إتسمت الحقب السلطانية فى دارفور بالصراع حول السلطة على مستوى الأسرة الحاكمة من جانب وحروب فرض السيطرة على المناطق المتمردة والنازعة إلى الإستقلال من هيمنة سلاطين الفور من جانب آخر ، من السرد التاريخى لهذه الحروب نرى أن دارفور قد عانت من عدم الإستقرار بسبب هذه الحروب التى لم تكن تخمد حتى تندلع مرةً أخرى وكما أسلفنا فإن الهدف من وراء هذه الحروب كلها يتركز حول الصراع حول السلطة ، إلا إننا ورغم كثرة هذه الحروب لم نر حرباً واحدة إستهدفت النسيج الإجتماعى لأهل دارفور أو طرد إثنية أو أخرى من أرضها ، نقول هذا القول رغم أن المجتمع الدارفورى عهد ذاك كان حديث التشكل والتكوين وأقرب إلى التمزق والتفرق إن كان هناك ما يستدعى ذلك ولكن لم نقرأ شيئاً مما نسمعه اليوم ونراه من محاولات محمومة لتفريق أهل دارفور وتمزيق نسيجهم الإجتماعى رداً على الجهر والمطالبة بإستحقاقات لا سبيل إلى غض الطرف عنها بسبب أهميتها ، إذ لا مفر من المطالبة بالتنمية المستدامة لإقليم كان دولة فى يوم من الأيام لها إستقلالها السياسى والإقتصادى فى حين تفتقر اليوم إلى كل مقومات الحياة فى زمنٍ بلغ فيه الآخرون شأواً كبيراً ، ولعل ما يجعل المطالب الدارفورية أكثر وجاهةً هو ما تُظهره دراسة تاريخ دارفور ، فقد أظهر سلاطين دارفور درايةً كبيرة بشئون الحكم وسياسة الناس وافتراع أساليب للحكم وإدارة الإقليم لم تكن مألوفة فى جميع أنحاء السودان ، فالإهتمام بالتعليم والعلماء وإهداء العلماء من الوافدين من خارج السودان كل ما يجعلهم يستقرون فى الإقليم لتعليم الناس ، إضافة على الإهتمام بالعلاقات الخارجية وتجسير العلاقات مع العالم الخارجى كلها تدل على تطور فكر سلاطين دارفور فى ذلك الزمان ، وقد حدث كل ذلك فى زمانٍ لم تكن فيه هناك وسائل متطورة للإتصالات والمواصلات الأمر الذى يدلل بوضوح على أن إقليم دارفور كان يتمتع بحضارة ضاربة الجذور ، وأى فهم لأزمة دارفور الحالية يعزلها عن هذا السياق التاريخى لن يُسهم فى حلها وسيظل التعقيد هو سيد الموقف ، نعود إلى تاريخ سلاطين دارفور فى كتاب صفحات من تاريخ دارفور للأستاذ محمد موسى : لقد بان لنا أن السلطان عمر ليل، لم يهنأ طويلاً بالإستقرار والراحة في الحُكم. فقد تولى الحكم بعد أبيه، الذي كان قاسياً متعسفاً. وجلس على العرش، وصدور بعض أعمامه تغلي حقداً عليه، فأمضى جُلَّ وقته في النضال ضد معارضيه في داخل دارفور، وضد الطامعين في طرده من عرشه، وهم المسبعات ومن والاهم. ثم ضد البرقو الذين هزموه وأسروه بسبب خذلان جنده له، وغدرهم به. واتت الفرصة، الرجل القوي الطموح، وهو أبو القاسم إبن السلطان أحمد بكر، فتولى السلطنة، وسط قلاقل وفوضى أثارها المتنافسون من أبناء وأتباع السلطان أحمد بكر (1739 - 1752م) ، وملأ الفراغ الذي أوجده أسر السلطان عمر ليل في حربه ضد البرقو. ولم يهادن السلطان أبو القاسم، المعارضين من إخوته وأرباب السلطنة، وهم بدورهم لم ينصاعوا له إلا في الظاهر. وقد تغلب عليهم، وأخضعهم لسلطانه. لكنه فقد ثقة وإخلاص من كان عرشه يعتمد على ثقتهم وإخلاصهم، من رجال سلطنته، ومن ثم صار، يقرب إليه رجالاً من غير أسرته، وأعوانها التقليديين، أصحاب الحل والعقد، وذوي المراكز العليا في السلطنة. وأكثر من الرقيق المجلوب، وإعتمد عليه في الخدمة العامة والخاصة ، وبذلك أدخل عنصراً جديداً لم يكن موجوداً في البلاط، وفي إدارة شئون السلطنة، وليس بدعاً منه، أن يفعل ما فعل، فقد سبقه حكام عظام في العصور الإسلامية السابقة، على ذلك الفعل، مثل بعض خلفاء بني العباس في العراق، وسلاطين بني أيوب في مصر. إذ إستعانوا بالأتراك والمماليك وغيرهم في حكم بلادهم. ومن المؤكد أن الحاكم لا يلجأ إلى الإستعانة بغير أقاربه وعصبته، إلا إذا فقد الثقة بهم، ولم يأمن جانبهم. اهتبل الأمير عيساوي المسبعاوي، الفرصة أثناء الفوضى التي نتجت من خلافات أمراء دارفور، إثر خلو العرش من شاغله السلطان عمر ليل وأراد أن يستفيد منها فهجم على دارفور، بجنده حتى وصل إلى (ريل) بجنوب دارفور. وهناك أسفر الصبح لذي عينين، فقد وجد أن أبا القاسم قد نجح في تولي الحكم، بل وجاء يقابله في (ريل) ويدخل معه في حرب، كانت نتيجتها إنتصار جيش دارفور ، وخاب أمل الأمير عيساوي، فإنقلب راجعاً إلى كردفان، مهزوماً يلعق جراحه، وكانت تلك خيبته الثانية. وبعد مدة، إلتفت السلطان أبو القاسم نحو وداي، العدو اللدود لدارفور، مصمماً على تسديد ضربة قوية إليها، لرد إعتبار بلاده، ولينتقم لهزيمة سلفه السلطان عمر ليل. فبدأ يستعد لحرب ضروس، يشنها على عدوه وجدَّ في جمع الرجال والسلاح والمال، وفرض على كل بيت في البلاد أن يدفع بقرة كضريبة، وكان ذلك شيئاً جديداً على الناس، فلم يرتاحوا إليه ولم يقبلوا به، إلا على مضض. ولما أتم إستعداده تحرك من عاصمته (قرلى) وشن على وداي حرباً حامية. وقد إرتكب السلطان أبو القاسم، خطأ لا يغفر في نظر الفور، بتقديمه رجلاً من الزغاوة إسمه بحر، عندما جعله مستشاراً، ووزيراً له، وبتقديمه كذلك رجاله من العبيد، وإعتماده عليهم. وشعر الفور، بأنهم أصبحوا - بإرادة السلطان - رجالاً من الدرجة الثانية، في الإدارة والقيادة.، فثارت حفائظهم، وبدأوا يتآمرون على السلطان. ولما بدأت الحرب، هجروه، وإنسحبوا من القتال مدفوعين بحقدهم، على السلطان وأتباعه، ولسان حالهم يقول: ليحارب معه عبيده ووزيره الزغاوي والأبقار التي جمعها من الأهالي . وتكررت قصة خذلان السلطان عمر ليل، فها هو السلطان أبو القاسم أيضاً، قد بقي في قلة من الجند والأتباع، يواجه جنداًِ كثيفاً من البرقو. ودارت رحى الحرب، وأصابته جروح خطيرة، وتخلى عنه رجاله، بعد أن ظنوا أنه لا حياة ترجى له أو قد مات فعلاً. ولكنه لم يمت من تلك الجروح، فقد عثر عليه جماعة من عرب المحاميد، كانوا يعيشون في المنطقة الواقعة بين دارفور ووداي، وأخذوه إلى رحالهم وإعتنوا به حتى شفي من جراحه. ثم غادرهم عائداً إلى دارفور. ولكنه لما عاد، وجد أن الكيرا نصبوا أخاه محمد تيراب بن السلطان أحمد بكر، سلطاناً على دارفور، بعد أن فقدوا الأمل في حياة صاحب السلطنة. وأراد محمد تيراب أن يتنازل عن العرش لصاحبه أبي القاسم، لكن أمراء البيت الحاكم ورجال السلطنة لم يوافقوه على التنازل، لأنهم لم يرغبوا في أن يعود أبو القاسم سلطاناً عليهم، كما كان. كراهية له، أو خوفاً من بطشه بهم، وإنتقامه منهم، بعد الذي حدث له من هزيمة بسبب خذلانهم له. وعليه شجعوا أخاه محمد تيراب على البقاء سلطاناً على دارفور، وأيدوا حقه في تولي الحكم، حسب وصية أبيه السلطان أحمد بكر. وثبت محمد تيراب على العرش. أما أبو القاسم، فقد تم القبض عليه، وسيق إلى السجن. ثم علم الناس أنه قد مات مخنوقاً بأمر من السلطان محمد تيراب، وكذلك ماتت معه أخته ال (إياباسي) زمزم سندي، ولعلهم ظنوا أنها قد تشكل خطراً على السلطان الجديد، لو بقيت حية، لأنها كانت الأخت المفضلة عند السلطان السابق، وكانت مقربة منه، وذات سلطان في القصر، ولها تأثير في مسار الحكم، في عهد أخيها أبي القاسم.