لم يكن إعلان انفصال الجنوب في التاسع من يوليو الجاري حدا فاصلا لما بين جمهورية السودان ودولة جنوب السودان الوليدة من مصالح وتقاطعات مختلفة على كل الأصعدة إذ ما زالت ملفات كثيرة عالقة بين الطرفين لم يصلا فيها إلى حلول واضحة بشأنها وأن من بين النقاط العالقة الروابط الاقتصادية التي أول ما ظهر منها على أرض الواقع مسألة العملة النقدية لكل بلد، إذ فاجأت دولة الجنوب الوليدة الجميع بإعلانها أمس الأول توزيع عملتها الخاصة بها والتي تحمل اسم الجنيه منتصف الأسبوع القادم ولم تكتفِ بذلك بل قطعت في تحديد سعر صرف عملتها الوليدة بما يساوي سعر صرف الجنيه السوداني، الأمر الذي عده خبراء أنه لا يعدو عن كونه بحث عن مخرج للدولة الوليدة اقتصاديا واستهداف لما بين يدي مواطنيها وخزينتها العامة من كتلة نقدية قوامها الجنيه ودعوا إلى قطع الطريق أمام مخطط دولة الجنوب بتغيير العملة المحلية بالشمال تفاديا لكل المخاطر التي قد تنجم عن الاستمرار بالعملة السابقة ولعل أول ردود الأفعال لإعلان دولة الجنوب توزيع عملتها الجديدة الاثنين الماضي ضاربة باتفاقها مع حكومة الشمال الاستمرار بالعملة الموحدة (الجنيه) لمدة ستة شهور عرض الحائط كان من أعلى هرم حكومة السودان المشير عمر حسن أحمد البشير لدى مخاطبة المجلس الوطني أمس الذي أعلن على رؤوس الأشهاد ترتيبات المالية والبنك المركزي لطباعة عملة جديدة غير أن عامل الزمن في تغيير الجنيه بالشمال اعتبره خبراء مهما لتلافي كل ما ينجم عن الاستمرار بالعملة القديمة لجهة وجود نسبة كبيرة في دولة جنوب السودان . ومن جانبه يقول البروفيسور عصام بوب إن إصدار حكومة الجنوب لعملتها لم يكن مفاجئا واعتبره قرارا صائبا بحسابات مصالحها الاقتصادية لجهة مساعدته في تأسيس كيان اقتصادي قوي لدولة الجنوب علاوة على الدعم الأجنبي الدولي الذي ستجده الدولة الوليدة لتغطية العملة الجديدة حتى تجد طريقها للبورصة العالمية ومن ثم التداول دوليا وزاد إن خطوة حكومة الجنوب ستضعها على عتبات وعاء العولمة بجانب أن إصدار عملة خاصة بدولة الجنوب سيسهم في دعم القطاعات الاقتصادية الحقيقية وإنشائها بصورة صحيحة تبدأ من القاعدة الأساسية دون الالتزام بديون أو أية التزامات أخرى هذا بجانب الغربة الجامحة من التخلص من العملة النقدية الشمالية عبر ضخها شمالا استخلاصا للعملات الحرة من السوق الشمالي ومن ثم إعادة ضخ العملات الحرة في شرايين اقتصاد دولة الجنوب .ولفت إلى تصريحات حكومة الجنوب بمساواة سعر صرف عملتها الجديدة بالجنيه السوداني يمثل قاعدة ابتداء قوية بيد أنها تعتمد على مخزونات أو احتياطات الجنوب من العملة الشمالية الورقية التي لم تستبدل بعد مما يجعل الباب مفتوحا لإعادة أطنان من العملة الشمالية من أحضان الدولة الوليدة شريطة وجود قاعدة اقتصادية مشتركة مبدئيا أساسها جنيه بجنيه حتى يترقى اقتصاد الجنوب ويقف على رجليه جراء التدفقات النقدية الخارجية وتكوين احتياطي جيد منها. ويقول بوب كان من الضرورة بمكان تغيير عملة الشمال والبدء في ضخها مع إعلان الانفصال غير أن المسؤولين بالشمال يكونون دوما في حالة ذهول ولا يفطنون إلى المستقبل إلا بعد وقوع الفأس في الرأس . ويقول الدكتور محمد الناير واضح أن حكومة الشمال لا زالت تتعامل بعفوية تامة مع الجنوب والغرب إذ أنها وافقت على لسان محافظ بنك السودان المركزي على تداول الجنيه السوداني بالجنوب لستة أشهر بعد الانفصال بالرغم من التحذيرات والمحاذير المحدقة بمثل هذه الخطوة في وقت كانت فيه حكومة الجنوب استنادا على قرائن الأحوال تعمل على توفيق أوضاعها بالشروع في طباعة عملتها الخاصة في الخفاء وحكومة الشمال تنام على شط الثقة لم يفقها إلا إعلان دولة الجنوب طرح عملتها التي حددته الأسبوع القادم الأمر الذي يعمل على إرباك حسابات دولة الشمال وزاد الناير أن الوضع الطبيعي يحتم على حكومة الشمال الاحتياط بعملة جديدة مطبوعة تطرح مع إعلان الانفصال بالتزامن مع طرح عملة الجنوب للتخلص من كل رمزية للجنوب في العملة السابقة ومنع التزوير والتلاعب في العملة القديمة علاوة على تقليل الطلب على الدولار لجهة تفضيل تحويل الجنيه السوداني القديم بأيدي الجنوبيين إلى دولار مما يشكل ضغطا على الطلب على الدولار وتمنى الناير أن يكون البنك المركزي قد احتاط لمثل هذه الخطوة ويقدم على مفاجأة الكل بطرح عملة جديدة وإذا لم يكن ذلك فعليه الشروع على وجه السرعة والعجلة في طرح عملة جديدة بغية السيطرة على الكتلة النقدية بالبلاد وحمايتها من التلاعب والتزوير والمحافظة على قيمتها الحقيقية . وزاد الناير أنه من السابق لأوانه بل من الصعوبة بمكان تحديد سعر صرف عملة الجنوب لضعف الاحتياطي بالجنوب وأن الذي لا ريب فيه الآن ضعفها مقارنة بالجنيه السوداني إذ لا يوجد إنتاج حقيقي بالجنوب يوازي العملة النقدية واعتبر الناير مطالبة دولة الجنوب بمساواة قيمتها بالجنيه بحث عن مخرج واستهداف لاستبدال العملة بالجنوب بنفس قيمتها غير أنه بعد سحب الجنيه السوداني ستواجه عملة الجنوب بوضعها الحقيقي الذي سمته الضعف وأعرب الناير عن شكه في مقدره الجنوب على تقويتها جراء ضعف البنى التحتية بالجنوب بجانب انتشار النزاعات القبلية واشتعال الحروب الأهلية إضافة للعودة الكثيفة للجنوبيين من الشمال فكل هذه الأشياء بحسب وجهة نظر الناير تحتاج إلى عشرات الأضعاف من عائدات نفط الجنوب لمقابلة احتياجاتها وختم بأن الجنوب لن يستطيع بناء احتياطي مقدر من العملات لعدد من السنين وأن القياس لعملته الآن غير حقيقي والأيام كفيلة بكشف زيفه .