في ندوته الأسبوعية التي تقام كل خميس بمنتدى الاستاذ محمد صديق عمر الامام بعمارة المحامين بأم درمان المنعقدة في الاسبوع الأول من شهر مايو، دار حوار ونقاش عميق حول دور المنتديات الثقافية السودانية وأثرها على الحراك الثقافي داخل السودان في جلسة اتسمت بالعصف الذهني حاول المتحاورون من خلالها الامساك بتلابيب هذه الممارسة التي رسخت جذورها منذ ما قبل الاستقلال للوصول لصيغة يستطيع عبرها المهتمون القيام بدور اكبر وفعال في خدمة الاشكال المختلفة من التعابير الفنية والادبية والفكرية لتجد حظها من الذيوع والانتشار والتناول. فالمنتديات الأدبية ترقى حيزا متصلا بالجو العام الثقافي والفكري والادبي ومنفصلا في نفس الوقت ليعطي مساحة لمرتاديه واعضائه من الكتاب والادباء ليتناولوا الشأن المعرفي في شكل ينمي قواعد الحوار والتفكير والتدبر وبالتالي التمكن من ملامسة لب القضايا التي تهم شؤونا على المستويين الثقافي والفكري، وبالتأكيد لم تتم الفرصة للمثقفين والادباء السودانيين خصوصاً الشباب معاصرة مبدعيهم الكبار بشكل يومي ومنفعل لأسباب كثيرة اولها هجرتهم خارج الوطن أو عدم التوافر بالصورة المثلى أثناء فترة وجودهم في السودان وقبل دخولهم عالم الهجرات المبدعة، انظر اديبنا الطيب صالح والخطاط الملهم عثمان وقيع الله طيب الله ثراهما وحتى الصلحي الذي يتخلل العام بزيارات مختطفة ليتحاور مع الوسط الثقافي السوداني، اذن لم توفر الحياة الثقافية السودانية نسبة لتكوينها نفسه، ما وفرته الثقافة المصرية مثلا في مقهى الاديب نجيب محفوظ حائز نوبل والذي كان قبلة لأغلب جيل الستينيات من المبدعين والمفكرين الذين اثروا الساحة المصرية والعربية وليكونوا رافدا يغذي الثقافة العالمية مع الثقافات الأخرى نتيجة للاحتكاك اليومي والانفعال المباشر مع الحرفوش، نجيب محفوظ لدرجة انه عند فوزه بجائزة نوبل يقول الاديب يوسف القعيد في شهادة له فيما معنى كلامه «ظننت ان نجيبا سيغير اسلوب حياته ولكني فوجئت بحضوره للمقهى وفي الوقت المحدد». هذا المنوال اليومي لوجود أديب كبير بالتأكيد لم يتوفر للاجيال اللاحقة الحصول عليه مثلا مع اديبنا طيب الله ثراه الطيب صالح، واعتقد بتأثير ذلك مع عوامل اخرى على النتاجات الادبية المعاصرة من نافلة اطلاق العديد من المتابعين للشأن الأدبي في مجال القصة والرواية بعدم اكتمال النضج الفني لها وقلة الخبرة في بناء عمل كبير يوازي الأعمال المنتجة في الساحة العربية، ومما حدا بالبعض لوصف موسم الهجرة الى الشمال كسقف يظلل مجمل الروايات السودانية مثيرين العديد من الاسئلة والنقاشات والجدال. والعودة للنقطة السابقة للحديث عن التأثير والتأثر في العملية الادبية وعلاقته بالخبرة والنضج لا يمكن الزام كاتب ما بسن محددة ليشرع في كتابة عمله الادبي ومحاسبته فالشاعر رامبو كتب اعظم قصائده في سن مبكرة جدا حتى ليندهش البعض عند التطرق للاعمار وربط البياض بالسواد والادراك بالصور، والبناء بالجزء لأي عمل فني بحيث لا توجد قاعدة ثابتة للحكم بها ومنها. وفي حالة نجيب محفوظ توفر لجيل الستينيات المصري الاستفادة من وجهات نظره وتلميحاته حول الكتابة والادب متيحاً نوعا من التشارك مع الادباء الشباب ليسلكوا ويختطوا دربهم وصوتهم الخاص في مناخ يسوده التحاور عبر نقل التجارب والخبرات الفنية أي الزوايا التي يحاول كل قول ادبي النفاذ منها. كما لم تتوفر المناخات الملائمة للأدباء والكتاب للتشابك في عملية التأثر هذه عبر العقدين الأخيرين عبر وجود مادي لأديب خارج نطاق الاسطورة يعيش داخل الاجواء الآنية فينقل رأيه وحساسيته عبر الاخذ والعطاء عبر تقليد وعادة يومية في مقهى او منتدى ذي صفة فكرية وادبية في حالة من الاخذ والعطاء وذلك ما وفرته المنتديات الادبية طيلة العقدين السابقين عبر نفس اهلي ملؤه الاحساس بالمسؤولية تجاه العمل الثقافي باعتباره شاملا للكل الحضاري ومحاولته رفد الساحة قدر المستطاع بكافة اشكال الابداع لتحريك طاقاتها نحو السمو بالثقافة وجعلها تساهم مع الاشكال الاخرى في عملية البناء، فالانتداء يوفر بيئة للمهتمين على قلة الوقت وتوزعه في السعي نحو الاقوات في اقتطاع جزء ولو يسير لاعداد ورقة علمية او بحثية صغيرة ام كبيرة، وتقديم تجربة ادبية او فنية فينتج عبر التفاعل وتبادل الآراء تأسيس اعراف تسير على منوال البحث العلمي والحساسية الابداعية التي كل من زاويته يعبر عنها، فالحديث عن تدهور التعليم وتدنيه عن العقود السابقة وقلة القراءة وانصراف الناس للانترنت ووسائل الاتصال الحديثة خصوصا الفئة العمرية ذات السن الصغيرة والمراهقة، والاندغام في غرف الدردشة وغيرها من الاشياء يوسع كهوة بين الأمرين. وهنا يمكن للنظر للانتداء كحلقة علم كونه يوفر مناخاً لنقل التجارب والمعارف والتواصل بين الاجيال المختلفة وهذه العملية مهمة لمناقشة قضايا الثقافة والفكر والعلوم خصوصا للفئات العمرية التي تدرس بالجامعات والمعاهد العليا لتنظر للمعرفة على نحو مختلف لما تم تدريسه في المدارس وتنخرط في عملية البناء التي تتطلب نوعا من الجهد في زخم الاشكالات الكثيرة حولنا، وعلى منوال التعليم للجميع تصبح للثقافة للجميع عبر الاشكال المختلفة التي من خلالها نستطيع توفير وحدة وسلام وتنمية مستدامة. والامران متصلان ببعضهما البعض في عالم اليوم فالتعليم والثقافة صنوان معنيان بتقدم الامم وتطورها وفي اعتقاد كثير من الكتاب والباحثين بمساهمة الحلقات والمنتديات في عملية نقل المعرفة هذه، اثار هذا النقاش الورقة التلخيصية المقدمة من قبل الاستاذ مصطفى بابكر لبحث بعنوان «المنتديات الثقافية في السودان بحث في اطر التكون والتأسيس الثقافي» مستعرضا المنتديات الادبية السودانية منذ الثلاثينيات وموضحا اثرها على مجمل الحراك الثقافي والاجتماعي في الحقب التاريخية المختلفة والانقطاعات التي حدثت لها واسبابها لتوثيقها وجعلها شاهدا على هذه الفترات، وقد حظي الملخص بمداخلات عديدة منها مداخلة الشاعر محجوب كبلو، مقترحا التزام البحث بفكرة الموضوع الاساسي بالابتعاد عن مسائل النشر في المنتديات، كما تطرق الاستاذ محمد صديق بالجمعيات الادبية في المدارس وأثرها على الطلاب، بينما تحدث الاستاذ متوكل عن المشافهة وتطورها منذ بدء الخليقة حتى وصولنا مرحلة الكتابة، وبالرجوع للحديث السابق عن الاثر وربطه ببعض التجارب الماثلة يمكن النظر لتجربة نادي القصة السوداني كمنتدى أدبي ايضا ساهم في تمكين العديد من الشباب في ايصال صوتهم عبر نشر قصصهم في سلسلة موسومة باسم «دروب جديدة» والتعريف بالاجيال الجديدة في شكل آخر من اشكال الانتداء فيما يتعلق بجانب النشر، وقاليري شيخ التشكيليين ابراهيم العوام الذي على منوال منتدى محمد صديق يناقش قضايا الفكر والثقافة، وما يجمع النماذج الثلاثة المذكورة آنفاً قيامها بجهد أهلي مدني طوعي تدفعه الرغبة في اشاعة المعرفة وايجاد بيئة مواتية يستطيع من خلالها المنتدون اختبار الافكار وانتاجها خاصة في جانبها المكاني والتمويلي في حالتي منتدى محمد صديق والعوام مع اختلاف تجربة نادي القصة السوداني بينما يأخذ منتدى محمد صديق نهجاً وطابعاً يتميز بالجدة والاصرار في مداومته على مدى العشرين سنة الفائتة في الاستمرار، وتقويم التجارب الادبية والفنية بتقديم الاوراق الجادة في تناولها لكافة القضايا، رغم العثرات التي تصيب كل عمل من هذا القبيل وتوقفه، ليصبح امتدادا للندوات الادبية في أبوروف والندوة الادبية (عبد الله حامد الامين)، طيب الله ثراه. إذن يمكن للمنتديات تقديم الكثير للثقافة بالنسبة للاجيال الصاعدة من خلال احياء الجمعيات الادبية في المدارس، وتكوين الجماعات الصغيرة في الجامعات، ليتم ايجاد اشكال موازية لاركان النقاش تساهم في تكوين معرفة مبنية على الحوار، واختبار الافكار، ولأولئك الذين يقدمون الجهد والوقت شرف المبادرة في نشر المعرفة في بعدها الأهلي المدني والذي من شأنه تقديم الكثير من المساهمة في الصعود بين خطى النظرية والتطبيق.