ستولد دولة سيادية جديدة هي جمهورية جنوب السودان خلال أيام قليلة وفي يوم التاسع من يوليو، ففصل الجمهوريتين جمهورية السودان وجمهورية جنوب السودان يأتي نتيجة الاختيار الحر لشعب الجنوب في استفتاء تقرير المصير الذي وافقت عليه الحكومة في الخرطوم بدون تردد. وتعتبر هذه جائزة كبيرة بالنسبة لأهل الجنوب كما كان السلام جائزة ذات قيمة لا تقدر بثمن بالنسبة لشعب السودان شماله وجنوبه حيث اكتسبت بصعوبة في اتفاقية السلام الشامل لعام 2005م بعد عقود من الصراع. لقد شهدت الأسابيع الأخيرة عودة مزعجة إلى الاقتتال في أجزاء من مناطق وقف إطلاق النار الذي نصت عليه اتفاقية السلام الشامل وذلك مع آثار إنسانية خطيرة. وقد تم التوصل إلى تفاهمات جديدة رداً على الاقتتال وأجريت مفاوضات مكثفة على مدى أشهر عديدة بهدف ضمان استدامة السلام وعلاقات الجوار في فترة ما بعد اتفاقية السلام الشامل. وقادت هذه المفاوضات إلى اتفاقيات حول عدد كبير من القضايا البارزة لاتفاقية السلام الشامل وقضايا ما بعد الانفصال. واتفق الطرفان لدى قمة استثنائية للإيقاد في أديس أبابا يوم 4 يوليو على استمرار المفاوضات بعد 9 يوليو لهدف حسم كل القضايا البارزة بروح اتفاقية السلام الشامل. *الديون والأصول: إن العبء الذي لا يطاق من ديون السودان الخارجية البالغة 37 بليون دولار تقريباً مع الحاجة الملِّحة لإعفائها أدخلت عنصراً صعباً آخر في مفاوضة هذا الموضوع. ورغم ذلك تم التوصل إلى اتفاق بين الطرفين حول «الخيار الصفري» الذي وافق بموجبه الشمال على تحمل المسؤولية عن الديون والأصول الخارجية رهناً باستيفاء السودان لقرار البلدان الفقيرة المثقلة بالديون خلال عامين والذي في حال عدم حدوثه ستقسم الديون وفقاً لترتيبات ارتجاعية. وستقسم الأصول داخل السودان وفقاً للقاعدة المحلية، ولقد وافق الجنوب على العمل مع الشمال من أجل إعفاء الديون. لقد تم الترحيب بالاتفاقية المتمخضة بين الطرفين حول الديون في اجتماعات الربيع التي عقدها البنك اللدولي وصندوق النقد الدولي في واشنطن في أبريل 2011م. إن إعفاء الديون شيء ضروري إن كان للسودان أن ينجو من الصدمة الاقتصادية للانفصال ويستمتع بالتنمية المستدامة، وعلى الطرفين والمؤسسات المالية الدولية والدائنين أن يعملوا معاً وبصورة بناءة خلال العامين القادمين لضمان تحقيق الآمال التي بدت الآن. *المياه والاتصالات: ناقش الطرفان اتفاقاً إطارياً تعاونياً حول المصادر المائية العابرة للحدود (التي تشمل مياه النيل والمياه الجوفية والوديان) وتبادلا النصوص المنسجمة إلى حدٍّ كبير. وحول النقل والاتصالات اتفقا على التعاون حول تنظيم النقل النهري والنقل بالسكة الحديدية وإدارتهما المشتركة. واتفقا أيضاً على فترة انتقالية يتم التحول فيها إلى العمل بشفرة هاتفية قطرية جديدة في جنوب السودان. خاتمة تنتهي الفترة المؤقتة التي بدأت في يناير 2005م بالنسبة لاتفاقية السلام الشامل في 9 يوليو 2011م، ولقد جرت اتفاقية السلام الشامل مجراها إذ كانت تجربة فريدة في بناء السلام وكانت ذات تدرج وتعقيد غير مسبوقين. وما كان يتوقع حدوث بعض النتائج بصورة واضحة عندما صيغت مسودة الاتفاقية، ويمكن أن تستسقى الدروس بل يجب أن تستسقى من المشاكل التي برزت، ولكن الإنجاز الكلي لاتفاقية السلام الشامل كما موضح هنا وكما هو موضح في تقارير مفوضية التقييم والتقدير المبكرة يظل أمراً ينظر إليه السودانيون شمالاً وجنوباً بزهو وفخر وليس أقله إجراء تقرير المصير الذي وافق عليه الجميع والذي أضاف عضواً جديداً إلى مجموعة الدول. لقد ذهبت المفاوضات الأخيرة ربما حتماً إلى نهاية الشوط إذ تمت تغطية كثير من المواضيع وأحرز فيها تقدم وحددت مبادئ عريضة لعلاقات الجوار وتم الاتفاق على ترتيباتٍ مفصلة فيما يتعلق بقضايا ما بعد الانفصال الرئيسة التي حددت في بداية مفاوضات عام 2010م. وتم التوصل أيضاً إلى اتفاقيات جديدة حول معالجة بعض قضايا اتفاقية السلام الشامل البارزة إذ تنص هذه القضايا الأخيرة على توسيع مبادئ وبنود اتفاقية السلام الشامل ذات الصلة والتي تتغير حسب الضرورة لتفسح المجال للظروف الجديدة والجداول الزمنية الجديدة. ورغم أن الفترة المحددة لتنفيذ اتفاقية السلام الشامل قد اكتملت لكن ستظل الاتفاقية تحدد العلاقة بين الطرفين في الأوجه المهمة في الفترة القادمة. يجب امتداح الطرفين لانهماكهما المكثف في التفاوض حتى الآن ولكن المهمة لم تنجز بعد، فالمفاوضات حول القضايا المتبقية يجب أن تستأنف مباشرة بعد 9 يوليو كما تم الاتفاق عليه لدى قمة الإيقاد. سيكون من المفيد سحب خيوط التفاوض معاً في اتفاقية واحدة تشمل المبادئ التي تم الاتفاق عليها بشكلٍ واسع والتفاهمات المعززة التي تم التوصل إليها وتحديد الوسائل لمعالجة القضايا التي ما تزال بارزة. وسيكون ذلك بالنسبة للطرفين نقطة مرجعية ضرورية إذ إنها ستطمئن كل المعنيين بأن الانتقال السلس والسلمي يجري مجراه. وحتى عندما تكون المفاوضات مكتملة فمن المرجح أن تكون هناك مهمة مستمرة من التنفيذ والمتابعة وإدارة التحول من جانب الطرفين، فمن المحتمل أن تتطلب التفاهمات التي تم التوصل إليها مراقبة مشتركة على المستوى الأعلى فضلاً عن شبكة اتصالات بين المسؤولين في الحكومتين وعمليات توظيف مشتركة لضمان إعداد المباحثات ومتابعة القرارات. إن أنموذج الاتصال سيكون أنموذجاً جديداً بحسبانه بين دولتين سياديتين، ولكن عقد القمم المنتظمة والترتيبات الداعمة بين الحكومتين لسحب خيوط العلاقة المختلفة معاً ربما تكون مطلوبة. ويتطلب التحول الناجح أيضاً الدعم المستمر من المجتمع الدولي، فما كان ليتم الحصول على التقدم الذي أحرز في المفاوضات بدون قيادة اللجنة التنفيذية الإفريقية رفيعة المستوى وعزيمتها تحت رئاسة الرئيس ثابو مبيكي. وستكون هناك مشاركة أكثر من قبل اللجنة التنفيذية الإفريقية رفيعة المستوى لبعض الأشهر القادمة مع استمرار المفاوضات بين البلدين ومع البناء على التفاهمات ووضعها موضع التنفيذ: ستكون هناك أولوية منفصلة بيد أنها مهمة جداً وهي الأولوية المرتبطة بالصراع الدائر في جنوب كردفان والمرتبطة بتعزيز الاتفاقية التي تم التوصل إليها سلفاً فيما يخص الدولتين. إن ريادة اللجنة التنفيذية الإفريقية رفيعة المستوى في عملية التسهيل أضيف إليها في المراحل الأخيرة من المفاوضات الدعم غير المحدود من رئيس الإيقاد رئيس وزراء إثيوبيا وهيئة الإيقاد. إن الدعم اللوجستي وغيره من أجل التفاوض وتنفيذ ترتيبات ما بعد الانفصال والذي يوجَّه حالياً إلى اللجنة التنفيذية الإفريقية رفيعة المستوى والطرفين عبر مفوضية التقييم والتقدير سيقدم من الآن فصاعداً عبر الإيقاد من خلال وحدة دعم انتقالية إذ تقرر ذلك عقب اتفاقية مع المانحين بقيادة النرويج. لقد حققت اللجنة التنفيذية الإفريقية رفيعة المستوى وهيئة الإيقاد درجة عالية من التكامل في دعم المفاوضات حتى اليوم (وفي الواقع قدمتا بهذا الصنيع أنموذجاً للتعاون بين المنظمات الإقليمية وشبه الإقليمية). ومن المأمول أن يعزز هذا الدعم الجديد أكثر ذاك التكامل. إن الترتيبات المتفق عليها الآن تنص على عملٍ دولي على الأرض دعماً للأمن، وسيكون هذا الأنموذج أخف من الأنموذج الحالي بيد أنه أكثر تعقيداً منه. وسينتهي تفويض البعثة الأممية في السودان «يونميس» يوم 9 يوليو وسيكون في مكانها إضافة إلى قوة الأمن الأممية المؤقتة لأبيي وبعثة المراقبة الحدودية الصغيرة التي ورد ذكرها آنفاً عملية جديدة في الجنوب ذات دورٍ أكثر وضوحاً في بناء السلام بحيث تعكس التزام المجتمع الدولي بالاستقرار وإصلاح القطاع الأمني في الجمهورية الجديدة. وربما يكون مطلوباً إضافة لذلك عملية مراقبة وتحقق من طرفٍ ثالث علاوة على المساعدات المالية لدعم ترتيباتٍ أمنية جديدة وتكامل في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق. وتمثل مثل هذه العمليات استثماراً ملموساً بواسطة المجتمع الدولي في إقرار السلام وتعميقه في الفترة المباشرة لما بعد اتفاقية السلام الشامل. إن الأسباب والآثار تختلف اختلافاً حاداً من عملية إلى عملية ولكن هناك فوائد واضحة يمكن استخلاصها من مردود التنسيق المتسق مع التفويضات المختلفة للعملية، فتعيين مبعوث أممي قادر على جمع خيوط السياسة الشمالية/ الجنوبية المختلفة معاً والتفاعل مع الحكومتين ومع الاتحاد الإفريقي على المستوى السياسي يبدو أمراً ضرورياً. لقد باتت مفوضية التقييم والتقدير لمدة ست سنوات تجمع طرفي اتفاقية السلام الشامل معاً ومع الحكومات والمنظمات الدولية التي شهدتها: بلدان الترويكا النرويج، المملكة المتحدة، الولاياتالمتحدة، هولندا التي لعبت دوراً قيادياً في عمل مفوضية التقييم والتقدير المتعلق بأبيي وجنوب كردفان والنيل الأزرق، وهناك إثيوبيا وكينيا من دول الإيقاد، وإيطاليا التي رأست منبر شركاء الإيقاد، وأخيراً جداً مصر إضافة إلى الجامعة العربية والاتحاد الإفريقي والاتحاد الأوربي والأمم المتحدة. فالعمل الذي كانت تقوم به هذه الجهات في الخرطوم وجوبا كان يوازيه نشاط دبلوماسي مكثف من ناحية مبعوثي الدول الأعضاء في مفوضية التقييم والتقدير والحكومات الأخرى ذات الصلة وذلك خلال فترة متابعة المفوضية. ستكون التحديات في الفترة التي ستعقب اتفاقية السلام الشامل مباشرة مختلفة بيد أنها تحديات ليست أقل واقعية، فالإطار الدبلوماسي لمعالجتها سيكون أخف بالضرورة بما يعكس نهاية اتفاقية السلام الشامل والتقدم الذي أحرز. لكن ستكون هناك حاجة للعمل والتعاون المستمر سواءً أكان بصورة غير رسمية أو في شكل مجموعة أصدقاء يدعمون الطرفين والهيئات الإقليمية الرئيسة الاتحاد الإفريقي والإيقاد وذلك في سعيهم لتعزيز الاتفاقيات التي تم التوصل إليها وبناء علاقة تعاونية وذات فوائد متبادلة بين الشمال والجنوب. إن «الأجندة» ليست بالطبع دبلوماسية أو أمنية بحتة، فجمهورية جنوب السودان الجديدة ستكون من بين الدول الأقل نمواً في العالم والمتأثرة تأثراً حاداً بالصراع رغم أنها موهوبة بالموارد الطبيعية. وكما سلفت الإشارة فإن جمهورية السودان تواجه تحدياتٍ اقتصادية خطيرة بعد الانفصال وتتجشم عبئاً ضخماً من الديون، وكلتا الدولتين تواجه مشاكل إنسانية متكررة يفاقم منها الصراع الداخلي وسيظل كلتاهما يكافحان تحدي التحول الديمقراطي. إن الدعم الدولي للتنمية الذي ينعكس في إعفاء الديون مثلاً أو المساعدة في بناء القدرات للحكومة السيادية الجديدة في الجنوب يجب أن يجد أولوية قصوى في فترة ما بعد اتفاقية السلام الشامل، فمثل هذا الدعم سيتطلب بالمقابل المشاركة والتعاون الفاعلين على الأرض من جانب الحكومتين لضمان التقدم. إن أهل السودان شمالهم وجنوبهم يستأهلون مستقبلاً سلمياً ومزدهراً، فنجاح اكتمال اتفاقية السلام الشامل يمثل خطوة كبيرة في هذا الاتجاه فهو أمر مهم بالنسبة للسلام والأمن الإقليميين والدوليين فيجب ألا تضاع الفرصة التي يقدمها. فالطرفان وشركاؤهما الدوليون قد يطبق عليهم الصمت في الأيام القادمة للاحتفاء بميلاد دولة جديدة هي جمهورية جنوب السودان وتأسيس علاقات جوار على أساس جديد بينها وبين دولة القائمة جمهورية السودان. ومن المأمول أن تقدم الاحتفالات دافعاً إضافياً لما ينبغي أن يكون جهداً تعاونياً دائماً بين الحكومتين وشركائهما الدوليين في فترة ما بعد اتفاقية السلام الشامل.