يتحدد تطور وتقدم المجتمعات بقوة دفعها الثقافي من حيث القدرة المستدامة لقابلبات الإبداع والخلق التي تحملها ، وحيوية أنساقها في التفاعل والاستيعاب والتكامل لصنع الثقافة الإستراتجية الضامنة لمراحل تقدم وتنمية المجتمع ، والمحددة لطبيعة مهامه عبر التاريخ . ومن ثم فان أي تغير في الثقافة يتضمن فعلياً تغيراً في المجتمع من حيث أهدافه ورؤاه التنموية ... وعلية فان أي فعل تغييري حقيقي يبدأ من الثقافة ومكوناتها أن أراد أن يكتب له النجاح والاستمرارية .... هذا الفعل يجب إن تتكثف رؤاه عبر جدال فكري عميق يستشرف المستقبل ويتجاوز الماضي بأدوات نقد بمقتربات تمتلك صلاحية ملامسة واقع تاريخي متعين قصد إنتاج اسئله الحاضر للإجابة علي قضاياه الإنسانية المستقبلية . إن هذه الأصول الثقافة الدستورية بالمشروع التواثقي المأمول ستعزز بالممارسة السياسية الواقعية التي تأخذ بالتوحيد والحرية:إدخالاً للسياسة والوظيفة العامة في سياقها الإنساني التوحيدي،قدوةً دينية وأخلاقية مستشعرة للرقابة الإلهية اولاً ثم بعد ذلك تأتي تدابير الرقابة الشعبية الاجتماعية بالدستور والقوانين المختلفة وليس كما في التجارب الغربية التي تعول علي هذه التدابير التي قد لا تفلح في كبح صور الفساد التي يتم التحايل عليها بمختلف الأشكال القانونية في غياب الوازع المعنوي ،جماعيةً في القيادة السياسية تذهب عنها القداسة الزعامية(كما في التجارب العالمثالثيه) وتتكامل فيها السلطة القيادية التنفيذية والتشريعية بسلطة قيادية تقوم بأختيار جماعي اتحادي وولائي وتتحرك نحوها جهازاً تنفيذياً متكاملاً وسلطة تشريعية تستصحب المبادرات الاتحادية والولائية وتتحرك نحوها جهازاً تشريعياً متكاملاً أيضاً،قوامةً إنسانية سياسية ودينية تقوم علي عناصر التكليف الديني والوطني والكفاءة المهنية والوظيفية والاجتهاد الفردي والجماعي والمسئولية التضامنية ومراعاة التخصصية التي تساهم في سيادة القرار والروح الجماعية وسد الثغرات الوظيفية كما لو كانت قياداتها السياسية علي قرار واحد ووظيفة واحدة مهما تباينت المسئوليات والاختصاصات . أن هذه الثقافة الدستورية الواجب مراعاتها يستوجب أن تقوم علي الاختيارات التالية :- * الديمقراطية الاجتماعية والثقافية، الاختيار الاتحادي يعزز الديمقراطية (أو الشورى)الثقافية المجتمعية الولائية.فهي قيادة إنسانية اجتماعية ودينية تقوم علي فكرة ألإمامه الشوريه (كما في الصلاة)اختياراً يعتمد علي التناصح والمراجعة والمراعاة لأحوال المكلفين،ألإمامه الاجتماعية التي تعتمد علي مفاهيم الشراكة في المؤسسة (الزوجية،العائلية، القبلية) تعاقداً علي التراضي والقبول وليس علي عقود الوراثة القدرية أو الوصاية الجبرية . وهو اختيار يشيعُ خدمات اجتماعية أساسية تطال مختلف قطاعاته الإنتاجية الشعبية لاسيما الزراعية والحيوانية بحسبان أن هذه القطاعين هما جماع التركيب الاقتصادي السوداني (مجتمع زراعي رعوي) فالمنظومة الاتحادية بما تقدمة وتتيحه من خدمات اجتماعية أساسية ستطور هيكل المجتمع (بأساليب التمويل الرأسمالي الشعبي وبعلاقات إنتاج جديدة وبقوانين ونظم أكثر ارتباطاً بإبعادها المحلية=علاقات أكثر إنسانية تعيد ترتيب الأولويات الاقتصادية والاجتماعية للدولة لصالح القطاعات الأكثر شعبية في اتجاه صياغة جديدة للمجتمع الزراعي والرعوي المنتج). وهو اختيار يساهم في التواصل الاجتماعي،شعبية للوظيفة التعليمية فإنزال التعليم سيساهم في كسر احتكار النخبة العاصمية للبيروقراطية الإدارية والزعامات الحزبية التي تدير اقتصاديات التعليم لصالح الهيمنة والتمايز الاجتماعي (الحظوظ التعليمة للمناطق المهمشه،تاريخياً نموذج كلية غوردون التذكارية كحاضن مركزي تعليمي يحافظ علي وتيرة هذا النظام الاستعماري وضمان تفوقه المستديم) واتساعاً لرقعة القيادة الفكرية للبلاد في مختلف التخصصات المهنية بما يوسع من النخبة الفكرية المهيمنة ويحررها من طوق المثل الغربية (الليبرالية):احتكار رأسمالي،طبقات متصارعة ،ارستقراطية ? بروليتاريا أو الشيوعية الشمولية :رأسمالية الدولة المركزية ،حزب حاكم واحد.فالشعبية الاتحادية للعملية التعليمية ستفتت من وجه آخر المنظومة العصبية الطائفية عبر أشاعه المعرفة والتقنية لكل مستويات البناء الاتحادي بنفس قدر تعزيزها لفرص التعايش الأهلي السلمي بتنوع ثقافة السلام التي ستبني أساساً علي قدر واسع من إتاحة التعليم الأساسي والجامعي،وتداخلاً اثنياً وتبادلاً للمنافع علي مستوي رأسي من المحليات وحتى رأس الولاية وعلي مستوي أفقي بين الولايات المتعددة بإمكانيات أكثر واقعية لنشوء مفهوم السوق الوطني بكل عناصره وأبعاده التبادلية:الطرق والمواصلات ووسائل التواصل الجماهيري والنزوح والتزاوج الداخلي والمحلي بين مختلف هذه العناصر.وهو اختيار يعمق الحرية الثقافية الأساسية في معادلة التنوع والوحدة الثقافية الشعبية تحاوراً وتشاوراً بناءاً ، فالحرية الإبداعية ستقوم في إطار تقابل فاعل مع فكرة الثقافة المفتوحة (=النموذج الثقافي الإبداعي الشمولي المركزي تبدده الفكرة الاتحادية) والوحدة الثقافية ستتحقق عبر الحرية وليس الإكراه . وعناصر هذه الحرية الثقافية حسب التجربة الوطنية الماثلة هي :التنوع الثقافي والإثني، الانفتاح الجغرافي والاجتماعي للسودان بالهجرة الداخلية والخارجية ،الحوار الثقافي والسلام الاجتماعي . وهو اختيار مبدد للعُري العصبية والطائفية في العلاقة الاتحادية،فالنموذج الاتحادي تجاوز للبناء العصبوي والطائفي لأنه يتيح إنتاج :هوية سياسية واجتماعية موضوعية موحدة للنسيج الاجتماعي الوطني بنظام عضوي(عقلاني)لمؤسسات مدنية فوق عصبية مستصحبة للتباين والتعدد الاجتماعي ألولائي. * الديمقراطية الاقتصادية والمالية،الاختيار الاتحادي يعزز الديمقراطية (أو الشورى) المالية الولائية فالموازنة العامة تقسم بالدور ألولائي المتعاظم، فالخيار لن يكون أن تقبلها كلها أو تدعها في ميزان يكون السلطان الاتحادي فيه هو الأغلب دون مساهمة بالتعديل وتداول الموارد. فالموازنة العامة ينبغي أن لا تؤخذ من الولايات دون إن يكون لها فيها نصيب:فالمقترحات الولائية بعناصرها الإنتاجية المتباينة زراعةً ورعياً …الخ، ستراعي التعبير عن المصالح الفئوية المتوازنة للقواعد الإنتاجية الوطنية بعد تصميمها ديمقراطياً لتناسب الضرورات والاحتياجات الولائية من جهة ولتحافظ علي الغايات الكلية والأهداف الوطنية الاتحادية إجرائياً ومفاهيمياً ثم فنياً وظيفياً . * الديمقراطية السياسية (الإجماعية)، الاختيار الاتحادي يساهم في صناعة قرار وطني اتحادي إجماعي وليس قرار تغالبي ،إلا إذا تعذر ذلك.فأمام أيهما نحن : المدخل ألصراعي ،المدخل الإجماعي. فالمدخل للعملية السياسية ليس بالضرورة مدخلاً صراعياً. فالسياسية الاتحادية وظيفة إنسانية رسالية وليست دور محايداً معزولاً عن السياق التوحيدي للحياة العامة دون اعتباراً مصلحي أو واقعي، ليس هنالك تقابل بالضرورة (كما في التجربة الليبرالية ) : أغلبية،أقلية. حكومة،معارضة.يمين ،يسار .مجتمع مدني،سلطة سياسية.مؤسسات تمثيلية،أجهزة سياسية تنفيذية.فالحكمة الديمقراطية الاتحادية تتجسد في كونها شوري تسودها روح إجماعيه وليست تغالبيه.التغالب فكرة تقوم علي نفي الآخر وهزيمته بالروح الصرإعية بحثاً عن عناصر التفرق والتشرذم والتناقض السالب، بينما الإجماع فكرة تقوم علي إستصحاب الآخر وتجاوزه البناء بالروح الوفاقية بحثاً عن عناصر الوحدة والتباين الايجابي. * الديمقراطية المحلية، الاختيار الاتحادي يقوم علي اقتراب السلطة السياسية من واقعها المحلي، فالاقتراب المحلي هو اقتراب نفسي جغرافي: تقسيمات سياسية وإدارية اقرب إلي الواقع الجغرافي الطبيعي. وهو اقتراب نفسي تصبح السلطة السياسية فيه متاحة شعبياً وأمراً قابلاً للتعامل الحسي معه وليس المجرد فقط، فالقيادة السياسية والتنفيذية ستنزل لجمهور المواطنين وعامتهم انفعالاً بأحوالهم المعيشية والخدمية أينما وجد ممثلين لهم في مختلف حلقات الحكم ألولائي والمحلي دوراً أصيلا مباشراً أو تنسيقاً غير مباشر، فديمومة العلاقات يفرض نوعاً من ألمفاعله الحية اليومية، وبساطة هذه العلاقة تتيح قدراً من المصداقية التمثيلية لكل بطن ،لكل قبيلة،ولكل قرية او مدينة بالتواصل الايجابي المباشر عوضاُ عن التواصل غير المباشر عبر الوسائط العضوية والتقنية، علي أهمية الحاجة لأمثال هذا النماذج التواصلية.هذا التواصل الإنساني البشري يعمق قيم الشورى المحلية والمناصحة العامة والتصالح والتفاوض الاجتماعي رعايةً للنظام الأهلي وتجاوزاً لعيوبه ونواقصه،فالإطار التنظيمي الأهلي ينبغي أن تتجاوز مفهوماته قواعد الأسس التقليدية للانتماء القبلي العصبوي احتراباً وتنافساً وقيماً انغلاقية. فالقيادة ليست سلطاناً سياسياً فقط بل إمامه إنسانية اجتماعية ودينية.إن الديمقراطية المحلية ستستكمل المجال السياسي فلكل مجال فيها سياقه القانوني والوظيفي.فالحكومة المحلية هي مناط التكليف وهي التي سيقع عليها عبء الحفاظ علي المنطقة المشتركة بين الحكومة الولائية والاتحادية فهي :الوحدة البشرية والجغرافية التي تنشأ فيها الحقوق والواجبات ومن مجموعها تتشكل الحالة الوطنية (= الموارد الطبيعية أصلها محلي، الطاقات البشرية والفنية أصلها محلي،السلطة السياسية مصدر مشروعيتها محلي:فهي الواقع المتعين للموضوع السياسي والمجال السلطوي).الديمقراطية المحلية ستعيد تأكيد الطابع المحلي من جديد لمؤسسات الخدمات الاجتماعية والاقتصادية صحةً وتعليماً وتمويلاً زراعياً وحيوانياً وحرفياً بل ستعيد توزيع مؤسسات الثروة الوطنية باليات أكثر عدلاً باقترابها ومطابقتها للواقع الاجتماعي المحلي بأنظمة تمويلية ومصرفية وادخارية وتكافلية ووقفية،بل أنها ستعيد تأكيد الطابع المحلي لتنظيمات المجتمع المدني بإكسابها مشروعية من تواجدها المحلي وتجذرها في نسيج القيم المحلية(تنظيمات مجتمع للمرأة والشباب والعمال أو منظمات طوعية أهلية بمختلف أشكالها). * المركزية الإفريقية- العربية، الاختيار الاتحادي تجتمع فيه عناصر مركزية افريقية عربية اتحادية.فالسودان (=المصطلح،الوعاء الجغرافي،المحتوي الاجتماعي) تلتقي فيه كل مقومات الوجود الإفريقي العربي:الثقافة العربية الإفريقية (اللغة العربية كعنصر توحيد وتواصل، اللهجات الإفريقية بجوارها الممتد) ثم بالحرية الدينية(المصالحة التاريخية بين الإسلام والثقافة الإفريقية تعزز نموذج التعايش والتسامح الديني).كل ذلك تؤكده شواهد التجربة الإنسانية الاجتماعية السودانية بعائلتها الممتدة وجوارها القبلي المتداخل وبقيم الإسلام في إفريقيا التاريخية بعالميته الإنسانية(وحدة الملة الإبراهيمية) التي تقربه من الأصول الثقافية والعرقية الإفريقية إسلاما ومسيحيةًً ويهوديةً التي لم يقطعها إلا الأثر الاستعماري الأوربي والهجمة الصليبية التي حرفت هذه الأصول الثقافية في اتجاه التمزق والفرقة السياسية الإفريقية والعربية (الكيانات السياسية غير المتكاملة سياسياً وثقافياً واجتماعياً لأهداف وأغراض استعمارية تتبني في أحيان كثيرة مركزية اثنيه وثقافية أوربية فارضة لغتها ونماذجها الحضارية والسلوكية وسياستها التميزية والعنصرية ونظام تقسيمها للعمل الاقتصادي والاجتماعي الدولي بل وحتى تفسيرها العرقي للأصول الدينية المسيحية واليهودية،لتعمل كل هذه المعطيات علي إعادة إنتاج علاقات الهيمنة والاستكبار السياسي والعبودية الاجتماعية والاقتصادية).الاختيار الاتحادي باستصحاب هذه المعاني هو الجسر لبناء السلام من الداخل ولعناصر إمكانات قوته ولمواجهة التحديات الوطنية والإقليمية والعالمية التي تعتري مساره. كاتب صحفي و باحث في مجال دراسات السلام و التنمية