله في 5/6/9691م. وقد وقف السيد الإمام الهادي موقفا اسلاميا قويا في رفضه للانقلاب الذي كان واجهة للشيوعية. وبعد استشهاد الامام الهادي في اولو بالكرمك تولى مسؤولية قيادة الانصار السيد الصادق المهدي وفق وصية من السيد الهادي. وطوال فترة الحكم المايوي تحمل السيد الصادق عبء النضال لاستعادة الديمقراطية، وتعرض ما تعرض له من سوء المعاملة والاعتقالات، وظل رمزا لكفاح الانصار، وحافظ على كيانهم الروحي والسياسي، حتى جاءت انتفاضة ابريل سنة 5891 التي فجرتها كوادر حزب الامة بجامعة ام درمان الاسلامية، وبعد عودة الديمقراطية ظهرت مرة اخرى عدة انشقاقات، اذ خاض الحزب الانتخابات باجنحة ثلاثة، ونظرا لأن السيد الصادق قد خاض الانتخابات وفق برنامج نهج الصحوة الاسلامية وباسم حزب الامة القومي وبتأييد من الكوادر الشبابية المتحمسة، فقد حصل على ثقة الانصار، ونال اكثر الاصوات، بينما لم ينل جناح آخر في الحزب اي مقعد، وتولى السلطة منذ عام 6891 9891م، حيث تآمرت عليه قوى الشر والعدوان، واطاح حكمه طغمة من العسكر المنتمية للجبهة الاسلامية، وجعلت الظروف الموضوعية أن يصبح السيد الصادق كما كان والده رمزا للكفاح والنضال واستعادة الحريات، ومنذ عام 6891م حدث تطور في حزب الأمة، إذ عقد مؤتمرين مهمين نتج عنهما قيام مؤسسية في الحزب وهما: نتاج مساع مستمرة لتطوير الحزب، فدستور حزب الأمة عام 5491م تم تعديله اكثر من مرة في حياة الإمام عبد الرحمن وعدل بعد انضمام المحجوب. والتعديلات تتفق في ان الامام هو راعي الحزب ورئيسه، وان يكون للحزب سكرتير عام. أما في مؤتمر سوبا فقد أوصت اللجنة الفنية بأن يكون هناك رئيس للحزب وامين وسكرتير عام «ولم يشر الى موضوع الامامة آنذاك» ولكن استعمل السيد الصادق صلاحياته وجعل الامانة من اربعة اشخاص، وفي مؤتمر حزب الامة الثاني أُعيد النظر مرة اخرى في الدستور بعد تقييم تجربة الامناء الاربعة، فاصبح هناك مكتب سياسي ورئيس للحزب وامين عام، وقد لعب السيد الصادق دورا كبيرا في قيادة الحزب وهيئة شؤون الانصار التي اصبحت ايضا ذات صبغة مؤسسية، وانها انتخبته اماما للانصار في مؤتمر السقاي 2002م. ورغم النهج الذي اتبعه السيد الصادق في تأهيل نفسه اكاديميا وان سيرته الذاتية زاخرة بالاوراق العلمية والمشاركة المستمرة في السمنارات والمؤتمرات الدولية، اذ قدم اكثر من ثلاثمائة ورقة، فإن هناك بعض الاطراف المؤثرة التي لها رأيها في مسيرة الحزب وهيئة شؤون الانصار، وهم السيد محمد داؤود الخليفة والسيد احمد المهدي الذي اعلن انه الامام بالوارثة. والكوادر التي انسلخت من الحزب كونت احزابا كلها تحمل اسم حزب الامة، وأهمها انسلاخ السيد مبارك الفاضل المهدي. وفي ختام هذه الورقة اتمنى من الله العلي القدير أن يوفق الجميع لتجاوز هذه الخلافات البسيطة، والخروج بحزب الامة قويا متحدا، ففي قوته ضمان لاستقرار السودان ورفاهيته، وأن قاعدة حزب الامة العريضة تنتظر ان يسفر هذا العمل عما فيه مصلحة للانصار قاطبة.