٭ الثورات الشعبية، التي انتظمت العالم العربي وقادت الى تغيير بعض الانظمة الراسخة في الحكم، ولا تزال تعمل على تغيير بعضها، وتحتقن بها بعض البلاد الاخرى، اثارت هذه الثورات عديداً من الاسئلة حول النظام السياسي في العالم العربي والاسلامي، وعن دور الاحزاب السياسية وعن فعاليتها بعد أن اتضح من خلال هذه الثورات سذاجة دورها وغيابها من الساحة. وتساءل الناس عن قيادات هذه الاحزاب وعن تخلف فكرها وبعدها عن نبض الشارع، بل وعن جبنها وخوفها من مواجهة النظم القائمة وهروبها عن قيادة هذه الثورات. وامتد الشك في النظام الحزبي فطالته الظنون والاتهامات بالانتهازية في محاولاتهم للقفز فوق هذه الثورات وجنى ثمارها بوراثة الانظمة. والحديث يدور حول قيادة هذه الثورات الشبابية والتي لا تنتمي لحزب معروف في الساحة السياسية، مما يطرح سؤالاً هاماً عن دور القيادات الحزبية وعن مدى فهمها وإدراكها للتحولات الحاصلة في العالم وما احدثته ثورة المعلومات والتقنيات من تغيير في المفاهيم والمواقف من حركة التاريخ. ٭ تقوم التقاليد الديمقراطية منذ بدئها في بريطانيا في القرن التاسع عشر على ممارسة الحكم على الاحزاب السياسية، واستمرت هذه التجربة في تطور مستمر حتى الربع الاول من القرن العشرين، ثم بدأ بندول حركة هذه الاحزاب السياسية في التحرك في الإتجاه المعاكس. وظهرت في بداية الربع الاخير من القرن العشرين مجموعة من الآراء حول فاعلية نظام الاحزاب، خاصة في العالم الثالث. ويعتبر هذا الرأى الاحزاب السياسية مصدراً للإبتزاز السياسي، الظاهر والخفي، والذي أوجد طبقة مترفة من محدثي الثراء، وهو جدل مثير حول نظام الاحزاب هل هو الآن في دور الإحتضار أم انه صادف أجله المحتوم فعلاً، أو اذا ماهو يمر بطور حفيض يخرج بعده من قمقمه بشكل جديد. ويرى البعض ان زوال نظام الاحزاب امر محتوم ليس حوله شك، وإنما الخلاف يدور حول ماهية الاسباب التي تؤدي لزواله ومدى تأثيرها على العلاقات السياسية وبناء الحكومات والمجتمعات. وهناك اسئلة كثيرة حول النظام الاجتماعي، وحول السلطة، والقوة، والثروة، والمسؤولية، والقيادة والنزاهة، وحول الدور المتغير للاحزاب. وقد تخضع فكرة القيادة تبعاً لذلك للمراجعة المستمرة وللتغيير الكامل. وفي العالم الاسلامي، وعلاوة على هذه الاسئلة تطرح اسئلة اخرى عديدة. فبينما يعتقد البعض ان نظام الاحزاب يناقض النظرية السياسية الاسلامية ويُجافي تعاليم الاسلام، ويظل البعض على رأيهم بإستبعاد نظام الحكم بالاحزاب كلية وذلك لأن قيادة الافراد أيسر وأسهل في غيابه، فالافراد يظهرون قدراً كبيراً من المقاومة اذا ما انتظموا في جماعات وأحزاب وتكتلات. ولقد تميزت الاحزاب السياسية في كافة أنحاء العالم الإسلامي بتدني الوعي السياسي، خاصة في فترة ما بعد الاستقلال، حيث تحطمت الصورة الزاهية التي رسمتها المخيلة الشعبية للاستقلال، وتحطمت معها الآمال العريضة والتوقعات الكثيرة لحكم وطني يعطي الوطن مجده وازدهاره والمواطن عزه وحريته. ٭ إن فكرة الاحزاب السياسية تكون على أنها مطايا القيادة ومصدر القوة للحكم. إنها المؤسسات المعتمدة التي تأتي السلطة السياسية من خلالها وتحل الخلافات سلمياً عن طريقها، ويتغير الواقع بكامله بها، وهى فوق ذلك وسيلة ناجعة للوقوف في مواجهة كل اشكال الطغيان والإستبداد انها نقطة التجمع التي تتلاقى فيها كثير من التوجهات السياسية، كانت على هيئة أفكار او آراء أو منابر او قوى، كما تعتبر اداة فعالة للعمل الجماعي، فقد لا يقتصر دورها على مساندة المرشحين الذين يتمتعون بتأييد شعبي كبير ودعم برامجهم، أو إستبعاد المرشحين الذين لا يحصلون على إجماع أو غالبية شعبية وتسقط برامجهم عند الاختبار الشعبي، بل منوط بها ان تقوم وفق نظمها الداخلية بإختيار المرشحين وتقديم برامجهم الانتخابية. وعليها بعد الانتخابات ان تساند الحكومة او تسعى لازالة نقاط الخلاف إستعداداً للجولة التالية من الانتخابات. ونتيجة للممارسة الخاطئة لهذه الفكرة، يعتقد كثير من المحللين السياسيين بمسؤولية الاحزاب السياسية عما حدث لاستقلال الاوطان من تشويه. والاحزاب السياسية تظهر في هيئات مختلفة وفي اشكال عديدة بل قد يمر الحزب الواحد بتحولات كثيرة داخل البلد الواحد عبر فترة زمنية قصيرة. واذا دل تاريخ الحزب وممارساته على وجود المؤسسية وعلى خضوع الفرد لسلطتها، فقد اصبح مألوفاً في كثير من الاحيان ان يصير الحزب أداة في يد زعيم جماهيري او قائد قوي أو ذي سلطان ديني أو طائفي، وبذلك تحولت بعض الاحزاب السياسية الى وسيلة للمنفعة وللإستبداد والتكريس القبلي أو الاسري، أو صارت سلطة يتنفذ بها مجموعات الضغط وتكوينات المصالح. إن الحزب السياسي، شأنه شأن أية جماعة إنسانية ينزع الى التكوين الهرمي فيصبح حكم الاقلية فيه امراً حتمياً وذلك حينما يأخذ البعض زمام القيادة وتقتنع البقية بالتبعية. وحين تتفشى في جسده البيروقراطية، ويفترض ان يكون الحزب اتحادا حراً وتجمعاً اختيارياً نابعاً من التزام مشترك بين جميع اعضائه بمثل عُليا تصحبها رؤية واضحة ورسالة بائنة وأهداف متحققه لما يريد الحزب ان يعمله لتقدم الوطن. ولكن الحزب حين يستهدف تحقيق كل ذلك وفق برنامج سياسي معلن فانه غالباً لا يلتزم بهذه الرؤية والرسالة أو تلك الاهداف، فيترك الخطوط العامة لبرامجه بدون تحديد، ويرفع شعارات هو اول من يخالفها في التطبيق. ولقد مر زمن كانت فيه الاحزاب تتكون وتتحد طبقاً لمنشأ قياداتها، فقامت احزاب للطبقة الارستقراطية (الاحزاب المحافظة)، كما قامت الطبقة العاملة هى الاخرى بإنشاء احزابها (حزب العمل) ففي امريكا واوربا مثلاً ينتمي افراد الطبقة الارستقراطية والمليونيرات الى الحزب الجمهوري، بينما ينتمي افراد الطبقات العاملة الى الحزب الديمقراطي، ولكن هذا التقسيم لم يكن مثالياً، فلم تكن تاتشر اكثر ارستقراطية من ريغان، كما لم يكن كنيدي من الطبقة العاملة اكثر من روكفلر. وقد كان للتطور والازدهار الاقتصادي الذي ساد العالم سبب مباشر في جعل الناس يغيرون من آرائهم ومن إنتماءاتهم الحزبية ويبدلونها تبعاً للمنفعة الاقتصادية او القوة السياسية والخطوة الاجتماعية التي يحققها الإنتماء لحزب ما دون الآخر. ولما كانت هذه التغيرات تحدث فجائية من بعض المنتمين لهذه الاحزاب، فانها لم تترك لهم فرصة ليعيدوا فيها توازنهم، ولذلك اصبحت السلطة بمفهومها المتعارف عليه من تخصيص الامر ووجوب الطاعة على الآخرين قد اهتزت كثيراً. إن من متطلبات قيام ديمقراطية قابلة للتطبيق في اي بلد هو وجود اتفاق عام ورؤية واضحة للاولويات القومية، ويتحتم من ذلك وجود اتفاقات وعهود ومواثيق لقطاعات واسعة تتفوق على ما يظهر من خلافات. ولنا ان نتساءل دائماً عن موقف القيادات الحزبية من هذه العهود والمواثيق؟ ان غالبية القادة يحسون بالرضا التام اذا ما تم لهم البقاء في مواقعهم، ويستهلكون كل ذكائهم ومقدراتهم في تعلم فنون البقاء في مواقعهم، ويكمن السبب وراء ذلك في ان مهمة القيادة في هذا الزمن اصبحت اكثر صعوبة على هؤلاء الذين يدعونها ولا يملكون متطلباتها. ويحفل التاريخ الحديث بالقيادات التي اعتمدت على إفتتان الجماهير بها والتي تخطى فيها القائد التسلسل الهرمي داخل الحزب وحطم نطاقه وتلقى الولاء من الجماهير مباشرة. وفي الجانب الآخر يتجاهل افراد الشعب- من أجل هؤلاء القادة- كل الروابط التي يمكن ان تجمعهم بهم سواء كانت روابط دينية او دنيوية او حزبية او حتى روابط الجيرة والجماعة. ولكننا نجد ان القائد الذي امتد به عمره ليحتل منصب القيادة في فترة ما بعد الاستقلال يعاني من تضاؤل الافتتان به بمرور الزمن، وفي دول العالم الثالث لم تكن انجازات كثير من هؤلاء القادة على قدر ما اعطوه من وعود لشعوبهم، فنجد كم من قائد تم ابعاده بذات الشعب وبنفس الحماس الذي رفعوه به. والحقيقة ان الاحزاب السياسية وتحت قيادة الزعامة الجماهيرية لا تحقق مكانة او كياناً، بل تبدأ في الإنهيار والزوال بمجرد اختفاء القائد من الساحة فالجماعة لم تبرز للوجود او تُنشئ ذلك الكيان إعتماداً على اساس من الاتفاق على مباديء معينة بين افرادها، وإنما اعتمادا على دفعة حياتية تستند على الاتفاق على القدرة المطلقة والملهمة للقائد الزعيم، الذي تقوم العلاقة معه على التصديق له بلا رد، والابوة منه بلا نقد، ولذا تنهار الجماعة عند إقصائه او موته. ونادراً ما يشجع الزعماء الجماهيرون النمو الثقافي عند اتباعهم وذلك حتى يلجأ اليهم هؤلاء الاتباع في كل شيء. لقد تحول النظام الحزبي داخل الانظمة الغربية الى مجموعات ضغط كما تحول في العالم الثالث الى مجموعات مصالح. وحيثما كان للنظام الحزبي مقام كان في حاجة لزعيم ذي إرادة حديدية وفطنة سياسية متقدمة حتى يستطيع ان يؤلف بين مجموعات الحزب. كما ان الصف الثاني من القيادة الذي يلي الزعيم الجماهيري دائماً ما يكون عادياً في مستواه الثقافي والسياسي وعلى نفس الدرجة من الضعف في التزامه الحزبي. والناظر في قيادات الاحزاب يجدها في المستوى العادي من الرؤية الواضحة للاحداث او في مجال الثقة بالنفس في مواجهة الظروف المعقدة أو في مجال التماسك الخلقي، ولم تثبت لها جدارة تفوق افراد الحزب العاديين. وفي العالم الثالث تأتي نهاية حكم الاحزاب وقد فقدت شعبيتها، إما لأن اداء الحزب في السلطة لم يرتفع لمستوى ما وعد به، او الى مستوى الآمال التي كانت معلقة عليه. وقد تكون كذلك نتيجة لاخطاء خطيرة وقعت أثناء حكمه، كما ان أحزاب المعارضة تفشل تماماً في تقديم بديل قابل للتطبيق لما تنتهجه الحكومة من سياسات، ويكون مرد ذلك الى استغراق الحزب في حالة من العطالة الفكرية والمنهجية وقد تكون قد عصفت به الخلافات الداخلية التي تعتري الجماعات الواهنة. إن الحالة الراهنة للنظام الحزبي تتطلب إعادة الاجابة على السؤال المحوري، ماذا نتوقع من الحزب السياسي؟ ونرد بأن يمدنا بالقيادة وان يُهيئ لنا الافكار والرؤى والوسائل لحل مشكلات المجتمع وأن يحقق الاعتمادات المالية اللازمة لعمله المتطور. وهذا التساؤل والاجبة عليه يبرز لنا سبب عجز النظام الحزبي عن الارتفاع لمستوى التوقعات وعن سبب عجز القيادات الحزبية المتواضعة التي يدفع بها هذا النظام الى السلطة، وعدم قدرتها على التحكم في الجهاز الحزبي، مع إفتقار الاحزاب للافكار الناجعة والوسائل الفاعلة. كما أن الاحزاب تمتنع عن تمويل البحوث العلمية المتعمقة والمستقلة التي تبحث في جذور المشكلات وحلولها، واذا تيسر هذا التمويل فإنه غالباً يستهدف خدمة اولويات مصادر التمويل. بتقدم العلم ظهر عامل جديد ادى اى تغيير الطبيعة المعقدة لمشكلات الاحزاب السياسية، كما قاد الى إبطال الوسائل القديمة لحل هذه المشاكل، وهو تفجر المعرفة والاساليب التقنية الجديدة. ففي كل مجال من مجالات الانشطة البشرية نجد المعرفة الجديدة والاساليب التقنية الحديثة قد ابطلت مفعول الخبرة الانسانية المتراكمة لآلاف السنين فاصبحت وما صاحبها من فكر امراً غير ذي بال، وما صحبها من اساليب تقنية قديمة عديمة النفع والاثر. ولقد انقضى الزمان الذي كان فيه النضج وكبر السن يعتبران من المؤهلات الرئيسة للإضطلاع بمهمة القيادة فاصبح كبر السن الآن دليلاً على تدهور القدرة على مسايرة الحديث من الامور، هذه الامور التي زادت في معدلاتها حتى ان كبر السن وما يصاحبه من اتجاهات محافظة يندرج في فئة المعوقات. إن الاحزاب السياسية قد اصبحت غير قادرة على تقديم قيادات جديدة تعتمد على الافضلية الخلقية والكفاءة التقنية التي تمكنها من استخدام ادوات السلطة بطريقة حكيمة وفعالة، ومن إعادة تنظيم المجتمع على اساس القيم الايجابية. ان الاحزاب في حاجة الى تنظيم نفسها في اطار جديد، ولن يتأتى لها ذلك دون رؤية جديدة ورسالة متطورة، كما تحتاج لتجديد دمائها بأنماط جديدة من البشر تكون على دراية بأساليب العصر وعلومه المتطورة، وان يكون لها إلتزام خُلقي. لقد ابرزت لنا الاحزاب السياسية ساسة محترفين، ومهما كانت انجازات هؤلاء الساسة، فإن أي سياسي محترف ينقصه قدر كبير من خبرة المشاركة كعنصر منتج في حياة المجتمع الادارية والاقتصادية وحينما يفوز هذا السياسي المحترف في لانتخابات، ويمارس سلطاته في الحكم، تظهر سذاجته الكاملة في فن الادارة والقدرة على تسيير الموارد الاقتصادية، وبسذاجته هذه يقع فريسة سهلة وضحية للبروقراطية. إن أهم متطلبات القيادة هى القدرة على التعامل مع البيروقراطية والتحكم فيها وترشيدها، والسياسي المحترف لا يدانيه أحد في عجزه في هذا المجال. إن النظام السياسي الذي تغيب فيه الاحزاب يستحيل فيه تجميع الافكار الفردية في برامج سياسية او اجتماعية قابلة للتطبيق، كما ان المحاورات السياسية في غياب النظام الحزبي تفقد أهميتها، وتختفي بذلك مجموعة الخيارات الحقيقية عن نظر الامة ويختفي معها الامل في معرفتها. وبالمقابل فإن النظام الحزبي غير المنظم يؤدي الى مساويء خطيرة وكوارث تهدد الامة، فقد يتحول الى شقاق حزبي يُفسد المجتمع. إن المجتمع الانساني يعمل من خلال قوى السلطة الكامنة في بنائه، فإذا ما كانت تلك القوى تعمل من خلال قنوات مقبولة أو إقرارها، فإن هذه السلطة تصبح سلطة شرعية. وتتضاءل هذه السلطة داخل المجتمع اذا ما تعطلت هذه القنوات او فقدت قوتها وتأثيرها، فتصبح ممارسة السلطة موجهة ضد الافراد ومن ثم تتحطم المؤسسات السياسية والاجتماعية بالقرارات الفوقية، وتتحرر السلطة الحاكمة من قيود الاخلاق والقانون وتصير بهذا التحرر على قمة درجات القهر والإستبداد.