البحث عن موطيء قدم والجلوس في صفوف طويلة والمرور عبر صراط صغير أما النجاة أو السقوط في المياه الآسنة... وأطعمة شهية تجذب كل ميكروب مائي أو هوائي أو ترابي أيهما أسرع... كل تلك الأوصاف تعبر عن وضع وسط الخرطوم أمس في ميدان جاكسون والاستاد، «الصحافة» كانت هناك ترسم واقعاً رفضه البعض وأدمنه الجميع بحيث صار وضعاً حياتياً مقبولاً... في موقف استاد الخرطوم وعبر المداخل الضيقة والمزدحمة بأناس يتعجلون المسير نحو مواصلات تؤمهم نحو مقاصدهم كانت صور المواد الغذائية وهي تباع على الممرات الفاصلة بين مسارات الحافلات وتمتد إلى نهاية المسار، وعلى المحلات المطلة على الاستاد كانت رائحة الأطعمة المقلية تفوح في الهواء معلنة عن بداية موسم العدوى في نسخته الجديدة بينما كانت لحوم الشاورمة تشوى على الهواء الطلق الملئ بالأتربة الصادرة من أحذية المشاة وعجلات الحافلات، وقال لنا محمد طه «الكلاكلة» بالأمس عند تأخر المواصلات وكانت بطني خاوية اضطررت إلى تناول الشاورمة التي كلما حاولت مضغها ازدادت صلابتها وكأنها لبان واضطررت إلى رميها... وانتقلنا إلى ميدان جاكسون أبو التردي الصحي والبيئي في الخرطوم ودخلناه من جهة الغرب قادمين من استاد الخرطوم وكانت جنبات الميدان ضاقت بعاملات الأطعمة من بلدية وأفرنجة وهنا تجد كل ما ترغب فيه نفسك الطامحة إلى اجازة مرضية... كمونية وأم فتفت وكوارع وأقاشي وأطعمة أخرى لم نألفها ولم نسمع بها من قبل «أم جلكسات» و«ألحقني في العيادة»، وتوغلنا قليلاً في ميدان جاكسون وجدنا العجب، مياه راكدة هي خليط من كوارث مياه الشرب مع مياه الصرف الصحي وكأنهما خمر بلا زجاجة أو زجاجة بلا خمر وفي منطقة عنق الزجاجة وهي تقاطع الممر الرئيسي لميدان جاكسون المتفرع من شارع السيد عبد الرحمن من جهة الشمال إلى الجنوب مع الممر المتجه من شارع الحرية إلى داخل جاكسون مع نهاية مصلحة الأراضي، في هذا التقاطع والمساحة متران في مترين يتقابل البشر جميعاً بكل أشكالهم وسحناتهم مع الحافلات القادمة من شارع الحرية والمتوجه إلى موقف استاد الخرطوم، هنا يتصارع الانسان والآلة أيهما الأقوى والاسرع ليفرض سطوته... ويتصارع البشر مع بعضهم ويملي ذوي العضلات ارادتهم على ذوات الخدود تاركين لهم مساحة لا يمكن الانتظار فيها.. وهنا التقينا أسامة علقم وقال لنا «نحن نعاني من تردي الوضع البيئي بصورة دائمة في هذا الميدان وخصوصاً تدفق مياه الصرف الصحي ويضاف إليها كوارث الشبكة القومية للمياه، والحقيقة الواضحة لا توجد خدمات للصرف الصحي وعندما نبلغ لا توجد استجابة سريعة لنا». وجدناه يحاول عبور الشريط الضيق بمساحته ربع المتر وعندما عبر قال لنا وليد حامد سليمان «أوضاع ميدان جاكسون تعبانة جداً ويوجد ترد وتدهور خطير في البنية التحتية للميدان ونحس بعدم اهتمام الحكومة بالوضع الصحي للميدان. وأنا اتعجب من شكل الطعام الذي يقدم هنا وكيف يستطيع الشخص أن يأكل منه، انه عبارة عن مستودع من العدوى لكل الأمراض». بينما كانت هناك امرأة تنتظر حتى يعبر المشاة عن الممر لكنها عبثاً تنتظر المستحيل ومشينا نحوها وقالت لنا أسماء فتح الرحمن: الوضع في جاكسون تعبان جداً وما عارفة لمن تشكو تردي هذا الوضع ولا يوجد اجتهاد في اصلاح الوضع لا المحلية ولا الباعة في هذا المكان وحتى ناس الحافلات مفترض يساهموا في حل هذه المشكلة حقيقة مفترض أن تكون الأوضاع أفضل من هذا الوضع البائس.. وما زاد من وطأة الاوضاع في ميدان جاكسون هو كثرة الباعة المتجولين والذين يبيعون كل شيء يقع في متناول أيديهم لكن الأخطر هو بيع المواد الغذائية في هذا المكان اذ تكثر السلع الغذائية التي قارب تاريخ صنعها على الانتهاء، والمحزن هو شراء المواطنين لتلك السلع دون أن يعرفوا حقيقتها والدافع لذلك هو رخص اسعارها، وقال لنا أحد باعة المواد الغذائية والذي فضل حجب اسمه لاعتبارات شخصية تخصه: ان المواد الغذائية يحصلون عليها من كبار موردي الأغذية وخصوصاً التي قارب موعد انتهاء صلاحيتها وتبقى لها أقل من شهر أو أسبوعان وذلك خوفاً من خسارة هؤلاء التجار لها. ويواصل البائع حديثه: خوف التجار ناتج من ان أصحاب البقالات لا يشترون مواد غذائية مر عليها أكثر من نصف المدة وبالتالي أفضل طريقة للتخلص منها هو بيعها في ميدان جاكسون، وكشف لنا البائع: ان كتابة تواريخ الانتاج والانتهاء تكتب بالحبر الأسود على خلفيات ملونة وبالتالي يصعب على الاشخاص معرفة هذه التواريخ وتتعدد وتختلف أماكن كتابتها من سلعة إلى أخرى وبذلك لا يستطيع المواطن معرفة مكان تاريخ أو انتهاء السلعة... وغير بعيد من المكان كانت هناك عربة بوكلين تحفر الأرض بحثاً عن مكان الماسورة المكسورة التي أغرقت جاكسون وبالقرب منها عربتا شفط تحاولان شفط المياه الراكدة وعلى شارع الزلط الممتلئ بالماء كانت أربع دراجات نارية وعلى متنها خواجات تمر داخل المياه وكأنما بلسان أحدهم يخاطب الآخر «ألم أقل لكم ان موسم الخريف بدأ في السودان حسبما وضح لنا دليل السياحة؟!» ومضيت راجعاً من ميدان جاكسون وكان زميلي المصور محمد يتصبب عرقاً من الحر وكثرة المناطق التي جال بها متجنباً المياه ليحصل على أوضح اللقطات ولعل صوره أبلغ من ألف كلمة.