كانت سويعات رحلة جوية من أقصى جنوب العالم إلى أوروبا، كافية لتلقين العنصريين المنتشرين في بقاع الأرض درسا بليغا، وبينهم من يعيش بيننا في السودان، وشغله الشاغل أن يعمل في بلادنا تقطيعا وتشتتا، وأن يخل بتنوعها المتميز، لأنه يرى أن هويته القبلية تسبغ عليه مميزات تجعل كل شأن في يده بما في ذلك ما يهم الوطن. فحالما استقرت الطائرة على مسارها بعد لحظات الاقلاع العصيبة من مطار في جنوب افريقيا، انشغل الركاب بتحسس وضعهم، والتعرف على من يجاورهم، فيما أطل الأطفال من فوق المقاعد يدفعهم حب الاستطلاع لرؤية ما حولهم.. وحدها كانت هناك سيدة بيضاء خمسينية قد بدت إمارات الغضب والثورة على وجهها وهي تنادي المضيفة بأعلى صوتها في عصبية واضحة أنستها استخدام الجهاز الخاص بطلب المضيفة، وعندما حضرت انفجرت فيها قائلة: بالتأكيد إنكم لم تنتبهوا إلى الوضع الذي أنا فيه. ثم أشارت باستعلاء إلى الرجل الجالس إلى جوارها، وقالت: لقد وضعتموني إلى جوار رجل أسود.. وأنا لا أوافق على الجلوس بالقرب من شخص من هذه الفئة البغيضة.. ابحثوا لى عن مقعد آخر. وجاء رد المضيفة التي ادهشها الموقف وهي تحاول ضبط مشاعرها: أرجوك يا سيدتي الزمي الهدوء.. إن كل المقاعد على هذه الرحلة مشغولة، ومع ذلك سأذهب وأبحث عما إذا كان يوجد مقعد شاغر.. وقد كان ذلك كافياً لإشباع غرور السيدة المتعجرفة حيث رمقت جارها بنظرة ملؤها الاحتقار. وانصرفت المضيفة، وعندما عادت قالت للسيدة المتبرمة: لقد تحدثت إلى الكابتن، وأكد لي أنه لا يوجد مقعد خالٍ في الدرجة السياحية «الاقتصادية»، لكن لدينا مقعد في الدرجة الأولى. وقبل أن تتمكن السيدة العنصرية المتعجرفة من قول أي شيء، أردفت المضيفة قائلة: بالنسبة لشركتنا فإنها لا تسمح لشخص من ركاب الدرجة السياحية بالجلوس في الدرجة الأولى.. ولكن وتقديرا منه للظرف الطارئ الحالي فإن الكابتن يرى أنه من العار إجبار شخص ما على الجلوس إلى جانب آخر بغيض.. ثم التفتت المضيفة إلى الرجل الأسود وقالت له: وبناءً على ذلك فيمكنك يا سيدي إحضار ما لديك من أمتعة يدوية ومرافقتي، فقد خصصنا لك مقعداً في الدرجة الأولى. وقد أثارت هذه النهاية الدرامية اعجاب ودهشة الركاب الآخرين الذين نبهتهم الجلبة التي أحدتثها السيدة لمتابعة ما يحدث، ومن ثم فقد أعربوا بموجة من التصفيق الحاد عن تأييدهم للمعالجة الموفقة للمشكلة.. فقد لقن طاقم الطائرة السيدة العنصرية درساً لنا تنساه وهي بين طيات السحاب.. حيث أدركت أنها هي الشخص البغيض الذي لا ينبغي لأحد الجلوس إلى جواره، بينما فاز من ترى أنه شخص حقير بمقعد في الدرجة الأولى لحمايته من هذه المرأة التي لا تستطيع السيطرة على مشاعرها العنصرية الفجة. القصة بليغة ومختصرة، وحدثت، كما يقول الموقع الالكتروني بين الحقيقة والخيال truth or fiction على رحلة لشركة الخطوط الجوية البريطانية، وتعكس الواقعة جهوداً كبيرة يبذلها الكثيرون في مختلف أنحاء العالم لنبذ العنصرية باعتبارها سلوكاً بغيضاً وموقفاً منافياً للحالة الانسانية السوية، وإحدى المشكلات التي تقض مضاجع البشرية، وتتنافى مع التعاليم الدينية التي تحض على المساواة بين البشر، وكلهم من تراب، يقول المولى عزَّ وجلَّ «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم». وبينما يفترض فينا نحن المسلمين أن نكون حداة الركب في ما يتصل بالحفاظ على القيم الانسانية النبيلة التي يحض عليها ديننا، لكننا نقبع حالياً في مؤخرة القائمة من جهة التعامل الانساني السليم، إذ تنتشر بيننا كل آفات المجتمعات المتخلفة، لأننا لم نراع مبادئ ديننا الحنيف، وإن تمسكنا ببعضها ومارسناه على أرض الواقع، لكن القبلية المقيتة ونوازع الاستعلاء عملت على طمس بعض من تلك المبادئ، ومن بينها على وجه التحديد العدل الاجتماعي والقانوني والسياسي.. وقد ساهمت تلك السلبيات مع جملة من العوامل الأخرى في أن نفقد جزءاً عزيزاً من بلادنا، كما ساهمت أيضا، ولا تزال تعمل على تباعد اطراف من بلادنا.. كما أن التحيز العنصري لهذه القبيلة أو تلك أوردنا في مهالك الفساد المالي والإداري، والتحيز لذوي القربي والولاء حتى وإن افتقروا لمقومات شغل هذه الوظيفة أو تلك.. ليفضي كل ذلك إلى مصاعب وأزمات تعاني منها بلادنا وتهدد بالمزيد من التفكك فيها. إن الكثير من العنصريين يستبطنون بل ويظهرون نزوعا قويا نحو رفض الآخر، ويدعون أن التباين الثقافي والعرقي يؤذي التعايش السلمي، وعلى ذلك انبنت الكثير من الدعاوى التي أورثتنا وضعاً مزرياً يستوجب بذل الكثير من الجهد لإعادة ترتيبه واصلاحه.. وقد يتفاقم هذا الوضع إذا تسنى لهؤلاء أن تكون لهم الكلمة الأخيرة في كامل الشأن السوداني، وذلك على الرغم من تشكيلة الدماء المتنوعة التي تجري في أوصالنا وتجعلنا رهن لهذه الأرض التي نشأنا ونشأ عليها أجدادنا، وأثروها طوال قرون بفضائل التسامح والتفاهم والتعاون.. وصولاً إلى أمة سودانية كان ينبغي لها أن تزدهي بحالة التنوع المتفردة، لا أن تتخذ منها مطية للتشتت والتفرق، وقد أسفر هذا الوضع المزري عن مختلف صور الفساد الإداري والمالي تحيزاً لهذه القبيلة أو تلك، وإغداق كل المزايا عليها.