والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    بايدن يعين"ليز جراندي" مبعوثة للشؤون الإنسانية في الشرق الأوسط    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    السيسي: قصة كفاح المصريين من أجل سيناء ملحمة بطولة وفداء وتضحية    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    تشكيل وزاري جديد في السودان ومشاورات لاختيار رئيس وزراء مدني    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    دبابيس ودالشريف    البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    فيديو.. مشاهد ملتقطة "بطائرة درون" توضح آثار الدمار والخراب بمنطقة أم درمان القديمة    وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



متفرقات ثقافية


أضَّل النهار المستنير طريقه
عامر محمد احمد حسين
أعترف بأن النقد الأدبي في السودان، يمشي بطيئاً، ولا يرى شجر الكتابة يشير في تراكم «كمي» وأن للحركة النقدية، سُعودها، ونُحوسها، صُعودها وهُبوطها. نجومها السوامق وكواكبها اللامعة. وأقر بأنها حركة ذاتية، يحرك أشجانها وألحانها، أناس يعدون على أصابع اليدين. وانها «مسكينة» تعاني وتكابد. ترخى حبلها عمداً، بحثاً عن تراكم «كمي» يؤدي إلى تراكم «كيفي» وهنا تتجلى آفة الافات في اعطاء بطاقة «مجانية» لكتابة «مجانية». وان أهل النقد، يرفعون سقف أمانيهم في زمن الجدب والسعار. وهم يعملون على تنقيب ما يُكتب من أجل قراءة لحركة الكتابة المتسارعة، فيرتد إليهم بصرهم النقدي خاسئاً وهو حسير. رسموا خطاهم بخطابهم المطمئن نحو نهضة شاملة، فخابت الخطى وكسد الخطاب، تلمسوا الطريق لوضع أسس في زمن الانبعاح المرئي والاعوجاج الفكري والجدال البيزنطي. وهم على علم بأن حركة النقد «طرية العود» تُعاني من زُكام «التغبيش والتدليس» وأقر كذلك بأن المرض «النقدي» المزمن سببه مجتمع في بنيته يكره النقد و«النقدة» مجتمع يهرول العالم «فيحبو» يسارع الناس فيمسك البعض بالخطام حتى يقع الفارس والفرس. فيتضاعف الفرح ويزداد السرور. وهذه الحالة الخاصة لا علاج لها. ولو أننا نظرنا بهدوء ورؤية للحركة النقدية السودانية منذ عهدها الأول لوجدنا أنها في سنواتها الأخيرة والمتأخرة، الأكثر ديناميكية، ومحاولة لخلق مدرسة نقدية لها أساسها «وساسها» فكل أو جُل المحاولات السابقة، أجهضت عمداً، على مر العهود والحقب، ظل العداء للحركة النقدية، يأتي من الأبواب التي لا علاقة لها بالكتابة، وتُصر على أن تُكتب في «الكُتاب» ولكن الخلود الكتابي «خلو» في سجلاته من ادخال من لا علاقة له بالكتابة إلى دفاتره، وكل هذه المحاولات البائسة واليائسة تحتاج منا النظر والتدبر والقراءة الواعية. والبعد عن «الطبطبة». فقد فتح لنا بعض الاساتذة مثل أستاذنا الجليل الناقد الحصيف «عبد القدوس الخاتم» «أسبغ الله عليه الصحة والعافية» «كوة» من خلالها ننظر إلى تأسيس مدرسة للنقد الحديث، تقوم على اصلاح «الاعوجاج» وتقويم أسنان الكتابة بمشرط الجهر بالحقيقة، حتى لا يركب سرج الكتابة من لا علاقة له بسروج المعرفة كي لا نقدم من تأخر عن ادراك ثقافته وأقعدت به الأيام في مقاعد خالية من الدرس والتحصيل. وفترت همته عن ادراك بغيته وأجال النظر في الكون الفسيح، ولم يخرج من اجالته إلا بالركون إلى السهو الكتابي واللغو السردي. وكانت محصلته «صفراً» كبيراً في خارطة الابداع. أقر وأعترف بأن نقد «الطبطبة» قد ساهم في ترسيخ أقدام الكتابة البائسة وتقدمها الصفوف، وان هناك من يحرس هؤلاء بجنوده ويسخر نقوده ونفوذه من أجل ادامة صورته الكاتبة في أذهان الاجيال. واذا نظرنا إلى هؤلاء «المتكاتبة» وجدناهم الأعلى صوتاً والأكثر رواجاً والأجسر على تقدم الصفوف وكان الأحرى بهم الانزواء والانكفاء وادخال مطبوعاتهم إلى «دواليبهم» تحرسها الفاقة الفكرية وتهدهدها اللغة الضائعة والمبعثرة في لياليها المدلهمة على أرفف «دواليبها» ولكنها للأسف تخرج إلى العلن وتأخذ حيزها الأكبر وتنتشر كالبثور على «خد» الكتابة السودانية، وقد فشلت كل «المراهم» في علاجها، حتى امتلأ «الخد الكتابي» بها، وأصبحنا لا نفرز بين الكاتب والمتكاتب. فظلل الوهم بظلاله «التوهم» حتى خلنا بأن لن يُبعث فينا كاتب مُجيد مرة أخرى «وأذكر في الكتاب الطيب صالح» واذا نظرنا إلى الخلل عرفناه ولكننا نمضي إلى غيره في سباق ملهوف لنيل الاعتراف من الخارج، ندلق أحبارنا البائسة في وجوه اخوتنا في خارج محيط جغرافيتنا، فيرتد علينا «حبرنا» وأقلامنا وأوراقنا تضرب بها وجه الكتابة السودانية التي لا ذنب لها سوى أن هناك من لم يقتنع بعد بأن ما كتبه أولى به أهل بيته ومعارفه وأصدقائه، وأنه حرام عليه، بأن يخرج ما كتب خارج قيده الكتابي هذا.
أقر وأعترف، بأن مهمة النقد كبيرة وتحتاج لتضافر الجهود لتقييم النقد التقييم الذي يستحقه وأن النهضة في كل المجالات لا تكتمل إلا باكتمال حلقات النقد والاعتراف به، فهو المرآة التي من خلالها ننظر إلى عيوبنا واخفاقاتنا وعن طريقه تزدهر الفنون، وبالفنون تزدهر الاوطان وتُعرف في «العالمين». واذا نظرنا بروية لوجدنا بأن الحركة النقدية والفكرية في كل العصور منذ ما قبل التاريخ كانت تمثل بؤرة الاشعاع وعصب قيام النهضة.
وقد أغرت الحقب النقدية المتقاطعة، البعض بالزعم الفارغ وغير المؤسس بغياب النقد، ولو انهم «حسبوها صاح» فإن المعادلة تقوم على الكتابة الجيدة «أولاً» ومن بعد ذلك تبيان جمالها ومعالجة قصورها ان وجد، ولكن كتاب لا تستطيع أن تتم قراءته أو تتم قراءته ولا تجد فيه ما يستحق النقد، بل «الصفع» وكتاب تقرأه فتجده مُدمراً للأجيال، فنحذر منه، فأصبحنا أيتاماً على موائد «المتكاتبة»، فكيف يقوم للنقد سُوق، وكل البضاعة كاسدة، أيها النقاد أنقدوا يرحمكم الله، لتخرجوا الكاتب من المكاتب، فتقيموا أوتاداً للنهضة الأدبية، فقد اختلط علينا تبر الكتابة وترابها، وحابلها ونابلها، وانتشر رمي الكتب «بالشبابيك» من القراء، وانكسر «مِرق» الكتابة واتشتت المتكاتبة، و«بارت» الكتب في المكتبات وأصبحت القنوات الفضائية البديل الأوحد لمغالبة الكتب الرديئة. اكتبوا وانقدوا وصابروا وبأقلامكم ينجلي ليل الأقلام الجميلة التي تضيف معرفةً وتُوزع في الشوارع.
وأقر وأعترف، بأن معاناة النقد الأدبي، تأتي في الأغلب من بعض الكتابات التي تجد من يجمعها. وأنت تستغرب كيف استطاع الناقد هذا، أن يرى فيها ما لا يُرى، هذه العبقرية بلا شك تحرسها قوة أسطورية ومعرفة بأحابيل «الحواة» وألعابهم «السحرية». إذ كيف يستطيع البعض اظهار جميل القبح ودفن القبح في أقبية الجمال. وثمة أمر قد نتفق أو نختلف عليه، اتفاق الناقد والكاتب، واختلاف الذائقة والقراءة. ولكننا نختلف في درجة التقييم لا محالة. ولكن يبدو ان مهمة «الناقد» التي يُفصلها الكاتب على «جلباب» كتابته، قائمة على «ترقيع» «المرقع» حتى يكتمل «الجلباب» في عين «القارئ» مع مراعاة «القارئ» اسم «الكاتب» هذه المعادلة يتم تفصيلها عند «الترزي» الناقد، ليس من أجل ابراز جمال وعيون «التفعيل» ولكن من أجل تغبيش وعي وذائقة القارئ، حتى يكتب الكاتب عند القارئ «كاتباً» وبعدها لا يهم، اضافته أو حذفه. أو تغوله على الكتابة وتجنيه على القارئ المفترض. ان اهمال مقدرة القارئ على التقييم، لصالح قدرات الكاتب المزعومة «نقدياً» يمثل بلا شك أحد أهم أدواء الحركة النقدية، فالقارئ زكي فطن. وافتراض تقبله كل ما يُنشر يعطي صورة مقلوبة للكاتب تعطيه مناعة ضد قراءة «نصه» قراءة صحيحة حقيقية، تُسهم في رفع النقد إلى مراقي أخرى تعطي النهضة الأدبية آلية دفع تؤشر على درجة نضوج أدبي لا يمكن زحزحته إلى أسفل سلم درجات الأدب وبالتالي غياب الفحص والدراسة والتقييم. واللافت للنظر بأن «الكاتب» الذي لا علاقة له بالكتابة، يحاول بكل السُبل تغييب النقد لصالح «التوهم» بالاستهداف «الشخصي» حتى يُعطي نفسه ترياقاً مُضاداً وفاعلاً ضد تقييمه، وهذه أيضاً حالة «شاذة» تحتاج الدراسة، لأن تغييب النقد بحجة الاستهداف الشخصي يخل بالمعادلة الأدبية ويُساهم في تدهور «الكتابة» واذا سلمنا «جدلاً» بأن كل ما يكتب وينشر يجب على «الناقد» تقريظه وتأكيد اكتمال أدوات الكتابة لدى كل من كتب ولكن هناك «القارئ» لماذا لا يصطحبه الكاتب «المتكاتب» أم ان القارئ لا يهم، فقط الذي يهتم استهداف «الناقد» لعظمة الكاتب المتكاتب. ان استهداف «القارئ» الذي «يرمي» بعض الكتب «بالشبابيك» تقييماً لها بلا شك يُدل على تفوق المتكاتب الذي لا نظير له في اثارة القارئ واخراجه من «طوره» تهديداً مباشراً للصحة النفسية والعقلية لهذا القارئ. وباكتمال شروط الكتابة، تصبح مهمة الناقد جميلة ولطيفة وتختفي نغمة «الزول ده مستهدفني» ان استهداف الكتابة الرديئة، يصبح فرض عين على «الناقد» من أجل غد جميل للكتابة.
العنوان من بيت شعر لبشار بن برد
أضَّل النهار المستنير طريقه
أم الدهر ليل كله ليس يبرح
السودان بين شماله وجنوبه في رواية لشامة ميرغني
تسعى شامة ميرغني في روايتها الموسومة ب «زمن الموانع وجوزيف مُلاح البنات»، «الغاوون، بيروت 2011» إلى تقديم صور من حياة السودانيّين الذي وجدوا أنفسهم تائهين بين شمال وجنوب، ولاسيّما في هذه الفترة العصيبة المفصليّة من تاريخ السودان الذي يشهد انفصال جنوبه عن شماله، إثر الاستفتاء الذي صوّت فيه غالبيّة الجنوبيّين على الانفصال. وتنقّب ميرغني في أعماق المجتمع السودانيّ، تطرح إشكاليّات الهويّة والانتماء، تستعرض جوانب من الابتزاز والاستغلال والتهكّم والانتقاص الذي كان يتعرّض له بعض السودانيّين لمجرّد انتمائهم إلى هذه المنطقة أو تلك. وتقارب خطوط الاشتباك والتداخل، تحرص على عرض الطقوس والأعراف والعادات الخاصّة بالمناطق التي تتّخذها مسرحاً لروايتها.
وتشتغل ميرغني على أزمنة عديدة متسلسلة، حيث الموانع تستولد بعضها بعضاً، تفكّك بنية الممنوع والمرغوب والمُشتهى، المحلّل منه والمحرَّم، تنتقل بين الألم والأمل، تودّ فضح زمن الموانع لتعمّم زمنها المأمول، الزمن الذي يسود فيه التعايش والسلام والأمن والعلم والقوّة بعيداً عن الإقصاء والتهميش والعنف والقتل والاستغلال. وتسرّب رؤاها وتحليلاتها عن الواقع السودانيّ عبر شخصياتها؛ النسائيّة والرجاليّة، فشخصيّاتها تنتمي إلى أجيال ثلاثة، جيل الأجداد وجيل الآباء وجيل الأبناء. وتتتبّع المتغيّرات التي كانت ترافق أو تسبق كلّ مرحلة جيليّة، وكيف أنّ تلك المتغيّرات تؤثّر على مختلف جوانب الحياة.
وبالنسبة لشخصيّاتها النسويّة تكون حاجة السرة ممثّلة للجيل التأسيسيّ القويّ الحديديّ الذي لا تنال منه النوائب، ولا ينساق وراء الأقاويل، تبقى الجدّة قويّة تشكّل مرجعيّة لأبنائها وأحفادها، جريئة لا تخشى من التصريح برأيها، تحاجج الجميع بمنطق سليم، مع شيء من العناد الذي لا يسيء إلى الآخرين بقدر ما يبدو أنّه يخدمهم، فهي التي تظلّ مستمرّة في الزمن، لا تحدّد لها الروائيّة نهاية معيّنة، تُبقي مصيرها مُعلّقاً، كأنّها بذلك تبقيها فاعلة ومستمرّة عبر الزمن، لشدّتها وصلابتها وموسوعيّتها وتجذّرها وانتمائها، وكأنّها تودّ تعميم نموذجها الذي يبقى بعيداً عن المقاربة من قبل اللاحقين، في حين يتشكّل الجيل النسويّ الثاني من الأمّهات، علويّة وفريدة وغيرهما، تكون علوية زوجة الحاج قسم السيد أمّاً لبضع بنات، إحسان، سلوى، اعتدال، أحلام، تخشى على بناتها، تبالغ في فرط حرصها، فتؤثّر بطريقة سلبيّة عليهنّ، ولا تتنازل عن فكرة تعليمهنّ تعليماً عالياً. وتكون علوية همزة الوصل بين الجيلين، يلازمها التوتّر والقلاقل، لا تستقرّ على قرار، تغدو ضحيّة خشيتها ومحبّتها الكبيرة، إذ ترفض الذهاب مع زوجها إلى الجنوب حين كان يعمل في التجارة هناك، لأنّها كانت تحرص على عائلتها، وتخشى من الأوضاع السيّئة التي كانت تعمّ الجنوب.
كما تحضر فريدة باعتبارها ركنا رئيسياً من أركان الجيل الثاني، تمنحها الكاتبة حرّيّة السرد، تسلّمها زمام الرواية، تنفرد بفصل كامل من الفصول الأربعة، تروي فيها حكايتها مع خطّابها وأبيها، هي التي خُطبت ثلاث مرّات، ووقعت ضحيّة سوء تفكير وتدبير والدها الذي كان غير متوازن وغير دقيق في اختياراته، مَقوداً كلّ مرّة بأفكار تُؤَرجحه، وتكون فريدة الضحيّة في كلّ مرّة، تختار فريدة مصيرها بعيداً عن أبيها، تتحدّاه أكثر من مرّة، تهرب مع حبيبها عمر ابن حاجة السرة، تقرّر رسم مسار حياتها بعيداً عن اختيارات أبيها الفاشلة، وبعيداً عن تسلّطه عليها وتحكّمه ومتاجرته بها، تمثّل نموذجاً مختلفاً عن أمّها المسلوبة القرار وأختها الضائعة في زحمة الإنجاب غير المدروس من ابن عم متسلّط، يودي بها الجهل في قرية لتعيش أسوأ حالات التخلّف الاجتماعيّ. ثمّ يأتي الجيل الثالث، جيل العلم والمعرفة والتمرّد الواعي والثورة المُمَنهجة، فتكون رندة ابنة فريدة وعمر هي الأكثر بروزاً هنا، تتمتّع بجمال فاتن، تحصل على شهادة عليا، تتحدّى التقاليد والأعراف المكبّلة لحرّيّة المرأة، تعبّر عن رأيها بحرّيّة، تغدو ناشطة في مجال حقوق الإنسان، تحاول الإمساك بدفّة التغيير، لا تتوانى في الصمود بحثاً عن التغيير المنشود. وتسلّح بالعلم والعناد والعزم والجرأة.
أمّا الشخصيّات الرجالية، فتكون مشابهة لنظيراتها، تتوزّع على ثلاثة أجيال مقابلة لها، يكون الخليفة زوج حاجة السرة الجذر الذي يتفرّع منه الباقون بطريقة أو أخرى، يكون عالماً قاضياً معتدلاً، ثمّ يكون ابنه عمر مثالاً للابن المتعلّم والزوج الوفيّ والأب المتفهّم، يقابله نمط والد فريدة المستبدّ المتحكّم، ثمّ الحاج قسم السيد زوج أخته الوحيدة علويّة. في حين يحضر جوزيف أو يوسف كما يناديه الحاج قسم السيد في كثير من الأحيان، ليكون النقطة الإشكاليّة في الرواية، الحامل الأهمّ للخطاب الفكريّ للرواية، إذ يفاجئ الحاج قسم السيد زوجته وبناته بقدوم قريب له من الجنوب ليدرس الطبّ في جامعة الخرطوم، يحتفي به الرجل أيّما احتفاء، يعرّفه إلى ابنته اعتدال، يطلب منها أن تعامله كأخ، وألّا تتحرّج في التعامل معه، يسعد حين يجمعهما معاً، ثمّ يدخله إلى بيته، ويتكفّل بكامل مصاريفه، وتكون المفاجأة المريرة بالنسبة لعلوية، والسعيدة بالنسبة للبنات، بأنّ هذا الغريب الوافد الذي أصرّت على نعته بالعبد، تبخيساً لقدره وتحقيراً له، هو ابن قسم السيّد من زوجته الجنوبيّة ميري، التي كان قد تزوّجها أيّام مكوثه في الجنوب.
تلك البنوّة المكتشفة تكون نقطة الدهشة والصدمة للجميع، وكلّ بحسب نظرته وتأثّره. وحين يشبّ الابن جوزيف، يحاول الأب تعويضه عن سني الحرمان والحاجة واليتم التي تركه فيها مع أمّه التي رحلت وتركته، يكون جوزيف نقطة الجذب واللغط والالتباس في الرواية، في الجنوب يكون ابن الشماليّ غير المرغوب فيه، وفي الشمال يكون ابن الجنوبيّة التي تنعت بالعبدة، يكون لونه دليلاً على الإقلال من شأنه، في حين أنّ علمه يفرض على الآخرين احترامه، يكون المنقذ والضحيّة في آن، ولاسيّما حين يحقّق إنجازات كبرى، ويتفوّق في اختصاصه. ويغدو الوافد غير المرغوب فيه الطبيب المداوي، والأمل اللائح في الأفق. يتوّج بزواجه الإشكاليّ المغامر من رندة، بعد طول تردّد وتأخير يصل حدّ الاستحالة، العلاقة المنشودة بين الشمال والجنوب. يتزوّج رندة التي كانت تتمسّك به وتدافع عن حبّها له، وتغامر في الزواج به، ساعية إلى التغيير في النظرة العامّة إلى الجنوبيّين وتبديد الشكوك إزاءهم، وتتلافى الانتقادات والاستهزاءات التي كانت تتمادى في النيل منهما.
تسعى ميرغني إلى شدّ أواصر القربى بين شمال السودان وجنوبه، وتكون نهاية روايتها المنتقاة رغبويّة أكثر منها واقعيّة، باعتبارها تختار نهايات سعيدة لشخصيّاتها، تفضّل رؤية سودان موحّد، وعلاقات اجتماعيّة سليمة واعية، كأنّ القارئ يختتم قراءة قصص مبشّرة بنهايات مماثلة متحايلة على بؤس الواقع، يسود فيها السلام والأمان والاطمئنان، ويعيش الأبطال في سبات ونبات، يخلّفون الأبناء والبنات، دون أن تلتفت إلى الشرخ الحاصل في الواقع. أو كأنّها تقرّ باستحالة إكمال الرحلة دون آمال، حتّى وإن بدت واهية.
تُغرق الكاتبة تجربتها الروائيّة، وهي الأولى لها، باللهجة المحكيّة، لا تكتفي بالعاميّة في الحوار فقط، بل تكون هناك صفحات كاملة يكون السرد فيها باللهجة المغرقة في عامّيتها، ما قد يخلق فجوة بينها وبين القارئ في أكثر من مقطع، ويأتي إكثارها من اعتماد العامية إثقالاً على القارئ، واستنزافاً للغتها التي راوحت بين تخوم الفصحى والعامية في كثير من المقاطع. حتّى أنّه يمكن القول إنّ روايتها مشغولة بمستويات لغوية متباعدة، مع تعدّد مستويات السرد والروي التي حرصت على التنويع فيها. كما أنّها تثري روايتها بالكثير من التفاصيل والرموز والدلالات المُوظّفة بدقّة، والتي لها أبعادها الكبيرة في المجتمع السودانيّ.
«زمن الموانع وجوزيف مُلاح البنات» للكاتبة السودانيّة شامة ميرغني هي الرواية الفائزة بالجائزة التقديريّة لمسابقة الطيّب صالح.
عن إنسان يحدث الناس..
صديق المجتبى *
أستاذنا الشاعر الكبير عبدالله شابو، شرفني بكتابة هذه السطور القلائل في صدر ديوانه الجديد القديم.. قلت الجديد القديم لأنه كما قال الشاعر مثل «خمر الدير كلما شاخ تعتق».. من الكلمات المعاني وإلا يحجب بريقه صدأ الزمان، فهي كلآلئ الدهقان البخيل يضن بها يخرجها من كيسه لمن يستحقها بالثمن.. والثمن هنا.. ان تراها بذائقة الناقد الحصيف والشاعر المجيد.. هو الذي يستطيع استخراج اللؤلؤ من اصداف الكلمات.. هذه المجموعة الشعرية جاءت بعنوان «انسان يحدث الناس»... تلك العبارة الشهيرة التي اطلقها الشاعر الانجليزي وليم وردس وورث w.words worth اختصر فيها تعريفه للشاعر بأنه «انسان يحدث الناس» .. وهذه الكلمات الثلاث ٭٭ معاني عميقة وكبيرة فكلمة انسان تعبر عن الجوهر الانساني للشعر والشاعر معا، وكلمة يحدث تقف لترمز للخطاب الشعري الصادر من ذلك الجوهر الانساني للناس كافة.. وكلمة الناس اطلقت على العموم دلالة على نفاذ هذا الخطاب في عالم الناس باختلاف اذواقهم ومداركهم.. وذلك ليدل على ان الشاعر هو القادر على النفاذ لهذا الجوهر الانساني الفذ.. وفي هذا خروج من قوقعة الذات. والتحوصل فيها .. الى قضايا الناس.. الشاعر هنا ينظر الى البعد الأستاطيقي للمأساة .. للموت .. للميلاد، للفقر، والعدم والثراء والبؤس والشفاء، كلها لا تدخل في حقل قصيدته الا اذا اكتسبت ابعادا جمالية محدودة تجعلها كائنا شعريا يحلق في فضاء القصيدة..
لي طلب واحد...
ان يقرأني الناس بطيئا
ان يدعو هذا التيار الخافت
يتسرب في الروح عميقا
فأنا اكتب
عقلي...
وجداني
كلي في شعري..
هنا نشهد حياة ابدية للشاعر.. الذي تحول الى نص خالد يقرأه الناس بطيئا.. ولعله اختار بدلا من كلمة «مليا» في ظني.. مليا تعني الاستغراق في تأمل النص .. و«بطيئا» تشير الى الحركة.. ننسجم مع تداعيات النص الذي حمل مفردة «التيار» الذي يشير الى الحركة اما «مليا» ٭٭ شئ من السكون وعدم القلق بطيئا فيها شئ من الحركة القلقة.. وتدل على شئ من المقاومة والحوار بين النص المقروء والنص المتأمل في الذهن.. فهنا «انسان» يحدث الناس بلغة الاشارة الشعرية.. الذي لا يقرأ النص ببطء يقع في فخ التقريرية.. سيقول هذا النص عادي ولكنه نص بسيط عميق...
كثير من الشعراء يتحولون الى نصوص لا يتسع المجال لذكرهم.. ولكن نذكر هنا ابيات التجاني يوسف بشير.. التي راهن فيها على حياة جديدة للنص بعد موت الشاعر الانسان الكائن الايكولوجي الكبير ما سمعه يقول:
انا ان رِمتُ فالتمسني في شعري تجدني مدثرا برقاعه
وفي يميني يراع كاتب٭٭ وكل إمرئٍ رهين بيراعه
وعلى هامتي اكاليل سحبات وفي سري اداة مصاعه
وعلى مصبحي نثارُ من ال ٭٭ مقدس في بقاعه
فشاعرنا الاستاذ عبدالله شابو شاعر بطبعه في حركته وسكونه وحياته العادية..
فهو يحب ان يرى نفسه مرضيا عنه في عيون الناس.. يحدّق فيك مليا ويتقبلك.. بعينيه الفاترتين من محاجر الزمان.. ادركته الشيخوخة ولكنها لم تدرك عزيمته ...
فلا يزال يراعه فتيا نابضا وروحه وثابة.. ووجدانه مفعم بالحب لكل الناس فهو الباحث ابدا عن رضاء الناس...
يحزنني
الا ارضيك
ان زرع في باحة قلبك شوكا
يحزنني
ان يؤذيك
فكلانا يمسك ريحا مسرعة
لا ترجوني
ارجوك
من اين لمثلي
ان يعطيك
تبرا
او صدفا
الشعر البازخ
وا اسفا
ابحر عن هذا المرفأ
الشاعر الاصيل دائما لا يصل الى حالة من الرضى عن اعماله الشعرية.. ولا يكون مطمئنا من انه وصل الى نقطة التوازن بينه وبين العالم الخارجي لابد ان يراعي ... في صدر ديوانه وهي قطرة في محيط ما كتب عنه من نقد فقد تناولته الاقلام في اكثر من خمسة وثلاثين مقالة ادبية وهذا يشير الى صدور هذه المجموعات منفردة احدثت حراكا ادبيا كبيرا... وكل المجموعة الشعرية جاءت تحت اسم جديد وهو «انسان يحدث الناس» عبر تلك المراحل الثلاث من حياته ... ولكن في النهاية يظل الاصل شاعر .. واحد صدرت عنه هذه الخطابات الثلاثة.. فما اصدق الانسان الذي يتحدث عن احواله دون زيف او مواربة .. فهي جاءت هكذا فكانت قدره وكان هو المبتلى بها..
لا اريد ان افسد على القارئ متعة التجوال في حديقة هذا الشاعر الكبير ولا اريد ان افرض عليه رؤية نقدية معينة ولكن وددت ان اوقد له شمعة في بداية الطريق الى مدينة هذا الشاعر الكبير..
والله الموفق،،،،،،،،،،
* الأمين العام للمجلس القومي للثقافة والفنون
أمير تاج السر سارداً «رعشات الجنوب»
سلمان زين الدين
لست أدري ما الذي يريد قوله الروائي أمير تاج السر في روايته السابعة الصادرة حديثاً «رعشات الجنوب» «دار» ثقافة «للنشر والتوزيع». فعدا تصوير شبكة من العلاقات العابرة بين مجموعة شخصيات تنتمي الى القاع السفلي، ورصد مساراتها ومصائرها بما يتيح تكوين صورة معينة عن ذلك القاع، لا نقع في الرواية على مادة حَدَثيَّة يمكن قراءتها وتأويلها للخروج بنتائج معينة، فكأن الروي هو غاية بذاته وليس وسيلة لقول أشياء معيّنة.
يُمسك تاج السر في روايته بعدد من الخيوط السردية المتفاوتة الطول بواسطة الراوي العليم. وكل خيط يتعلّق بشخصية معيّنة، على أن الخيوط التي لا يتم الإمساك بها في اللحظة السردية نفسها تروح تتقطع تباعاً. وبتلمَّس هذه الخيوط وتتبّعها، نقع على مجموعة شخصيات تتحدّر من واقع سفلي، وتعيش حياة هامشية، وتؤول غالباً إلى مصائر قاتمة ما يجعل «رعشات الجنوب» رواية الأحلام المجهضة، والنهايات البائسة، والمصائر السوداء.
وتدور أحداث الرواية في جنوب السودان، وتترجّح بين جوبا ومداري، وقد تمتد الى نيروبي في كينيا. وتحدث في مجتمع قَبَلي، فقير، ضيّق الأفق، يؤمن بالجن والسحر والخرافة والغيب، ويُدوزن حركته على ايقاع هذا الايمان. وتبدو العلاقات بين أفراده عابرة، سطحية، متمحورة حول الأنا. ومن هؤلاء الأفراد: تاجر الحدود المهرب، صاحب السيرك، المرأة الحامل خارج الزواج، الابن مجهول الأب، الموظف المختلس الهارب... وهم جميعاً يتحدرون من القاع الاجتماعي، ويرتبطون بعلاقات عابرة، ويؤولون الى مصائر قاتمة. على أن في حركة العلاقة بين الشخصيات كان ثمة أحداث ووقائع تركت تأثيرها في تطوّر العلاقة، وكانت لها تداعياتها على حركة الشخصيات.
في الحكاية، رابح مديني وعمبابا أزرق رفيقا صبا يعملان في سوق البردعة في بلدة مداري، يقلّمان أظافر الحيوانات، يقتسمان العطش والجوع، ويشتركان في مغامرات غرامية تؤدي إحداها الى حمل رضيانة الخضر، بائعة الشاي، ووضعها ولداً له صوت أحدهما ورائحة الآخر، ثم تفر به الى مطرة جوبا لتعيش في حي عشوائي.
هذه الذكريات يستعيدها «الصديقان» بعد ثلاثة عقود ونيّف، وقد أصبح رابح تاجر حدود مشهور، يتاجر بكل شيء حتى البشر، ويقيم علاقات مع الحراس، ويحظى بمحبة أبناء البلدة، وأصبح عمبابا صاحب سيرك يعود الى البلدة سنويّاً لممارسة ألعاب السحر والخفة والخدع، حتى اذا ما ساءت حالته المادية يعرض على «صديقه» التاجر الغني أن يشاركه في عمل تجاري، فيرفض الأخير العرض.
وهنا، يشكّل الرفض واقعة يكون لها ما بعدها من أحداث وتداعيات، فيزمع عمبابا الانتقام من رابح، يستعين بموظف مختلس فار من الشرطة ينتحل دور ساحر تركي يزعم معرفة الماضي والمستقبل حتى اذا ما انعقد السيرك فاجأ بعض الحضور بكشف جوانب مجهولة من ماضيهم، وفاجأ رابح التاجر بتوقّع موته قريباً، فيمرض الأخير وهماً، ويموت بالفعل بعد خمسة أيّام.
وتأتي واقعة انتحار الساحر المزعوم لتشكّل حدثاً آخر يكون له ما بعده، ويؤدي الى القبض على صاحب السيرك عمبابا والتحقيق معه. وهكذا، ينقطع خيط رابح السردي بالموت، وخيط عمبابا بالقبض عليه.
ويشكّل موت رضيانة الخضر بالتليّف الدماغي واقعة أخرى يترتب عليها قيام ابنها الجريح، حارس السجن مجهول الأب، بالبحث عن منابعه بعد أن كانت أمه منعته من ذلك في حياتها، فيطلق موتها عملية بحث عن منابع حياة، حتى اذا ما اقترب الباحث من هدفه، يبتعد عنه من جديد، ويعود خاوي الوفاض.
هذه النهايات السلبية تنسحب على معظم شخصيات الرواية، الرئيسية منها والهامشية، فتتراوح بين الموت، والاعتقال، والانتحار، والتسوّل، والتشرّد، والفشل، والهرم، والفرار.
واذا كانت الأحداث تنجلي عن نهايات واضحة لشخصيات الرواية، فإنّ ثمة وقائع غامضة لا يتم جلاؤها في النص، فأبوّة الجريح تبقى مسألة معلّقة وسرّاً تحمله الأم معها الى قبرها، وتبقي ابنها في كذبة كبرى حول أصله وفصله. وموت رابح يبقى مسألة غامضة لا يجلوها النص، واذا كان لمح الى امكانية لدغه فهو لا يوضح كيف حصل ذلك. وانتحار الساحر المزعوم شكّل عنصراً مفاجئاً لم ترهص به الأحداث، ولم يُذكر سبب حصوله. فهل هذا الغموض مقصود لذاته أم هو خلل في البنية الروائية؟ أنا أميل الى التفسير الأخير.
لعل أمير تاج السر أراد القول إن أهل القاع الاجتماعي محكومون بعلاقات عابرة، هشّة، سطحية، من جهة. وهم محكومون بمصائر قاتمة، والبقاء في القاع، من جهة ثانية. وهو بقاء تتحكّم به الأعراف القَبَلية، والغيبيات، والسحر، والخرافة، والفقر، وضيق الأفق.
على أنه خلل هذا الظلام الاجتماعي، كانت ثمة نقاط مضيئة في الرواية نذكر منها قرار رضيانة الخضر أن تُذبل جسدها وتبقيه بارداً تكفيراً عن خطيئتها، وممارستها دور الأمومة، وقيام تايلور النحات الفقير بمد يد المساعدة لها وتعليم ابنها من دون أي مقابل.
في الخطاب الروائي، يصطنع أمير تاج السر تقنية تقليدية في الروي حين يعهد الى راوٍ واحدٍ عليم برواية الأحداث، لكنه يصطنع تقنيات حديثة حين يكسر خطّيّة الزمن، ويفارق بين زمن السرد وزمن الوقائع، ويزاوج بين السرد والوصف والحوار على قلة، ويستخدم الاسترجاع والاستقدام يقطع بهما تسلسل الوقائع المعيشة المسرودة.
وهو إذ يُؤثر الجمل القصيرة والمتوسطة في لغته السردية على الطويلة، فإنّ هذا الخيار لم يجنّبه الوقوع في ايقاع سردي بطئ جعل عملية القراءة محفوفة بالصبر والنفس الطويل، وأحالها نوعاً من الحراثة في أرضٍ وعرة.
المؤتمر الدولي في محور المعارف والمهارات العتيقة بالجزائر
بروفيسور/ د. عباس سليمان حامد السباعي
أتيحت لي الفرصة العظيمة للمشاركة في هذا المؤتمر العالي العالمي الذي جمع كبار الباحثين والعلماء من بعض الدول الأفريقية والاوربية والآسيوية في مدينة تلمسان بالجزائر في الفترة من الثاني والثالث والرابع من شهر يونيو الماضي، ببحث علمي محوره (المعارف والمواد التقليدية للحرف الموسيقية الشعبية وآلاتها الموسيقية). هذا وتعرف مدينة تلمسان العلمية بالاسم الخالد في تاريخ المغرب العربي بشكل عام وفي الجزائر بشكل خاص. وعرفت ومنطقتها المجاورة بمرور الفينيقيين والرومان والوندال والبيزنطيين خلال عصور ضاربة في أعماق الماضي، إلى جانب سكانها الأصليين من قبائل البربر، وبعد استتباب الاسلام بمنطقة المغرب الكبير، تعاقبت عليها عدة دويلات، ولعل أبرزها الدولة الزيانية وهي احدى كبريات الدول الاسلامية المؤثرة التي سادت الشمال الافريقي فترة من الزمن.
لقد تمتعت منطقة تلمسان في ظل الزيانيين ومن خلفهم بسمعة واسعة، استمدتها من مساجدها ومعاهدها الثقافية المتعددة وتجارتها الرائجة على الساحل الافريقي وجوانبه، ومن استقبال الفارين من محاكم التفتيش الاسبانية بالاندلس. واشتهرت بعد ذلك بقوتها البرية والبحرية التي دافعت بها عن السواحل الجزائرية والمغربية إبان الفترة العثمانية، فساهمت في الحفاظ والهوية الاسلامية على المنطقة. وكان لعهود الازدهار الثقافي والانتعاش الفكري التي شاهدتها تلمسان خلال قرون عديدة أثر واضح وبالغ في تحويلها إلى واجهة اكتظت بالعلماء والباحثين وطالبي المعرفة. فخرجت العلماء وطالبي المعرفة، وأنجبت المفكرين والمبدعين في مختلف الميادين، ونتج عن ذلك التعاقب الحضاري والامتزاج الثقافي والاجتماعي عبر العصور، وإرث حضاري كبير ربط بين الكلاسيكية والشعبية يشمل منها المادي والأدبي والفني واللغوي وأنواعاً من المعارف الغنية في مختلف مجالات المعرفة.
فقد خرجت العلماء، وأنجبت المفكرين والمبدعين في مختلف ميادين أنواع العلوم والفنون. وأصبح هذا الإرث اليوم يشكل وحدة ثقافية وحضارية أصبحت لها سمات متميزة تحمل في طياتها الابعاد الثلاثة للهوية الجزائرية ككل من أمازيغية واسلام وعروبة. وهذا الارث في جانبه الشعبي مايزال يحتفظ بالكثير من أصالته وأسراره التي صدر من دوائرها الثقافية هذا العام الملتقى الدولي الذي جاء في محور المعارف التقليدية العتيقة المتصل بتاريخ البشرية من لغات وعادات ومعتقدات وفنون وأدوات تعرف عليها الإنسان من معارف الأجيال المتعاقبة الذي جاءت محاوره على النحو التالي:
جاء المؤتمر بخمسة محاور على النحو التالي:
/1 المعارف التقليدية العتيقة الجانب التنيمي. والقانوني والاقتصادي الاجتماعي والكويني.
/2 المعارف التقليدية العتيقة المهارات الشفوية وصناعة والمخطوطات والكتب.
/3 المعارف التقليدية العتيقة الحرف التقليدية والمواد المستعملة التي من ضمنها الموسيقى والآلة.
/4 المعارف التقليدية العتيقة - التقاليد والاحتفالية والممارسات الطقوسية.
/5 المعارف التقليدية العتيقة - العادات المنزلية.
واستمر المؤتمر لمدة ثلاثة أيام متواصلة، وشارك فيه الباحثون والعلماء العرب الذين بلغ عددهم ثلاثة وخمسين باحثاً وعالماً من الدول العربية والآسيوية والاوربية.
مثل الدول العربية والسودان تسعة وعشرون باحثاً وعالماً، وأربعة وعشرون من الدول الأوربية والآسيوية والافريقية غير العربية. وسأقوم بعرض ملخص بحثي في الايام القادمة إن شاء الله.. والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.