كان يمكن لزيارة الشيخ الدكتور حسن الترابي لمصر أن تكون عادية بل روتينية وطبيعية، وذلك لما يربط بين السودان ومصر من روابط تاريخية، ولما اعتاد عليه القادة والزعماء السياسيون في السودان من تردد على المحروسة والإقامة بها ما شاء الله أن يقيموا. ولكن الدكتور الترابي تم حظره من دخول مصر بقرار من المخابرات المصرية في عهد الرئيس حسني مبارك، وامتد هذا الحظر لثلاثة وعشرين عاما لما قبل حادثة محاولة اغتيال الرئيس المصري المخلوع في أديس أبابا. ولعل النظام المصري لم تكن تعنيه الحادثة في حد ذاتها بعد نجاة رئيسه من القتل، بقدر اهتمامه بتوظيف الحادثة للضغط على نظام الحكم في السودان وجعله يدفع أعلى الفواتير، وهي وحدة الحركة الإسلامية، وتغييب الدكتور الترابي عن المشهد لكونه العقل المدبر للنظام الحاكم. وكانت الولاياتالمتحدةالأمريكية قد قررت تصفية حكومة الإنقاذ الوطني عن طريق دول الجوار بما في ذلك مصر، وبعد خروج الدكتور الترابي من السلطة اكتفت الولاياتالمتحدة في عهد الرئيس الأمريكي بوش الابن وبداية عهد اوباما بترويض النظام والتعامل معه لأجل الوصول للهدف الأكبر للغرب في السودان، وهو فصل الجنوب عن الشمال الذي حدث بالفعل. وكان نظام الرئيس مبارك يريد أن يحرم الشيخ الترابي من دخول مصر مدى الحياة، ولكن الثورة المصرية في يناير من العام الجاري فتحت مصر لكل الأحرار وعلى رأسهم الشيخ الدكتور حسن الترابي الذي دخل مصر كما دخلها نبي الله موسى الذي قال له ربه هو وقومه ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين. ومن المؤكد أن إحساس الشيخ الترابي وهو يدخل مصر هو إحساس كل موطن سوداني يزور مصر يشعر بأنه في وطنه وبين أهله، ولا يجد حرجاً أو غرابة في تناول الشأن المصري باريحية وحرص على مصر وشعب مصر، كما أن إحساسك بأهمية مصر للعالم العربي وللسودان يزداد وأنت في مصر أكثر من كونك خارج مصر، وأهمية العلاقة بين مصر والسودان لا يختلف عليها اثنان مهما كانت هوة الخلاف بينهما عميقة وكبيرة، وهذا ما يلمسه كل إنسان تابع زيارة الأمين العام للمؤتمر الشعبي لمصر وتصريحاته حول إحساسه بأنه في بلده، وهو إحساس لا يجده في أي مكان زاره غير مصر. وكان استهلال الزيارة برئاسة الأزهر الشريف عين الصواب من كافة النواحي العلمية والدينية، فالأزهر الشريف هو الرابط القوي بين المسلمين من طنجا إلى جاكراتا، ومن بلاد فارس حتى تخوم إفريقيا. وظل الأزهر الشريف لمئات السنين هو المؤسسة التي يجتمع فيها أبناء السودان في ما عرف برواق السنارية ورواق دارفور ورواق كردفان، وللأسف فإن هذه الأسماء لا توجد في الجامع الزهر، بينما يوجد رواق المغرب مثلا. وقد أشاد فضيلة شيخ الأزهر بما تقدم به الشيخ الترابي من رؤية حول الدور الذي يجب أن يطلع به الأزهر الشريف تجاه الإسلام واللغة العربية في جنوب السودان، بعد أن صار الانفصال أمرا واقعا في الجنوب، وسيقوم الأزهر بفتح فروع للجامعة في جنوب السودان للمحافظة على اللغة العربية، وهو أمر مرحب به من قبل حكومة جمهورية جنوب السودان، وهذا من بين أهم القضايا الاستراتيجية التي ينظر إليها الشيخ الترابي، وهو يتعامل مع واقع فصل الجنوب والعلاقة بين مصر والسودان «في شماله وجنوبه» التي يجب أن تتصل ولا تنفصل وتقوى ولا تضعف، ومصر في عهد الثورة والحرية والديمقراطية. ومازالت الزيارة متواصلة، ولكن القدر الذي تم تنفيذه ليس بالقليل، من تواصل مع مرشحي رئاسة الجمهورية المرتقبين وزيارة ميدان التحرير الذي يمثل رمزية الثورة المصرية ويجعل الشيخ الترابي في مصاف الثوار لكونه مفجر ثورة أكتوبر المجيدة في السودان في عام 1964م، وهو شاب في بداية حياته العملية ونيله درجة الدكتوراة في القانون من الجامعات الأوربية، وهو فاعل أساسي في ثورة رجب أبريل التي أطاحت نظام الرئيس نميري الذي كان أي نميري الحليف القوي لنظام حسني مبارك في مصر. ويأتي اجتماع الدكتور الترابي بشباب ثورة يناير في ميدان التحرير وما قدمه من نصائح على طريق المحافظة على الحرية والديمقراطية والمكاسب التي تحققت لشعب مصر بعد الثورة، كما اقترح على الشباب ترتيب أوضاعهم وإنشاء نظام انتقالي حسب ما جاء في صحيفة «الأحداث» الصادرة الأحد 24 يوليو الجاري وقال: إن الانتقال من القديم إلى الجديد من أهم التحديات التي تواجه ثورتي مصر وتونس، لكون القديم ترسخ في البلدين لفترات طويلة. وحث الشباب على العمل لضمان وحدة الشعب، والتعامل مع التباين دون عنف. وهذه نصائح مهمة من رجل خبر الحياة السياسية وعايش في السودان أوضاعاً سياسية مختلفة من تحالفات إلى حكومات ائتلافية إلى نظم عسكرية وديمقراطية، كما دخل السجون لعدة سنوات، وقاد الحركة الإسلامية السودانية في ظروف مختلفة من معارضة إلى مشاركة في السلطة، واستلام للسلطة في يونيو 1989م، وثورة الإنقاذ الوطني، وخروج للمعارضة بعد عدة سنوات، ولا ادري من من القوى السياسية والأحزاب في مصر أحق بنصح الشيخ الترابي، هل هي جماعة الإخوان المسلمين التي سبق لي وتساءلت عن إمكانية استفادتها من تجربة الترابي في السودان، وقلت هل تحل الجماعة نفسها بعد الثورة وتنفتح على المجتمع كما فعل الشيخ الترابي الذي حول الحركة الإسلامية السودانية من حركة صفوية إلى حركة جماهيرية؟ وماذا يمكن لحركة الإخوان المسلمين في مصر أن تفعل بالحزب الذي أنشأته وأطلقت عليه اسم حزب التحرير والعدالة، بينما ظلت الجماعة ومكتب إرشادها من دون تعديل أو تغيير، وربما كان هذا ما أراده منتقدو حل الحركة الإسلامية في السودان، ومن يتهمون الشيخ الترابي بأنه هو من قام بذلك، والآن تبقى حركة الإخوان في مصر لأن الدنيا ما معروفة، ولكن الثقة في الديمقراطية وفي الأوضاع السياسية في مصر مهمة، وليس هناك أسوأ من الدكتاتورية ونظام مبارك الذي ظل يطلق على حركة الإخوان في مصر اسم المحظورة. وإذا تجاوزت نصائح الشيخ الترابي حركة الإخوان المسلمين إلى الشعب المصري قاطبة فإن ذلك في مصلحة الإخوان، لكونهم أكبر كتلة سياسية في مصر والقوة المؤثرة على الحياة، وهي في حاجة للتلاحم بين ابناء الشعب المصري. أما مرشحو الرئاسة في مصر فأنا من مؤيدي للدكتور البرادعي، وكنت أتمنى من جماعة الإخوان دعم الدكتور محمد الربادعي في انتخابات الرئاسة في مصر، وأظنها ستفعل ذلك، وقد وصفه الشيخ الترابي بعد لقائه به بأنه واسع الأفق، وهذا الوصف في حق الرجل صحيح، والبرادعي يعود له الفضل في تحريك الشارع المصري والدعوة للتغيير. ولم يجد خصوم الدكتور محمد البرادعي غير وصفه بأنه بعيد عن الشعب المصري وليس له إلمام بما يحدث في مصر، وهذا ما روج له إعلام النظام المصري السابق كثيراً، وهو قول غير صحيح من الناحية السياسية،والدليل علي ذلك رهان الدكتور البرادعي على التغيير في مصر وقد كان، كما ابتكر البرادعي أسلوب الحوار مع الجماعات والقوى السياسية المصرية بما فيها جماعة الإخوان الذين أقرَّ البراعي بحقهم في العمل السياسي في مصر قبل قيام ثورة مصر بسنوات، والبعض يتهم البرادعي بتدمير العراق، وآخرون يتهمونه بالعمالة للولايات المتحدةالأمريكية نسبة لإدارته وكالة الطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة، وهذا كله غير مهم، ولكن المهم ان يوظف البرادعي قدراته وعلاقاته الخارجية لمصلحة مصر وللثورة في مصر، كما أن الشيخ الترابي قد أعجب برؤية الدكتور محمد البرادعي لمستقبل العلاقة بين مصر والسودان، وهو ما لم يفصح عنه في حديثه عن البرادعي الذي نرجو أن يكون تناول في حديثه للشيخ الترابي وحدة شعوب وادي النيل وزيادة التعاون الاقتصادي بين شعبي البلدين. ومن المؤكد أن اللقاءات والحوارات التي تنشط في مصر من جانب الشيخ الترابي سوف تشمل ابناء مصر من الأقباط. ومعلوم أن أقباط السودان لهم صلات طيبة مع الدكتور حسن الترابي الذي يرى حقهم في ممارسة شعائرهم بالسودان من غير حدود، والقرب منهم والتعايش بينهم وبين المسلمين وغير المسلمين في السودان، وهذا الوضع أشبه بوضع مصر اليوم التي في حاجة ماسة للحوار والتقارب بين الأقباط والمسلمين، والعيش معاً في ظل الحرية والديمقراطية، وهذا التوازن لا يصنعه إلا ساسة وقادة مدركون لكافة التحديات، ومؤمنون بأسلوب الحوار والتعايش بين الأديان والطوائف. ولا يقدح في زيارة الشيخ الترابي لمصر أنه لم يلتق بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة الحاكم في مصر أو مجلس الوزراء، وقد فتح له المجلسان المجال بإلغاء الحظر المفروض عليه بدخول مصر كما كان في السابق، وجعل المجلسان الرجل يتعاطى مع مستقبل مصر أكثر من حاضرها، والفترة الانتقالية في نهاياتها، والانتخابات البرلمانية والرئاسية على الأبواب، ولا ينقص من الزيارة إذا لم تتحق رغبة جماعة الإخوان المسلمين في مصر في عقد لقاء بين الشيخ الترابي والأستاذ علي عثمان محمد طه نائب رئيس الجمهورية الذي يزور القاهرة بدوره، في سبيل إنهاء الخلاف بين المؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي. وهذه الرغبة يمكن تأجيلها لوقت لاحق وأخذ رؤية المؤتمر الشعبي بألا يكون الحوار ثنائياً، ويتم الجمع بين كافة الفرقاء في السودان في حوار ووفاق يضمن سلامة الوطن في مقبل الأيام، ويرتب لمرحلة ما بعد فصل جنوب السودان، ويستوعب دارفور على أساس أكبر من الدوحة، ويوقف القتال في جنوب كردفان، ويطمن النيل الأزرق إلى مستقبلها، وهذا من بركات زيارة الشيخ الترابي لمصر الذي أعلن عن عزمه تفجير طاقات مصر والشعب المصري تجاه السودان.