النصيحة الذهبية التى تطوع بها الحكيم نلسون مانديلا وهو يحيى ثورات الربيع العربى فى ذكرى مولده الثالث والتسعين والذى يحتفل به العالم كله .. هذه النصيحة التى تنم عن الفطنة وتدعو الشعوب الى عدم الشطط والى التسامح والتطلع نحو المستقبل بروح الحرص على الديمقراطية والعدالة الاجتماعية جعلتنى أعود الى ما سبق وأن كتبته عن الرواية الانجليزية الشهيرة ( قصة مدينتين ) التى كتبها شارلز ديكنز فى 1859، والتى وقعت أحداثها بين لندن وباريس قبل وأثناء الثورة الفرنسية ، إذ كانت تصور الحالة السيئة للفلاحين والفقراء الفرنسيين وهم تحت القمع من قبل الطبقة الارستوقراطية ، ثم تنتقل بنا بعد نجاح الثورة الى الاعمال الوحشية التى قام بها الثوار تجاه بعض الارستوقراطيين فى إنفلات ثورى لم يعبأ بأدنى معايير العدالة . ولعل أبرز المشاهد العالقة بالذهن فى تلك الرواية هو مشهد مدام ديفارج تلك المرأة العابسة والفقيرة المنكوبة ، بشفتيها المزمومتين فى صرامة ، والتى ظلت قبل الثورة تمسك كل يوم بسنارتيها وكرات الصوف لتحيكه وتحيك معه كمية من الاحقاد وهى تثبّت فى عقلها مع كل غرزة إسم أحد أعداء الثورة الذين يتوجب إستئصال رؤوسهم فى مقصلة الجيلوتين بعد قيام الثورة ونجاحها . هذه السيدة العابسة الصارمة التى تحيك الاحقاد نخشى أن نكون قد خبرناها فى السودان عقب ثورة اكتوبر 64 ونخشى أكثر أن نراها فى المشهد المصرى الماثل امام أعيننا فى هذه الايام . عقب ثورة اكتوبر راجت شعارات ( التطهير مطلب شعبى ) و ( التطهير واجب وطنى ) وراحت تعلو وسط أجواء المظاهرات مع أعواد النيم فوق سواعد المتظاهرين ، وربما يجوز لنا أن نسمى تلك الثورة المجيدة ب ( ثورة النيم ) على غرار ثورة الياسمين والثورة المخملية والثورة البرتقالية ... لا نقول هذا إنتقاصاً من قدر ثورتنا بل إجلالاً لها بحسبان ما أصابها من ظلم وتعتيم فى زمن إفتقر للفضائيات ووسائط الاعلام العالمى الحديث . راحت قوى اليسار ، والذى كان يومها أشبه بالموضة فى ذلك الزمن الستينى المتخم بالثورات ، تحقن الشارع بشعار التطهير حتى استحال واقعاً عصف بأفضل ما لدينا من كفاءات مهنية وادارية فشُرد من شُرد وهاجر من هاجر الى شطئان النفط العربية ليسهموا فى بناء نهضتها وهم يشكون بلاداً جارت وأهلاً ضنوا . اليوم مصر تقف على أعتاب ذات المشهد ونخشى عليها من هذا الإنفلات الثورى الطائش ، فكل عامل هناك يطالب بإقالة مديره وكل موظف يسعى لتصفية حساباته مع رئيسه وكل طالب يتربص بأستاذه الجامعى وعميد كليته وكل جندى بضابطه الاعلى .. هذا الإنفلات بات يهدد مناخ الأمن والامان الذى ظل عنواناً جاذباً لمصر وضامناً اساسياً لمورد السياحة بكل مايمثله من إسهام كبير فى الاقتصاد المصرى . عقب ثورة اكتوبر فى السودان إنفجرت التظاهرات المطلبية فى كل قطاعات الدولة ، رغم أن أحوال الناس المعيشية كانت أفضل وأيسر عما هو الحال الآن... رغماً عن هذا تظاهر الاطباء والمهندسون والعمال والممرضون وسائقو القطارات وفريزو الاقطان والقضاة وكماسرة البصات الحكومية وعمال الوابورات وعمال الشحن والتفريغ بالميناء والاطباء البيطريون والزراعيون ومذيعو الاذاعة وحتى تذكرجية دار الرياضة ... لم يتخلف أحد ، الكل تظاهر وأضرب وهو يطالب بقضمة من كيكة الثورة التى حسبوها جاءت تتوكأ على عصا موسى ، للدرجة التى حدت بأحد الساخرين أن يذكر بأنه لم يتخلف عن الاضراب سوى ( كار ) البغاء العلنى الذى كان يرفع بيارقه فى وضح النهار فى تلك الايام !... حتى رجال الشرطة فى السودان عقب ثورة اكتوبر ركبوا الموجة فتظاهروا وقاموا بإضراب فى هوجة التظاهرات المطلبية وهذا ما فعلته بعض عناصر الشرطة المصرية عقب الثورة . من المؤكد أن أى تغير فى الانظمة السياسية عقب الثورات والهبات الشعبية ينبغى أن يواكبه تغيير فى القوى التى تشكل أعمدة النظام الجديد بحيث يتوارى كل السياسيين وكل التنفيذيين وكل المنظرين والمفكرين الذين قننوا لممارسات البطش والتنكيل وتغييب الشعب واستغفاله ، لكن أن تُفتح الابواب على مصاريعها لتطيح بكل الكفاءات والخبرات الوطنية النزيهة فذاك أمر ينبغى التحسب له وعدم المضى فيه على إيقاع متشنج .