باغتت ثورة 25 يناير - ثورة الشباب المصرية- كل الدنيا بما فيها المنظومة الاستخباراتية الغربية الضخمة التي تكاد تحتل مصر. وسبب المباغتة المصرية ليس سقوط العملاء الطواغيت، ولا توقيت ذلك السقوط، ولكن الكيفية التي سقط بها نظام العمالة والدكتاتورية، وخروج الجماهير ملايين هادرة، كما خرجت في نهايات القرن السابق في إيران معلنة سقوط نظام الشّاهنشاه محمّد رضا فهلوي العميل. قال الرئيس باراك أوباما، وهو يتأمل الثورة المصرية على البث المباشر؛ قال: هنالك لحظات نادرة في حياتنا نتمكن فيها من مشاهدة التاريخ في أثناء صياغته، وهذه إحدى اللحظات، فالناس في مصر تحدثوا وصوتهم سمع، ومصر لن تكون أبداً كما كانت.. يجب أن نربي أبناءنا ليصبحوا كشباب مصر. وقال ديفيد كاميرون رئيس وزراء بريطانيا: يجب أن نُدَرِّس أبناءنا الثورة المصرية في المدارس. قال برلسكوني رئيس وزراء إيطاليا: لا جديد في مصر، فقد صنع المصريون التاريخ كالعادة. وقال ستولتنبرج رئيس وزراء النرويج: اليوم كُنّا مصريون. وقال هاينز فيشر رئيس النمسا: شعب مصر أعظم شعوب الأرض ويستحق جائزة نوبل للسلام. قالت صحيفة الغارديان البريطانية: الثورة أعادت الشعب المصري في الصميم الأخلاقي لهذا العالم. وقالت محطة (C.N.N) الإخبارية: لأول مرة نرى شعباً يقوم بثورة ثم ينظف الشوارع بعدها. وقال رئيس أركان جيش العدو الإسرائيلي: الأحداث في مصر تثبت أنّه يجب علينا التّواضع والحذر في تقديراتنا للعالم العربي. والسُّؤال، هل هذه الأقوال المعجبة بالثورة المصرية سببها موقف أخلاقي حقيقي أم الغلبة المباغتة؟ على كل، الإجابة الواضحة والرّؤية غير المتواربة هي ما قاله رئيس أركان الجيش الإسرائيلي. إنَّ الغرب الأمبريالي يدهشه ويفاجئه الفعل المصري، لأن مصر حسني مبارك، وفي تخطيطهم، تكاد تكون تحت قبضتهم عبر مؤسساتهم وعملائهم، وفوقيتهم الموروثة. إنّ تنصيب أمريكا وإسرائيل لمصر كامب ديفيد وكيلة عن جميع العرب في مفاوضات السلم لم يجد شيئاً، ومحاولة أمريكا إحداث صدمة حضارية في مصر فشلت كما فشلت من قبل المحاولات مع إيران الشاه. إنَّ الإمبرياليين الجدد ممثلين في الأمريكان والإسرائيليين كانوا متغلغلين في حشايا المجتمع المصري، بجيوش من المخابرات وعملاء المخابرات لا يعرف عددهم إلاَّ الله سبحانه وتعالى، هم يعرفون المصريين والعرب، ويعرفون رأي المصريين والعرب فيهم. ففي عام 1958م أعدَّ مجلس الأمن القومي الأمريكي تقريراً بسبب السؤال الذي أثاره الرئيس ايزنهاور مع أركان إدارته يقول: لماذا هناك حملة من الكراهية ضدنا في العالم العربي، وهي كراهية ليست من الحكومات بل من الشعوب. فكانت إجابة مجلس الأمن القومي: لأنه يوجد فهم لدى العرب أن الولاياتالمتحدة تساند الأنظمة الوحشية والقمعية، وهي تعيق الديمقراطية والتنمية، ونحن نقوم بذلك لأننا نريد أن نسيطر على النفط ومصادر نفطهم. وذهب المجلس إلى القول، نعم فهم العرب دقيق، وسنواصل من جانبنا سياستنا هذه. وفي عام 2004م فعل المجلس التنفيذي لهيئة العلوم التابع لوزارة الدفاع، المؤلف من كبار القادة العسكريين ورموز من النخبة المثقفة، نفس الأمر عندما أصدر تقريراً أعلن فيه: أن مشاعر الامتعاض في العالم الإسلامي تعزى بالدرجة الأساس إلى دعم الولاياتالمتحدة لإسرائيل ودعم الولاياتالمتحدة للدكتاتورية العربية، وليس بسبب كراهية داخلية أو كراهية للقيم الغربية نفسها. إنّ الوثائق الأمريكية التي فضحها موقع ويكيليكس، في الشَّبكة العنكبوتية تثبت حقيقة وصحة ما يعرفه العالم العربي عن التَّعاون بين الإمبرياليين الطُّغاة الذين يحاولون السَّيطرة على العالم العربي- الإسلامي، وفي لقاء مساعد وزير الدفاع الأمريكي لشؤون الأمن الدولي السفير ألسكندر فيرشبو بعدد من كبار المسئولين الإسرائيليين في وزارة الدفاع الإسرائيلية (1- 2/11/2009م) أعرب المسئولون الإسرائيليون عن تقديرهم للمساعي التي تبذلها الولاياتالمتحدة على جبهة (التفوق النوعي العسكري لإسرائيل في المنطقة)، وجاهروا بتفاؤلهم حيال الخطوات اللاحقة. من جهته، أقر رئيس المكتب السياسي والعسكري في وزارة الدفاع الإسرائيلي (عاموس جلعاد) أنّ الولاياتالمتحدة تجد نفسها في موقف حرج في بعض الأحيان بسبب مصالحها العالمية وتركيز إسرائيل على مسألة الأمن الذي بات اليوم محصوراً، فكثيراً ما يتضارب اهتمامها بالتّفوق النّوعي العسكري مع مصالح أمنية أمريكية أشمل في المنطقة. وصرح عاموس جلعاد عن رغبته برؤية سلامٍ تامٍ مع مصر، مشيراً إلى وجود بعض الشوائب في العلاقة العسكرية بين مصر وإسرائيل. إنّ اللقاءات الأمريكية- الإسرائيلية دائماً وأبداً يتخللَّها موضوع (التفوق النوعي)، ففي الاجتماع الأربعون لمناقشة الوضع الإقليمي في الشرق الأدنى، وكان أهم ا لمشاركين فيه من الأمريكان أندرو شابيرو مساعد وزيرة الخارجية- مكتب الشؤون السياسية والعسكرية، ومن وزارة الدفاع الإسرائيلية نفر من المختصين أهمهم اللواء احتياط بنحاس بوكريس المدير العام لوزارة الدفاع، والعميد احتياط عاموس جلعاد رئيس المكتب السياسي العسكري في الوزارة. في اللقاء اقترح العميد عاموس جلعاد (في مقابل شحنات الأسلحة الأمريكية الإقليمية: التّفوق النَّوعي العسكري، بوصفه الاسم الرّمزي للأخطار المحتملة على إسرائيل، فإسرائيل تتمتّعُ بسلامٍ مع أنظمة مصر والأردن والسعودية والإمارات العربية المتحدة، ولكن المستقبل غير مؤكد، إذ أنَّ كُلاًّ من هذه الأنظمة يواجه احتمال التَّغيُّر.. إنَّ الأسلحة الأمريكية -الأفضل في العالم- تسوِّي ساحة اللعب بالتَّقليل من الحاجة إلى التَّدريب، ويمكنها في النِّهاية أن تساعد عدوّاً مستقبلياً لإسرائيل). وفي لقائه مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية للشؤون السياسية والعسكرية (22- 23/7/2009م) قال عاموس جلعاد في تقييمه للوضع أنه: (إنّ الجيش المصري بقيادة وزير الدِّفاع طنطاوي يستمر في التَّدريب وإجراء المناورات كما لو أنَّ إسرائيل عدوّه الوحيد. إنَّ هناك علاماتٍ مثيرةٍ للقلق في الشَّوارع المصرية إذ أخذت النِّساء في ارتداء ملابس أكثر تقليدية، وإنَّ السَّلام مع إسرائيل هزيل جداً وسطحي جداً). وفي لقاء نائب وزيرة الخارجية الأمريكية (بيرنز) مع رئيس الموساد الإسرائيلي مئير داغان قال (مئير داغان) عن تركيا ومصر والأردن وسوريا ولبنان أنَّها دول غير مستقرة ومستقبلها غير واضح. أمّا بيرنز فقال إنّ الولاياتالمتحدة ستساند جميع أصدقائها في الشرق الأوسط، بمن فيهم العرب، وستحافظ على المدى الطَّويل على انخراطها في المنطقة، وقال إنَّ الشرق الأوسط في قلب المصالح الأمريكية، وستجدّد التزامها بالمساعدة الأمنية لمصر، لأنَّ هذا البلد يلعب أيضاً دوراً حيوياً في المنطقة. من جهة أخرى قام لويس ج. مورينو نائب البعثة الأمريكية في تل أبيب بإرسال برقية إلى وزارة الخارجية الأمريكية، في يوم 12/11/2009م، يقول فيها: إنَّ العلاقات التي اعتنت إسرائيل إقامتها مع جاراتها آخذة في التآكل، ويعترف حتى المتفائلون بالعلاقات مع مصر والأردن بأنَّ إسرائيل تتمتَّع بالسَّلام مع النِّظامين ولكن ليس مع شعبيهما. أضافت البرقية أن إسرائيل شأنها دائماً لدى تقويم كل التهديدات تقارب عمليات بيع الأسلحة الأمريكية المحتملة من منظور (سيناريو الحالة الأسوأ) التي يمكن فيها للدول العربية المعتدلة (مصر- السعودية- الأردن) أن تسقط ضحية تغيير في النِّظام وتستأنف الأعمال العدائية ضد إسرائيل. وفي 19/7/2011م نقلت وكالات الأنباء تأكيد المتحدث السابق باسم الإدارة الأمريكية (بي جي كراولي) أنّ الرّبيع العربي عقّد من استراتيجية إسرائيل في الشّرق الأوسط وأجبرها على التّراجع عن توجيه ضربة عسكرية لإيران، كما أنّها من المحتمل أن تظهر مزيداً من ضبط النّفس. حديث كراولي جاء عقب تصريحات روبرت بير أحد كبار الضّباط السّابقين في جهاز الاستخبارات المركزية الأمريكية لمحطة إذاعية أمريكية بأنّ هناك ترجيحات بأن توجه إسرائيل ضربة إلى إيران بحلول سبتمبر المقبل. إنَّ سياسة الولاياتالمتحدة الخارجية خلال نصف القرن الأخير تغيَّرت وتبدَّلت في كلِّ شؤونها وعلاقاتها الدّولية، الأوروبية والصين والهند وباكستان وروسيا، والذي لم يتغيّر هو علاقاتها بدولة إسرائيل وعدوانها على الآخرين، فالموقف الأمريكي من مصر هو الموقف ذاته طيلة العهود منذ ثورة عبد الناصر وخليفته السادات وحسني مبارك، فمصر عَدوّ استراتيجي، وإسرائيل عنصر أساسي في الموقف الأمريكي. في زيارتها للقاهرة -بعد الثورة- أعلنت وزيرة الخارجية الأمريكية (هيلاري كلينتون) عن دعم الولاياتالمتحدة لكلِّ ما يقرّره الشّعب المصري بشأن مستقبله، وتعهّدت بتقديم المساعدات الاقتصادية لمصر. في محاولة لمواجهة الحالة المصرية الجدية اختارت الولاياتالمتحدة سفيرة جديدة لها في مصر (آن باترسون)، وهي التي عملت في السعودية، ولها خبرة بمجتمعات الاضطرابات في أمريكا اللاتينية، حيث عملت سفيرة لدى السّلفادور ثم كولومبيا. فهي اليوم في مصر التي تموج بالاضطرابات، وتعتمد على الدّعم الأمريكي مثل باكستان التي غادرتها في العام الماضي. إنَّ الولاياتالمتحدة قد ضخّت بالفعل أربعين مليون دولار في مصر لدعم الديمقراطية منذ 25 يناير، بمعدل ثمانية مليون دولار شهرياً (حسب صحيفة الشرق في 23/6/2011م) ووضع المبلغ تحت تصرف المنظمات الأمريكية التي ترعى وتُموّل المنظمات المصرية النّاشطة في مجال التّحول الدّيمقراطي، ومن تلك المنظمات المعهد القومي الدّيمقراطي، والمعهد الجمهوري الدّولي، وهما يعملان على تشجيع الدّيمقراطية ودعم قدرات وتنمية المجتمع المصري. ولقد تقدمت (600) منظمة مصرية بطلبات الحصول على منح مالية لدعم المجتمع المصري. إنَّ الإنفاق الأمريكي قد غطى واحداً من المؤتمرات التي أثارت الرّأي العام المصري، والذي عقد في فندق مصري كبير، مؤتمراً يعارض التّعديلات الدّستورية. وقد اعتذر (جمال عيد) مدير الشَّبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان عن قبول المساعدات الأمريكية لأنّها (تخريب للمجتمع المدني) كما قال، وأضاف أنّ بعض المنظمات التي تلقّت المساعدات الأمريكية بعد 25 يناير كانت تتلقى دعماً مماثلاً أثناء حكم الرّئيس السّابق، وكان لها دور في مساندة نظامه وتسويغ ممارسات أجهزته طول الوقت. واحتجَّت وزيرة التَّعاون الدّولي المصرية لدى السفارة الأمريكية على أنشطة الوكالة الأمريكية للتنمية التي تنتهك السِّيادة الوطنية المصرية. إنَّ الإدارة الأمريكية بفعلها ذلك لا بدّ أنّها أرادت أن تشتري شيئاً لصالحها من ثمار الثَّورة وحصادها، وهو هدف يرمي لغواية النُّخب عبر إغراقها بالمال، إنَّهم يعدون عُدّتهم لمواجهة الواقع الجديد المعاش في مصر، ولا لوم عليهم. وبجد يريد المصريون شيئاً جديداً هو النَّفاذ وتحقيق أهداف الثّورة. أجرى مركز بيو للأبحاث (PEW RESEARCH CENTER) استطلاعاً للرأي في مصر (خلال 24/3 - 7/4/2011م) وفي تحليل الاستطلاع في الحقبة الجديدة: يتقبَّل المصريون قواعد قديمة للسلطة، وقواعد جديدة. الجيش وقيادته مَحَطُّ احترامٍ كبيرٍ، والجمهور المصري كما هو واضح، منفتح على موضوع أن تكون الأحزاب السّياسية على الدِّين جزءاً من حكومة عتيدة. ولدى معظم المصريين رأي طيب في الأخوان المسلمين الذين -بدورهم- يترقبون من الانتخابات تأييداً محتملاً كثيراً كأي عدد من الأحزاب السِّياسية. غير أنَّ عوامل ذات صلة بالتَّغيير السِّياسي ينظر إليها أيضاً بإيجابية من جانب أطراف ضمن غالبية المصريين، بما في ذلك حركة 6 أبريل العلمانية نسبياً وبكلّ من فيها من القادة السياسيين: وأيمن نور ومحمد البرادعي. ويقول كثير من المصريين أنَّهم يريدون أن تكون العلاقة بأمريكا أقل متانة. أمَّا إسرائيل، فأصيبت بإخفاقٍ شديدٍ؛ إذ يريد المصريون (وفق فارق يراوح بين 54% و 36%) إلغاء اتفاقية السَّلام المعقودة معها. وتعديل الدّستور -الذي تعارضه المؤتمرات المدعومة أمريكياً -وهو أمر أساسي ولا بديل له في حالة مصر الرّاهنة (فالقوى السّياسية والاجتماعية متبلورة على وجهٍ يجعل لها من الحجم النِّسبيّ تجاه بعضها البعض، ومن القُوَّةِ الذَّاتيةِ لكلٍّ منها تجاه الأخريات يجعل من ذلك ما يستوجب تعديل موازين القوى بين بعضها بعض، وتعديل أسلوب التَّعامل المستمر بينها على النَّحو الذي يُعبِّر عن التَّعديل الواقعي الذي جرى لقواها النَّسبية. قُوَّة عمالية مثلاً كانت ضعيفةً وقويت بنقاباتها، أو اتحادات رأسمالية ظهرت وتبلورت وصار لها تعبير سياسي، أو جماعاتٍ دينيةٍ التفَّت حول عدد من المطالب وصارت ذات نفوذ شعبي يمكِّن لها من أن تكون مساهماً في التَّعبير عن مشاكل المجتمع، وفي المشاركة في تقرير أوضاع المجتمع) وقد جَدَّ في مصر حدث بَدَّلَ الوضع السّياسي (استدعى إعادة تصنيف الأولويات السّياسيّة في المجتمع بما يُعدِّل من موازين القوى السِّياسية والاجتماعية، وبما يدخل في الحساب قوى جديدة كالجيش مثلاً). وإلاّ فلتستمر الثّورة (والشُّعوب تفرض عليها المغارم أحياناً، تفرضها حركة المجتمع أحياناً وتفرضها مراحل التَّاريخ أحياناً أخرى، وهي مغارم تُفرضُ رغم أنّها كرْهٌ لأصحابها وذويها).