استخدمت الصحف واجهزة الاعلام بالعاصمة القطرية الدوحة امس الجمعة لفظ «الفرح» تعبيرا لمظاهر الاحتفال بتوقيع حكومة السودان وحركة التحرير والعدالة اتفاقيتين، في وقت متأخر من نهار الخميس اول من امس، اولاهما: اتفاقية «اعتماد وثيقة الدوحة للسلام في دارفور»، وثانيهما: بروتوكول «المشاركة السياسية لحركة التحرير والعدالة واستيعاب قوات الحركة». كانت مصادر الفرح في الدوحة متعددة، فقد نجحت جهودها لاكثر من عامين في وضع لبنة يمكن الاعتماد عليها لبداية جديدة في سلام محتمل لدارفور، واستطاعت خلال هذه الفترة الاحتفاظ بعلاقات الاحترام مع كل الاطراف السودانية وقد خاطبت الجميع من ذات المسافة من الود والتقدير، كما ان شراكاتها في السياق الاقليمي الدولي ظلت متنامية باتجاه الوصول بالمبادرة الافريقية العربية بشأن دارفور الى نهاياتها المرجوة من امكانية سلام عادل وتنمية قابلة للاستدامة، فيما اطمأنت الدوحة على نحو موثوق به ان شركاءها الدوليين والاقليميين لن يتخلوا عنها في مختلف مراحل تمويل التطبيق السلس لوثيقة الدوحة خاصة اذا ما تزايدت حول الارادات الدارفورية خاصة والسودانية عامة، من خلال مؤسسات تشمل الجوانب الانسانية والتنموية والاستثمارية، والثقافية الاجتماعية، وقد اضحت قطر بذلك قادرة على ترفيع الجهود الدولية والاقليمية لدعم العملية السلمية في اي مرحلة من المراحل القادمة. لقد اكتمل شعور الدوحة بالفرح ان الوثيقة اضحت بالمشاركة والحوار والتفاوض ملكا للدارفوريين على الشيوع وبوسعهم تطوير الحالة الدارفورية في السودان مستقبلا من خلال العمل المشترك. لقد جاء اعتماد الدوحة لفرحها ومسؤوليتها بشأن دارفور في خطاب امير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، فقد ورد في خطابه انه قد «آن الاوان ان تنعم دارفور، واهلها بالاستقرار بعد طول عناء، وان يتمكنوا من العودة الى ديارهم وممارسة حياتهم الطبيعية في ظل توفر المقومات الاساسية للحياة الكريمة».. وكان الامير يصدر في خطابه، من رغبة قطر في توفير مناخ الاستقرار من خلال مخاطبة الضمير السوداني، مصلحة اهل دارفور خاصة واهل السودان عامة، وان يشاركوا جميعا في صنع سلام حقيقي يعبر عن اخلاصهم لوطنهم ووضع مصلحته فوق كل اعتبار» . ثم صعد الامير سلم اعلى في درجات النصح والمناصحة من اجل توفير ضمانات اكثر للاستقرار والتنمية، حيث اورد ان شعوب المنطقة لم تعد تحتمل النزاعات الاهلية ويؤكد ان الشعوب «تريد العدالة والحرية»... وهما مبلغ طموح الشعب ، بمن في ذلك الدافوريون، في سبيل اكتمال توفير تلك الشروط الداخلية بارادة الشعب السوداني ودولته ، فان قطر كقول اميرها «حريصة بالتنسيق مع شركائها الاقليميين والدوليين على ان ترى ابناء دارفور والسودان عموما ينعمون بالامن والاستقرار، وهما شرطا التنمية والاستقرار».. من جانبهما فقد اكد طرفا الاتفاق برغم اختلافهما في تفسير حيثيات ماضي النزاع ، فانهما قررا الاتجاه نحو المستقبل، اذ أورد البشير في خطاب «إننا بين يدي عهدي وفجر جديد لأهل دارفور»، على آن ما قاله الرئيس قد لا يعني شيئا اذا ما تواصل تدفق السلاح الحكومي في الايدي خارج الاطر الرسمية، او استمرت حالات ما يعرف بالتفلت الامني، او توقف الحوار مع قيادات الحركات المسلحة الاخرى ايا كانت درجات تحفظها، لقد توفرت اليوم ارادة دارفورية بوسعها المساهمة بأعلى درجات الوعي والاستنارة في بناء الثقة بين الاطراف بقاعدة اعتماد وثيقة الدوحة خلال مؤتمر اهل الشأن والمصلحة في دارفور مؤخرا بالدوحة. على الرغم من توفر مظاهر الرضا والفرح وسط حضور الاحتفال بالتوقيع على الوثيقتين ، والانتقال بعد التوقيع في مسيرة سلمية آمنة من الشيراتون مقر التوقيع الى القصر الاميري، مباركين جهد قطر، وشاكرين للحكومة القطرية، وهناك ثمة اسئلة ... اخذت تطرح نفسها في سياق الاهتمام باستكمال العملية السلمية لدارفور على نحو يسمح لكل السودانيين من المشاركة بمن في ذلك -وعلى نحو خاص - الدارفوريون على امتداد الوطن والاقليم الافريقي العربي والعالم، اولى تلك الاسئلة هل بسبب توقيع طرفين في النزاع، تتكرر تجربة اتفاق ابوجا مجددا..؟ وهل القتال بين الاطراف الاخرى بما فيها الحكومة ستكون ضمن خيارات مستقبل قريب؟ ثم ما هي ضمانات تنفيذ بنود الاتفاق لدعم جهود المواطن العادي في تحقيق السلام؟ لإعادة قراءة بعض تلك الاسئلة وتقديم مداخل للاجابة عليها، ربما كان مناسبا مراجعة تاريخ العملية السلمية ذاتها، فمن لا يذكر تلك البداية المتواضعة للعملية السلمية في تشاد في خريف 2004 برعاية الرئيس التشادي ادريس دبي، وكانت اجندة الحوار بدورها متواضعة تماما، وكان القادة يتطلعون الى توفير الامن لمواطنيهم، وتأكيد حقهم، في البقاء على ارضهم، اما على الصعيد الشخصي فقد كان يتطلع كل واحد منهم ان يعود الى قريته مزارعا او معلما، لتحقيق تلك الاحلام المشروعة تطلب الامر تدخل الرئيس دبي ببعض مدخلات مالية تقل كثيرا عن خمسين الف دولار من اجل تسوية قابلة للاستدامة، ولكن عناصر في المؤتمر الوطني وربما كانت من دارفور ايضا هي من اقترحت العنف المسلح في مواجهة حملة السلاح كما كان يسمون يومئذ، ان حكومة السودان تتحمل اخلاقيا مسؤولية انتقال الاوضاع من الحوار عبر الاصدقاء في الجوار، الى نزاع داخلي مسلح اضطرت الاممالمتحدة وفق ميثاقها ان تتدخل انسانيا بهدف وقف تدهور الاوضاع الانسانية، والوصول بالاطراف الى تسوية سلمية وانهاء النزاع. لقد مضت العملية السلمية بين الاطراف بوساطة دولية تحملت افريقيا العبء الاكبر فيها، وعندما تم توقيع اتفاق السلام لدارفور في ابوجا العاصمة النيجيرية، كانت الضغوط على الاطراف من كل جانب، والعنف كان سيد الموقف في الميادين ،والقادة الشباب كانت تنقصهم الخبرة وفنيات التفاوض، لقد كانت توقعات الاطراف متباينة وربما كانت على اسس اثنية وشخصية، وهكذا برغم الجهد الذي بذلته الاطراف والوساطة الا ان ابوجا افضت الى تشتيت الرأي العام الدارفوري، وفتح منافذ وابواب لنهب حقوق الدارفوريين بوسائل اهانت كرامتهم. بعد ابوجا انتبه المجتمع الدولي خاصة وبجهود دارفورية دءوبة ان طبيعة الازمة الدارفورية تختلف، ولابد من النظر الى حلها من خلال التعامل مع النظام المركزي الموروث بآلياته التقليدية وبيروقراطيته الظلامية هو المسؤول عن تفاقهم الاوضاع ، لذا فان مدخل الحل لن يكون في المحاصصة، انما في البحث في جذور الازمة واتاحة الفرصة امام الدارفوريين للحوار، واعادة بناء الثقة ، والتفاوض مع سلطات المركز بشأن اعادة تأصيل ذاتهم وبناء مستقبلهم، لقد استطاعت جهات عدة لتوفير فرص الحوار بين الدارفوريين داخل وخارج السودان ولعل اميز تلك الفرص، الفرصة التي اتاحها معهد ماكس بلانك «ألمانيا» بشراكة مميزة مع المجتمع المدني الدارفوري وجامعة الخرطوم، من ناحيتهم استطاع مفاوضو الدوحة الى وثيقة الدوحة بدعم من اهل الشأن والتي اصبحت ملكيتها الفكرية لكل الدارفوريين بلا استثناء واصبح من حقهم الافادة من نصوصها في تطوير تجربتهم الانسانية والوطنية. ان الوثيقة اليوم معتمدة في الاتحاد الافريقي والجامعة العربية، منظمة التعاون الاسلامي ومجلس الامن للامم المتحدة ، وبذلك اضحت رؤية الحل لأزمة دارفور واضحة وبمرجعية اقليمية ودولية وللدارفوريين ان يعملوا بالتدريب والتأهيل والمشاركة والمبادرة والتفاوض، ان يجعلوا من دارفور اقليماً مميزاً في سودان متعدد الاعراف متنوع الثقافات وان تم اعلان استقلال الجنوب. لتحقيق ذلك فإن الدارفوريين يحتاجون اليوم الى التحالفات السياسية والثقافية اكثر من حاجتهم الى القتال المسلح في ظل امكانية التحول الديمقراطي وحرية التعبير من اجل المساهمة في قيادة البلاد وتحقيق التعايش السلمي في السودان..