إذا كانت أية جهة حكومية، مدنية أو عسكرية أو شبه عسكرية تنازع كتّاب الرأي فيما يدونونه من آراء، وتناقض الصحافيين فيما يوردونه من أخبار ووقائع ومعلومات ووثائق تستطيع بكل بساطة أن تزج بمن تنازعهم وتناقضهم إلى أقفاص الاتهام ثم من بعدها إلى قضبان السجون، فالأفضل من كل ذلك أن لا تكبد الحكومة مؤسساتها وأجهزتها كل هذا الرهق - رهق فتح البلاغات ومتابعة القضايا واضاعة زمن من يمثلونها من محامي الادعاء، الأفضل والأسهل أن تضع الصحافة بكل صحفها داخل قفص كبير على طراز تلك الاقفاص التي تودع بداخلها الببغاوات بعد تلقينها الكلام الذي يود منها مربوها أن تلقيه على المسامع، ورحم الله من أراح واستراح حين تستحيل صحافة المجتمع إلى مجرد ببغاوات للسلطة وأبواق لأهل السطوة والنفوذ، لا تقول إلا ما يريدون ولا تجرؤ حتى على التساؤل «هل دفقت الزيت» مثل ذاك الببغاء حاد الذكاء الذي انشغل عنه صاحبه لبرهة بعد أن فتح القفص فنال الببغاء حريته لبضع دقائق فصار يتقافز فرحاً هنا وهناك، وفي إحداها قفز على إناء الزيت فدلقه على الأرض فاستشاط لذلك صاحبه غضباً وقذفه بآلة صلبة فقأت إحدى عينيه فصار أعور، وتصادف في أعقاب تلك الحادثة والببغاء قابع في قفصه أسيراً كسيراً حسيراً أن مرّ من أمامه زائر كريم كان «كرم عين» - أي أعور - فصرخ فيه الببغاء لأول مرة بغير ما لُقن له صرخة إرتعدت لها فرائص الرجل «هل دفقت الزيت»؟، هذا من حيث التنظير، ويبدو أن السلطة قد بدأت فعلياً العمل بهذه النظرية بالزحف على الصحف والسيطرة عليها بالتملك غير المباشر وطرائق أخرى من بينها شغل الصحافيين بأنفسهم بفتح البلاغات والجرجرة إلى النيابات والتلتلة في المحاكم، أما عملياً وهي تنظر اليوم في القضية التي سيمثل بسببها الدكتور عمر القراي أمام المحكمة فإنها تحتاج فعلياً لقفص كبير حتى يسع كل من سيجرجرون بسبب ذات القضية «قضية صفية» الفنانة التشكيلية التي اتهمت بضعة أفراد من الأمن باغتصابها، وهو إتهام ذاع خبره وانتشر وعمَّ الفضائيات والمواقع الاليكترونية، ومايزال معلقاً حتى الآن بين كونه دعوى صحيحة أم محض إدعاء، إذ لم نسمع أو نقرأ حتى الآن عن أي تحقيق جرى حول هذه القضية الذائعة التي إرتقت لأن تكون قضية رأي عام، وبالنتيجة لم نسمع عن أي تقرير أسفر عنه التحقيق، فمنذ أن وعدتنا شرطة ولاية الخرطوم قبل نحو ثلاثة أشهر بأن النيابة ستكشف النقاب عن هذه القضية وتحدد ما إذا كانت هناك عملية اغتصاب وقعت على الفتاة أم انها مجرد شوشرة استهدفت تشويه صورة الأجهزة الأمنية، من وقتها لم نسمع شيئا عن القضية إلا هذه المحاكمة التي ستعقد اليوم للنظر في دعوى جهاز الأمن ضد الكاتب الصحفي الدكتور القراي، وما القراي إلا فرد من قائمة طويلة تشمل مريم الصادق المهدي وسارة نقد الله والدكتورة عائشة الكارب وإحسان فقيري والباقر العفيف وفاروق محمد ابراهيم وعبد المنعم الجاك ومحمد اسحق وسعد الدين ابراهيم وفاطمة غزالي، وأمل هباني ورشا عوض وعبد الله الشيخ وفايز السليك، ونادية عثمان وفيصل محمد صالح، وبالضرورة ادريس حسن، وهؤلاء كلهم إما صحافيون ورؤساء تحرير أو كتّاب رأي أو ناشطون سياسيون، أو فاعلون في منظمات المجتمع المدني، وهذا الكم الكبير لابد أنه يحتاج إلى تكبير القفص... ولكن ثمة سؤال يلح على البال قبل أن تعقد المحاكمة، وهو على أي أساس ستعقد هذه المحاكمة إن لم يكن تحت عنوان «فرية صفية» باعتبار أنها افترت على الأجهزة الأمنية وقصدت تشويه صورتها كما ذهبت إلى ذلك شرطة الولاية، ولم تقله لجنة تحقيق محايدة لجهة أن هذه الأجهزة الأمنية طرف في القضية وليست جهة محايدة، والدليل أن الشاكي هو جهاز الأمن وله الحق في أن يشكو ويقاضي كما يشاء، ولكن تبقى الحقيقة أن الصحافة هي بنت الحقيقة، والحقيقة بنت الجدل، والجدل والنفي والتصحيح متاح ومكفول، والصحافة مؤسسة من مؤسسات المجتمع والدولة، والأمن كذلك، فلماذا التشاكي والتجافي إذا كان الكل يبحث عن الحقيقة؟.