جوهان هاري الإندبندنت في بعض الأحيان يكون الصمتُ هو الجانب الأكثر بَوَاحاً لتهويمات جدول أعمال الأخبار رقم 24 / 7، وكثيراً ما تكون الحقائق الأهم مختفية تحت الضجيج بلا ذكرٍ ولا مناقشة. لذا أن يواجه دومينيك ستروس كان رئيس صندوق النقد الدولي السابق محاكمة بزعم اغتصابه فتاة في غرفة فندق بنيويورك هو في الحقيقة خبرٌ كبير. ولكن تصورْ أن رمزاً شهيراً لم تُوجَّه إليه تهمة اغتصاب فتاة بل وُجِّهت إليه تهمة تجويعها حتى الموت جنباً إلى جنب مع أطفالها ووالديْها وآلاف من الناس الآخرين. وهذا هو عين ما فعله صندوق النقد الدولي تجاه الناس الأبرياء في الماضي القريب، وهذا هو عين ما سيفعله الصندوق مرة ثانية ما لم نقم بتغييره تغييراً يفوق التصور، ولكن سيكون هذا طيَّ الصمت. ولكي تفهم هذه القصة يجب عليك أن ترجع إلى ميلاد صندوق النقد الدولي، ففي عام 1944م اجتمعت البلدان التي تهيأت لكسب الحرب العالمية الثانية في فندقٍ في مدينة نيوهامبشير الريفية لتوزيع الخسائر. وباستثناءاتٍ قليلةٍ مُشرِّفة مثل عالم الاقتصاد البريطاني العظيم جون ماينارد كينز، قرر المتفاوضون أن يفعلوا شيئاً واحداً وهو أن ينشئوا نظاماً مالياً دولياً يضمن لهم الحصول على نصيب الأسد من أموال وموارد الكوكب، فقاموا بإنشاء سلسلةٍ من المؤسسات التي كُرِّست لذاك الهدف، وبذا تم طرحُ صندوق النقد الدولي إلى العالم. وتبدو المهمة الرسمية لصندوق النقد الدولي سهلة وجذابة إذ الافتراض هو ضمان عدم وقوع البلدان الفقيرة في الديون وإذا وقعت هذه البلدان في الديون فإن الصندوق سيقيل عثرتها بالقروض والخبرة الاقتصادية. فقد طُرح الصندوق وكأنه أفضل صديق للعالم الفقير والوصي القيِّم عليه. ولكن صندوق النقد الدولي صُمِّم من وراء الخطاب المنمق لتسيطر عليه حفنة من البلدان الغنية وتحديداً لكي تسيطر عليه مصارف هذه البلدان الغنية ومضاربوها الماليون، فصندوق النقد الدولي يعمل لمصالحها في كل خطوة من خطى الطريق. فدعنا نرَ كيف يلعب هذا الصندوق على الأرض، ففي التسعينيات كانت دولة ملاوي الصغيرة الواقعة في جنوب شرق إفريقيا تواجه مشاكل اقتصادية حادة بعد معاناتها من إحدى أسوأ أوبئة الإيدز في العالم وبعد أن نجت من دكتاتوريةٍ فظيعة. كان على أهل ملاوي أن يطلبوا المساعدة من صندوق النقد الدولي، وإذا تصرف صندوق النقد الدولي بدوره الرسمي المزعوم فإنه كان سيعطي ذاك البلد القروض ويقوده إلى التطور بذات الطريقة التي تطورت بها بريطانيا والولاياتالمتحدة وأي بلد آخر أصاب النجاح وذلك عبر حماية صناعاته الوليدة ودعم مُزارعيه والاستثمار في تعليم شعبه وصحته. وهذا ما تبدو عليه المؤسسة المهتمة بالناس العاديين والمسؤولة أمامهم بيد أن صندوق النقد الدولي فعل شيئاً مختلفاً جداً، فقد قال القائمون على أمره إنهم سيعطوا المساعدات فقط إذا وافقت ملاوي على التعديلات الهيكلية التي طلبها صندوق النقد الدولي حيث أمروا ملاوي أن تبيع أي شيء مملوك للدولة للشركات الخاصة والمضاربين وأن تعمل على تخفيض الإنفاق على المواطنين، كما طلبوا إيقاف دعم السماد حتى ولو كان هذا هو الشيء الوحيد الذي يسهِّل للمزارعين وهم معظم السكان أن يزرعوا أي شيء في تربة البلاد الضعيفة والمستنزفة، كما قالوا لهم إن عليهم أولوية تقديم المال للمصرفيين الدوليين على تقديم الدعم المالي للشعب الملاوي. لذا عندما اكتشف صندوق النقد الدولي في 2001م أن الحكومة الملاوية قد أنشأت مخازنَ ضخمة من الحبوب تحسباً لفشل موسم المحاصيل أمروها ببيعها فوراً للشركات الخاصة. وأبلغوا ملاوي أن تضع أولوياتها مباشرة باستخدام العائد من المبالغ في سداد قرضٍ مقدمٍ من مصرفٍ كبير أمرهم صندوق النقد الدولي بأخذه في المقام الأول بمعدل فائدة سنوية تبلغ نسبتها 56 في المائة. وقد احتج الرئيس الملاوي واعتبر تعليمات الصندوق أمراً خطيراً ولكن كان خياره قليلاً فقد بيعت الحبوب وتم الدفع للبنوك. وفي العام التالي فشل موسمُ المحصول ولم يكن للحكومة الملاوية شيءٌ تقدمه بحيث أصبح المواطنون الملاويون يأكلون لحاء الأشجار والفئران التي استطاعوا أن يقبضوا عليها. وقد وصفت هيئة الإذاعة البريطانية الحالة بأنها «أسوأ مجاعة عرفتها ملاوي». كما كان هناك أيضاً فشلٌ أكثر سوءاً في المحصول في موسم 1991 1992م لكن لم تكن هناك مجاعة لأن الحكومة كان لديها آنذاك مخزون حبوب وزعته للمواطنين. إذن فقد أودت المجاعة بألف شخصٍ برئ على الأقل، وقام صندوق النقد الدولي في قمة المجاعة بتعليق مبلغ عونٍ قدره 47 مليون دولار لأن الحكومة الملاوية تباطأت في تنفيذ الإصلاحات التسويقية التي أدت إلى الكارثة. وقد أجرى (آكشنيد) Action aid البرنامج الرائد في تقديم المساعدة عملية تحليل للمجاعة على الأرض وتوصل إلى أن صندوق النقد الدولي هو الذي «يتحمل مسؤولية الكارثة». وقد فعلت ملاوي في ما خلفه الجوع من حطام شيئاً لم يكن متوقعاً أن تفعله البلدان الفقيرة حيث طردت صندوق النقد الدولي وأمرته أن يخرج من أرضها. وملاوي التي استجابت فجأة لشعبها عن طواعيةٍ وحرية بدلاً من الاستجابة للمصرفيين الأجانب نبذت نصيحة الصندوق وأعادت الدعم للسماد فضلاً عن مجموعةٍ من الخدمات الأخرى للأناس العاديين، وفي خلال عامين تحولت ملاوي من دولةٍ متسولة إلى دولة وفرة بحيث أنها أمدت يوغندا وزيمبابوي بالعون الغذائي. كان من الممكن أن تكون المجاعة الملاوية صرخة تحذير من على البُعد بالنسبة لك وبالنسبة لي، فربط مصالح الناس العاديين بالبنوك والمضاربين سبَّب المجاعة هناك كما سبَّب انهيار الاقتصاد الدولي بالنسبة لنا جميعاً خلال أعوام قليلة. ولم تكن هذه القصة استثناءً في تاريخ صندوق النقد الدولي بل هي القاعدة، فالصندوق يعمل على السيطرة على البلدان الفقيرة ويَعِدُها بالدواء الذي يعالجها ومن ثم يقوم بإفراغ السُّم في حناجرها. فمتى ما سافرتُ متنقلاً عبر المناطق الفقيرة من العالم أشاهد آثار الجروح التي خلفتها التعديلات الهيكلية لصندوق النقد الدولي في كل مكان من بيرو إلى إثيوبيا، فبلدانٌ كاملة انهارت بعد أن راحت ضحية صندوق النقد الدولي وأبرزها الأرجنتين وتايلاند في التسعينيات. فانظر معي إلى بعضٍ من أكبر الصفعات التي تلقتها الدول من الصندوق، ففي كينيا أصرّ صندوق النقد الدولي على أن تدفع الحكومة الكينية الرسوم لكي تقابل الطبيب، لذا انخفض عدد النساء اللاتي يبحثن عن المساعدة أو المشورة حول الأمراض المنقولة جنسياً بنسبة 65 في المائة في واحدةٍ من البلدان المتأثرة تأثيراً سيئاً بالإيدز في العالم. وفي غانا أصرَّ صندوق النقد الدولي على أن تدفع الحكومة الرسوم لكي تذهب إلى المدرسة، ولذا انخفض عدد الأسر الريفية التي تستطيع إرسال أطفالها إلى المدارس بنسبة الثلثين. وفي زامبيا أصرَّ صندوق النقد الدولي على أن يقوم الزامبيون بتخفيض الصرف على الصحة فتضاعفت نسبة الوفيات من الأطفال. والمدهش غاية الدهشة أن استقطاع أموال بلادك للمصرفيين الأجانب بدلاً عن استقطاعها لشعبك لا يعتبر استراتيجية تنمية. لقد عمل عالم الاقتصاد جوزيف ستيغليتز الحائز على جائزة نوبل مع صندوق النقد الدولي لأكثر من عشر سنوات حتى استقال منه وأصبح مبلِّغاً عن المخالفات، وقد قال لي قبل سنوات قليلة الآتي: «عندما يصل صندوق النقد الدولي إلى بلدٍ من البلدان فإن القائمين عليه يهتمون بشيءٍ واحد فقط وهو كيف نضمن استرداد البنوك والمؤسسات المالية لديونها؟... فصندوق النقد الدولي هو الذي يجعل المضاربين [الماليين] في شغلٍ شاغل، فهم ليس لديهم رغبة في التنمية ولا في ما يساعد البلاد على الخروج من دائرة الفقر». ويصف بعض الناس صندوق النقد الدولي ب»المتناقض» لأنه يدعم عمليات إنقاذ البنوك الضخمة التي تمولها الدولة في العالم الغني في الوقت الذي يطالب فيه بإنهاء كل تمويل للدولة في العالم الفقير. ولكن يعتبر هذا تناقضاً فقط إذا فكرتَ حول عالم الآراء الفكرية بدلاً من التفكير في المصالح الاقتصادية الصرفة، ففي كل حالة يفعل صندوق النقد الدولي ما سيجلب مالاً أكثر للمصرفيين والمضاربين، فإذا كانت الحكومات الغنية ستسلِّم المال للبنوك في «عمليات الإنقاذ» مقابل لا شيء فهذا شيء عظيم وإذا أُجبرت البلدان الفقيرة على تسليم المال للبنوك بسداد ديون باهظ، فهذا شيء عظيم ومتسق تماماً بمنطق الصندوق. يزعم بعض الناس أن دومينيك ستروس كان «إصلاحياً» عمل على تغيير صندوق النقد الدولي بعد أن تسلم إدارته في 2009م، وبالتأكيد كان هناك تحول في الخطاب ولكن دراسة مفصلة أعدتها د. دانييلا غابور من جامعة «ويست أوف إنقلاند» أوضحت أن الأمر في حقيقته هو أنشطة استثمارية كالعادة. فانظر مثلاً إلى هنغاريا التي أثنى عليها صندوق النقد الدولي بعد انهيار الحياة الاقتصادية في 2008م لمحافظتها على حدود العجز الأصلية وذلك بتخفيض الخدمات العامة بيد أن الشعب الهنغاري المذعور ردَّ على ذلك بإسقاط الحكومة واختيار حزب وعدهم بأن يجعل البنوك تدفع الثمن للأزمة التي خلقتها إذ فرضت الحكومة الهنغارية نسبة 0.7 في المائة ضريبة على البنوك (وهي نسبة أعلى بأربعة أضعاف من أية نسبة في أي مكان آخر). وفَقَدَ صندوق النقد الدولي صوابه إذ قال القائمون عليه إن هذه النسبة مُشوِّهة للغاية للأنشطة المصرفية بخلاف حالات الإنقاذ المصرفي بالطبع وصاحوا بأنها ستجعل البنوك تفرُّ من البلاد. وأوقف القائمون على أمر صندوق النقد الدولي برنامجهم في هنغاريا بالكامل ليُخيفوا الهنغاريين. ولكن الانهيار الذي تنبأ به صندوق النقد الدولي لم يحدث إذ أبقت هنغاريا على مواصلة ترتيبات اقتصادية معتدلة ومعقولة بدلاً عن معاقبة المواطنين، فقد فرضت ضرائب على قطاعات التجزئة ذات الأرباح الضخمة وعلى الطاقة والاتصالات وأخذت الأموال من صناديق المعاشات الخاصة لسداد العجز. وينعق صندوق النقد الدولي في أية خطوة ويطالب باستقطاعات للمواطنين الهنغاريين العاديين بدلاً عن ذلك. إنها ذات «الأجندة» القديمة مع ذات التهديدات القديمة، وقد فعل دومينيك ستروس ذات الشيء في كل البلدان الفقيرة تقريباً التي ينشط فيها صندوق النقد الدولي من السلفادور إلى باكستان إلى إثيوبيا حيث فُرضت الاستقطاعات الكبيرة على الدعومات الحكومية التي تسبغ على الأناس العاديين. وألحق الرعب بالكثيرين بما يضر مصالحهم الخاصة، فقد اكتشف مركز البحوث الاقتصادية والسياسية وهو مؤسسة بحثية مقرها الولاياتالمتحدة أن 31 اتفاقية من مجموع 41 اتفاقية من اتفاقيات صندوق النقد الدولي تتطلب سياسات اقتصادية كلية مسايرة للعملية الاقتصادية تدفع بها أكثر إلى الركود. ليس دومينيك ستروس وحده هو الذي يجب تقديمه إلى المحاكمة بل المؤسسة التي كان يديرها [صندوق النقد الدولي]، فهناك جدال فارغ في الصحافة حول من الذي يجب أن يكون الرئيس القادم لصندوق النقد الدولي وكأننا نتباحث حول من الذي يجب أن يدير «لجنة الحليب المحلية». ولكننا إذا أخذنا فكرة المساواة الإنسانية مأخذ الجد وتذكَّرنا كل الناس الذين أفقرهم هذا الصندوق وجوَّعهم وقتلهم فإننا سنناقش إنشاء لجنة إحقاق ومصالحة والكيفية التي نحلُّ بها صندوق النقد الدولي حلاً كاملاً ونبدأ من جديد. فإذا كان دومينيك ستروس مذنباً فأنا أشك أنني أعرف كيف حدث ذلك، فربما ظنَّ دومينيك ستروس خطأً أن الفتاة التي اغتصبها هي دولة فقيرة لها مشكلة مالية، إذ ليس في الأمر غرابة فقد سُمح لرؤساء صندوق النقد الدولي أن يغتصبوها لعدة سنين دون خشية من العقاب.