٭ وهي آخر جمعة في شهر رمضان الكريم وقد سُمِّيت «يتيمة» لأن لا جمعة بعدها في الشهر الفضيل.. وعادة ما يبدأ «التوحيش» في الأسبوع الأخير من رمضان باليوم الذي لن يعود والناس صيام.. وكُنَّا نردد مع الكبار عقب صلاة التراويح «لا أوحش الله عنك يا شهر الصيام.. لا أوحش الله عنك يا شهر القيام.. لا أوحش الله عنك يا شهر البركات.. لا أوحش الله عنك يا شهر الرحمات.. إلى آخر الدعاء. ولكن ما كان يهمنا حينها هو «الرحمتات» أو صدقة الميتين.. أو كرامة الميتين.. أو «الحارَّه» وهي في نهار الخميس الذي يسبق الجمعة اليتيمة.. وكان في الأمر سعة.. وكان بامكاننا أ ن نأكل وفي وقت وجيز عدة وجبات متتالية مكوَّنة من «الفتة» فان كانت بالكِسْرَه المُرَّه أسميناها «دمورية» وان كانت بالرغيف أسميناها «دبلان» فالدبلان قماش أبيض والدمُّورية» قماش أسمر.. والشرح لمصلحة الأجيال الجديدة... وكنَّا نعلن عن وصولنا «لست البيت» بأهازيج تبدأ بكلمة «الحارَّه ما مرقت» وتتبعها كلمات منظومة تَحْذَرْ معها «ست البيت» من ردِّنا خائبين لكي لا نردد «طابونة طابونة ست الدوكة مجنونة» فرغيف الطابونة كان ترفاً لا قِبَلَ للكثيرين به.. وهكذا تجتمع الأفراح والأحزان على صعيد واحد فالجمعة اليتيمة تعني التوسعة في الأكل والموائد العامرة بالثريد وقرب حلول العيد بفرحته الكبرى وتعني كذلك تصرُّم أيام شهر رمضان ولياليه بما فيها من ذكر وشكر ورحمة ومغفرة وعتق من النار.. مع تغيير شبه كامل في نمط المائدة وخاصة المشروبات المحلاة بالسكر من حلومر وآبري ورقاق وغيره.. وهذا ما حملني على توثيق الجمعة اليتيمة لسودان المليون ميل مربع تشبيهاً والمقارنة مع الفارق. * وبمثلما يغمرنا الفرح تتغشّانا الأحزان.. فالفرح شمالاً لوفائنا بالعقود والتزامنا بالعهود بكفالة حق تقرير المصير لاخواننا الجنوبيين والذين صوّتوا بما يشبه الاجماع لقيام دولتهم المستقلة. والفرح جنوباً لإعلان دولة جنوب السودان وتحقيق الرغبة العارمة لدى أهل الجنوب لتكون لهم دولتهم كاملة السيادة بلا انتقاص ولا وصاية. أما الأحزان شمالاً وجنوباً فمردها الى العاطفة المشبوبة التي جُبلنا عليها فقد نشأنا ونحن نردد «منقو قل لا عاش من يفصلنا» وكان «للوحدة الوطنية» أناشيد وأعياد وأوسمة وأنواط وقداسة.. ولا غرو فان الوحدة الوطنية كانت من الثوابت «نظرياً» وكان الواقع يكذبها ولم تفلح عمليات التجميل ولا حملات التنكيل ببعضنا بعض في جعل الوحدة الوطنية خياراً جاذباً.. وقد قرأت مقالاً رصيناً للدكتور جلال تاور وان غلبت عليه العاطفة في نهاية المقال فجعل الانفصال ذنباً لا يغتفر!! وهو ليس كذلك وكأنّي بالسودان ميراث رجلٍ رحل عن الدنيا وقرر ابناؤه من بعده اقتسام التركة وهو أمرٌ مشروع.. وإن بكت بعض البنات وقلن لاخوتهن «عاوزين تقسموا بيت أبوي؟» ولا ضير في التقسيم بل هو مطلوب في كثير من الحالات بدون غبن وبغضاء وتشاحن.. «والقال حقي غَلَبْ» فرب العزة سبحانه وتعالى «فصَّل في كتابه العزيز قسمة الميراث تفصيلاً لا اجتهاد معه» حتى ان أحكام المواريث هي الوحيدة من بين الأحكام المنزلة التي لا تحتاج لشرح أو تأويل فنأخذها كما هي. ٭ ثم أن الدعوة للانفصال قديمة قدم تاريخ السودان الحديث.. وحق تقرير المصير وافقت عليه جميع النُخَبْ على مختلف الحقب السياسية من شماليين وجنوبيين.. فاذا ما تجسَّدت واقعاً.. إذا هم عِشاءً يبكون!! ولن نبكي معهم على اللبن المسكوب.. فهذه أقدار الله وسنته في كونه.. لكن مصيبتنا في اننا اعتقدنا بأن الدنيا قد استقرت على هذه الحالة إلى يوم البعث والنشور مع اننا نقرأ ونكتب عن حضارات سادت ثمَّ بادت.. ونريد أن يظل السودان إلى أبد الآبدين «قطرٌ مساحته مليون ميل مربع» وكأن القوافي لا تستقيم وزناً إلا اذا غنّينا «من حلفا لي نمولي» فالحدود السياسية والادارية ومسميات الدول ممالك أو جمهوريات أو مقاطعات تتغير دوماً ولن أقول أين كسرى وقيصر؟ ولكن أقول أين الاتحاد السوفياتي العظيم؟؟ ٭ قال الأستاذ محمد أحمد المحجوب رداً على سؤال النائب هاشم بامكار عن خراب سواكن.. فقال رئيس الوزراء الأديب الأريب «أما علمت يا هذا بأن للمدن كما للناس آجالُ» ونزيد وللأقطار آجالٌ كذلك وليكن شعارنا في الجمعة اليتيمة لسودان المليون ميل.. سنظل إخواناً على الحدود متقابلين.. وقد أذهب الله ما في صدورنا من غل... لا أوحش الله عنكم يا أهل الجنوب.. وهذا هو المفروض.