رأينا أن السلطان أحمد بكر نظم مسألة ولاية العهد قبل وفاته، بأن اشترط على أن يلي السلطنة كل أبنائه، واحداً بعد الآخر. فتولى الحكم ابنه محمد دورة. وكان شجاعاً مقداماً، وقاسياً عنيفاً. قيل إنه قتل أخاه الأكبر، وصاحب الحق في السلطنة قبله، وحل محله، لكن (لامبن) ذكر أنه كان أكبر إخوته . ولما ترَّبع على العرش، جعل همه تشريد إخوته، وقتلهم، أو سجنهم في كهوف جبل مرة، ولم يسلم بعضهم من السجن أو القتل، إلا بعد أن عاش متنكراً في أزياء النساء إن كان صغيراً، وأما إن كان كبيراً فقد عاش، مختفياً عن نظره، خائفاً يترقب. كان غرض السلطان محمد دورة (1722 - 1732م) ، من قتل إخوته وحبسهم، هو أن يزيل من على وجه الأرض، كل منافس له في الحكم من أبناء أبيه، الذين جعلهم ولاة للعهد بالتعاقب، ولعل غرضه الثاني، هو أن يضمن الحكم لولده، من بعده. وبذلك خالف وصية والده السلطان أحمد بكر. وخلا له الجو، ليفعل ما يشاء، فأعلن إبنه (موسى عنقريب) ولياً للعهد، رغم أنف كل معارض. ولكن بعد مدة، عنّ له أن يخلع ابنه موسى، من ولاية العهد، ويجعل محله، ابنه الثاني (عمر ليل). ولم يرض (موسى عنقريب) بما فعله أبوه، وكان ذا مقدرة على جمع الرجال حوله، فجمعهم، وأعلن الثورة على أبيه الذي كرهه الناس، وتمنوا الخلاص منه. وإشتبك رجال موسى عنقريب مع رجال أبيه السلطان، فانهزم رجال السلطان، ولما أحس السلطان أنه كاد يغلب على أمره، لم ير بُداً من طلب الصلح مع ابنه موسى عنقريب. وانعقد مجلس للصلح، تكون من الأعيان والعلماء، من أبرزهم (الك بن على الفوتاوي)، وقاضي من (كتسينة) وهي من بلاد الهوسا ، ولست أدري هل جاء القاضي من أجل الصلح أم جاء عابر سبيل. وتم الصلح، وقد ألزم مجلس الصلح، السلطان محمد دورة أن يقسم بألاّ يغدر بابنه موسى عنقريب، أو يمسه بسوء ففعل، ولكن رغم العهد الذي قطعه على نفسه، غدر بإبنه، ووضع حداً لحياته عندما واتته الفرصة . بسط السلطان محمد دورة على آله وإخوته ورعيته ظلاً قاتماً من الإرهاب والظلم والتشريد والقتل. ولم يترك له نشاطه الدموي، وقتاً لأعمال طيبة تذكر، غير أن التاريخ ذكر أنه قضى على تمرد زغاوة (تور)، بعد أن خرج (حمد فايت)، وهو من أسرة (عقابا) خرج على السلطان أحمد بكر في آخر أيام حكمه وبعد أن أخضع السلطان محمد دورة زغاوة (تور) عمل على إضعافهم، وتقليل قدرتهم المادية، فنزع من أرضهم داري (بيري) و(أنكا)، وأعطاهما لقبيلة (الكايتنقا)، وهم فرع من بيت (التكنياوي)، في بعض الأقوال. وبعد ذلك هاجر زعيم أولاد (دورا) وهم فرع من الزغاوة، هاجر من دار زغاوة إلي (كجمر) في شمال كردفان . ولا زالت سلالتهم تعيش هناك. بعد عشر سنوات عصيبة قاسية قضاها السلطان محمد دورة في الحكم، وافاه الأجل المحتوم، بعد أن أصيب بمرض الجزام فخلفه ابنه عمر ليل. كان السلطان أحمد بكر، سليم النية، عندما وضع نظام ولاية العهد، إلا أن ذلك النظام، كان سبباً في شقاء بعض أبنائه، وسبباً في المنافسات والمؤامرات التي حدثت بعد موته، ولمدة نصف قرن، فقد كان كل واحد من أولاده يرى نفسه ولياً للعهد، وأن الحكم من حقه. وفي مسألة ولاية العهد، ظهرت خلافات، في البيت الحاكم، وذلك في عهود السلاطين: عمر ليل، أبي القاسم، ثم عبد الرحمن الرشيد. وإستمر ظهور الخلافات، من وقت لآخر، عند تنصيب كل سلطان جديد. ولقد كان نظام ولاية العهد، والخلافات التي تنشأ بسببه، من أهم عوامل الضعف في دولة بني أمية ودولة بني العباس، بعدهم، وفي السلطنة التركية كذلك، ثم كان في سلطنة دارفور. تولي عمر ليل (1732 - 1739م) الحكم بعد أبيه السلطان محمد دورة الذي كان مكروهاً من إخوانه أبناء السلطان أحمد بكر. وقد عرف السلطان الجديد، (عمر ليل)، بالتدين والعدل وحسن السيرة في تدبير الأمور، وقيل إنه أعلن يوم تنصيبه، أنه سيتنازل عن العرش، إذا لم يرض الناس حكمه، ولا ريب في أن بعضاً من أعمامه، أبناء السلطان أحمد بكر، قد رحّبوا بفكرة تنازله عن العرش، لأن الحكم سيكون في يد أحدهم، بالإضافة إلى أنه، في نظرهم لا يملك حقاً في السلطنة، بناءً على ما إشترطه السلطان أحمد بكر. لكن أعيان البلد والرعية لم يقبلوا أن يتخلى سلطانهم الجديد عن العرش، وبذلك عدل عمر ليل عن رأيه وبقي على العرش سلطاناً. واستهل عهده بالحكم، سلطاناً حازماً وعادلاً، ضرب بيد قوية على يد كل ظالم فاسد، من كبار رعيته، وشنق على بابي قصره ثلاثين رجلاً من الولاة الظالمين ، وخاف الباقون بطشه فاستقاموا، وإطمأن إليه الناس، وأحبه الطيبون من الرعية والمساكين. وفي بعض سني حكمه عم الرخاء البلاد، فكثرت الأمطار، وبارك الله في الزرع والضرع. ومع عدل السلطان عمر ليل، وحسن سيرته في الرعية والبلاد، لم يرض عنه بعض أعمامه من أبناء أحمد بكر، ولم يحبوه، وهو بدوره، لم يطمئن إليهم، أو يثق بهم، لما يعرفه منهم من حقد عليه، وبُغضٍ له، فعمل على حماية نفسه وملكه منهم، واضطرته الظروف أن يكون قاسياً عليهم قليل الرحمة بهم، فحبس عمه أبا القاسم، لأنه كان فارساً جسوراً وشجاعاً جريئاً، التف حوله الناس المعجبون به وبرجولته، وصار أخطر منافس له. ثم حاول السلطان عمر ليل إلقاء القبض على عميه: سليمان الأبيض، وبلبلي، ففرا إلى كردفان، لاجئين عند الأمير (عيساوي بن جنقل) أمير المسبعات. ولم تكن العلاقة آنذاك حسنة بين المسبعات وسلاطين دارفور، فقد حارب الأمير جنقل، والد الأمير عيساوي السلطان موسى بن سليمان سولونج من قبل، في محاولة منه لبسط نفوذ المسبعات على دارفور، غير أنه فشل في حربة تلك . وفي كردفان تعاون الأمير عيساوي مع الأمير سليمان الأبيض على القيام ببعض الغزوات، في وسط كردفان، حيث توجد مناطق نفوذ الفونج. ونظراً للتنافس القائم بين أفراد البيت الحاكم في دارفور، رغب الأمير سليمان الأبيض في أن ينتهز الفرصة، ويطرد السلطان عمر ليل من الحكم وأقنع الأمير عيساوي بن جنقل، كي يساعده على تحقيق غرضه، وكان الأمير عيساوي نفسه يرغب في إمتلاك عرش دارفور. وبدأ الأمير عيساوي يتحرش بالسلطان عمر ليل، فكتب إليه مطالباً بأشياء وأمور غير مقبولة. ورأى السلطان عمر ليل، في ما كتبه الأمير عيساوي إليه إهانة كبرى، وخدشاً لشرفه «ولا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يُراق على جوانبه الدم»، كما قال المتنبئ. ولم يلبث زمناً، حتى إستعد، وغزا كردفان بجندٍ كثيف، فلم يجد الأمير عيساوي، مناصاً من الفرار، ففر إلى سنار يطلب الحماية في أحضان ملكها. أما سليمان الأبيض فقد إنتهز فرصة إنشغال السلطان عمر ليل في الحرب داخل كردفان، وتسلل مع أتباعه، إلى داخل دارفور، ماراً بأرض البقارة متوقعاً منهم العون. وهناك إعترضه (الأب شيخ بركة)، ونشبت بينهما حرب، إنهزم فيها (الأب شيخ بركة). وعلم السلطان عمر ليل، بما حدث، وهو في كردفان فكرَّ راجعاً إلى دارفور، للدفاع عن عرشه المهدد بالسقوط، ولما وصل دار برقد، التقى بالأمير سليمان الأبيض، وأوقع به، وقتله في (كلمبو). وكان الأمير سليمان الأبيض، قد طلب عوناً حربياً من البرقو في وداي، ليتقوى به في حربه ضد السلطان عمر ليل، بيد أن العون لم يصله، ودارت عليه الدائرة . وعلم السلطان عمر ليل بأمر العون المطلوب، وقد كان العداء لا يزال مستحكماً بين سلطنة دارفور، وسلطنة وداي، منذ هزيمة البرقو على يد السلطان أحمد بكر، في منطقة كبكابية، ورأى السلطان عمر ليل في طلب الأمير سليمان الأبيض، لذلك العون من البرقو، وفي وعدهم له به، عدواناً على سلطنته، فعزم على إبعاد الخطر المطل على بلاده من جهة الغرب، وعلى تأديب خصوم بلاده، بعد أن أحبط محاولة المسبعات وغيرها من جهة الشرق. وأمر بجمع المقاتلين، وأطلق عمه أبا القاسم من الحبس، ثم رمى البرقو بجيش يقوده كل من (أبو ديمانق) و(أبو أومانج) وألحقه بجيش آخر يقوده (أبو كننقا). وإنتصر الجيش الأول، وإنهزم الجيش الثاني، وأخيراً مال النصر إلى جانب البرقو، وتطلب الموقف الحرج أن يقود السلطان جيشه للحرب بنفسه، فخاضها في جرأة وشجاعة، ينشد النصر المبين، إلا أن رؤوس جنده خذلوه وتخلوا عنه في أحرج المواقف، مدفوعين بالأحقاد والمؤامرات والمنافسات، ولعَّل المقاتلين من رجاله تعبوا من إستمرار غزواته، وحروبه المتواصلة، فملوها وهجروه . وبقي في قلة قليلة من رجاله المخلصين، يجالد أعداءه، حتى لم يبق في وسعه، عمل شئ، فأخذه خصومه أسيراً وقادوه إلى بلادهم، وهناك عاش مسجوناً في أرض البرقو، يقضي أوقاته في العبادة وتلاوة القرآن ، ولم يستطع أن يرجع إلى بلاده، والعيش في فاشره (كوقرا) التي تبعد حوالي عشرين ميلاً غرب كبكابية، حيث ظلت بقايا قصره المشيد بالطوب الأحمر ماثلة ظاهرة، بل بقي في حبسه إلى أن توفي، ودفن في وداي، بعيداً عن وطنه، الذي ضحى من أجله أجلَّ التضحيات. [email protected]