إنطلاقة قوية تلك التي شكلها السرد في المشهد الإبداعي الراهن .. وعلى المستويين السرديين .. مستوى الرواية ومستوى القصة القصيرة فان آفاق جديدة رحبة يرتادها هذا الضرب الإبداعي جعلته يحتل الساحة الإبداعية بعد ذلك التراجع الخجول لفن الشعر الباهر الذي اخذ يتحدث عن قصيدة النثر كأنما يتوسل بها ويحتمي ويقول أنا أيضاً احكي بالنثر ، واسرد بالشعر فلتبتعد القصة القصيرة وكذا الرواية عن طريقي !! الشاهد انه لا القصة القصيرة ولا الرواية ستبتعدان عن طريق الشعر أو عن محيط الفنون الأخرى مادامت لهما القدرة على استيعاب كافة الفنون والتماهي معها عبر بنية نصية ذات نسق وبناء معماري له بهاء والق .. ولغة شعرية باذخة ، وصور تذخر بالروعة موظفة لتتناغم مع الإيقاع والموسيقى وموتيفات سينمائية إلي غير ذلك من الصور ... وإذا كانت ثمة أقوال منثورة ، وأخرى كادت أن تكون مأثورة ترمي بشرر كالقصر متحدثة عن زمن الرواية فلن نشطط بالقول ولهذا سنعمد إلي القول انه زمن السرديات كي ندخل في نطاقها القصة القصيرة والسيرة الذاتية والغيرية والمقالة القصيرة وما إلي ذلك . أما القصة القصيرة فإنها كادت أن تكون سيدة الموقف دونما منازع .. انظر إلي هذا الحراك الدائر في ساحاتها لتتأكد لك صدقية الذي نقول . ففي خلال السنوات الثلاث الماضية انطلقت لاتلوي محدثة عن نشاط جم إنتظم ساحاتها في عام 2009م أقامت عدة جهات مسابقات للقصة القصيرة .. وزارة الثقافة بالاشتراك مع إذاعة ساهرون وجريدة الصحافة وفي 6 أبريل 2009م كانت الدورة الأولى لمسابقة القصة القصيرة لجائزة الطيب صالح برعاية مركز عبد الكريم ميرغني . ثم تلتها الدورة الثانية في ابريل 2010م والثالثة في 6 أبريل 2011م . وأيضاً خلال 2010م وزعت جوائز الدورة الأولى لجائزة نبيل غالي في القصة القصيرة برعاية نادي القصة ووزارة الثقافة ، وفي فبراير 2011م وضمن فعاليات جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي كانت هنالك ثلاثة جوائز خصصت للقصة القصيرة ... أما على مستوى الهامش فإننا نثمن الدور الكبير الذي قامت به منتديات كسلا والتي انطلقت جوائزها المخصصة للقصة القصيرة في فوفمبر 2009م حيث كانت دورتها الأولى أما الدورة الثانية فقد وزعت جوائزها في الثامن من ابريل 2011م أرأيتم حجم هذا الحراك الكبير ؟؟ إذن فان القصة القصيرة قد حققت فتحاً مبيناً وكاسحاً !! وهنا لابد من الإشادة بالأستاذ الشاعر الصادق الرضي والذي أتحفنا عبر ملف السوداني الثقافي بالقصص الفائزة لمنتديات كسلا وربما كان ذلك لقربه من المنتدى حيث كان عضواً بلجنة الفرز بمعية الشاعر المسرحي يحى فضل الله . وكما رأينا ودون مراء فان القصة القصيرة هذه المدللة والآتية متأخرة كادت أن تحكم سيطرتها على الساحة وهي ترفع يدها محيية روادها الأوائل إدجار الان بو ، ونقولاى جوجول ، وجي دى موباسان ، وأنطوان تشيكوف ... ورغم ماتكنه لأولئك الرواد من احترام فهي تبدو هاربة من معاطفهم .. منفلتة عن تنظيراتهم .. ضاربة بقواعدهم عرض الحائط .. وإن أبقت على القليل من مسلماتهم من حيث كونها قصيرة حتى انها لتقرأ في جلسة واحدة كما يعبّر أندرسون إمبرت ، او انها تروى بالنثر وجها من أوجه النشاط والحركة في حياة الإنسان كما يذهب إلي ذلك الناقد الانجليزي ( شارلتون ) . عموماً القصة القصيرة الجديدة أبعدت نجعتها .. وراحت تحقق ذاتها وشخصيتها في التعاطي مع الواقع الآني ... وفي التقاطها للظواهر الجوهرية والتماهي مع الكتابة الجديدة التي تنحو نحو اسطرة العالم وفنطسته لينفتح على كافة التأويلات ... وهي في ذلك محققة للصيغ الجمالية في كثافتها الشعرية ... قابضة على أعنة اللغة الماتحة من فيوض الشعر والمتسمة في ذات الوقت بمستوى عال من التعبيرية المسهمة في البناء المنتج في معالجته للحدث للوصول به إلي غاياته واستحقاقاته المبتغاة . عموماً نحن هنا لنا غاية محددة هي محاولة الاحتفاء بالقصة القصيرة عبر المجهود المقدر لمنتديات كسلا وإسهامها في إطلاقها لهذه المسابقة في دورتها الأولى والثانية ... وهذا الاحتفاء يأتي تثميناً لهذا المجهود الذي تقوم به كسلا الجمال كونها وبجانبها القضارف التي هي الأخرى تحتفي بالشعر وهما معاً لم يركنا لمسميات المركز والهامش ... وإنما انطلقتا تقدمان إسهامهما وهما تقولان كلنا في الهم شرق !! إذن سوف نغتنم هذه الفرصة لنقرأ القصص الفائزة في الدورة الثانية : * القصة الأولى كتبها القاص مبارك إسماعيل تحت اسم « بموجب أمر محلي « وهي قصة محتشدة بالتفاصيل ... ومنطلقة في تراتيبيتها وسردها لمعالجة حدثها وأحداثها .. وهي تبدو أكثر قربى للقارىء لكونه يتلقاها عبر الراوي وبضميره .. أى ضمير المتكلم ... ورغم إنّ المتلقي ألمّ بنتيجة الحدث منذ البدء إلا انه يمضي لمعرفة الدوافع والأسباب التي ادت الي هذه الأيلولة .. أى أن القصة تبدأ من النهاية ... اذ يقول الراوي انه كان يمكن ان يكون ضمن افراد ورديته الذين اغتالتهم ايدي الجناة وكان يمكن ان يحدث له هذا ? كما يعبر الراوي « لو تأخرت خمسة دقائق فقط لكنت الان صريعاً غارقاً في بركة دمائي ... عشرات ... عشرات ... الرصاصات تثقب جثتي ، وأحشائي متكومة على جانبى بطنى ومحتوياتها تلطخ كل الغرفة من أثاث وجدران حتى السقف كمثل الحالة التي وجدت عليها افراد ورديتي الثلاثة . * القصة الثانية بقلم م . س . بعنوان « غضب « وهي على قصرها ومحدودية كلماتها .. إلا انها كانت قاطعة وباترة وهي تمضي لطرح موضوعها الخطير ? حيث تحدثت عن المسكوت عنه .. بيد انها كانت لها مخرجاتها التي اعتمدت عليها في إيصال طرحها عبر العم السكير ? فان يصدر مثل ذلك القول من رجل ليس في حالته الطبيعية ? او قل إن شئت سكراناً ... فليس في الامر عجب .. فالوجدان الشعبي له تبريره الدائم لمثل تلك الحالة وهي كونه ( السكران في ذمة الواعي !! ) . والعم هنا أشبه مايكون ب اللاشعور الذي يكبت كل المشاعر التي تواضع المجتمع على عدم إذاعتها وإشهارها ? بيد أن بعض المؤثرات أحياناً مثل الغضب الزائد او الانفعال او التخدير كأن يكون الإنسان تحت تأثير البنج فان اللاشعور قد يستيقظ من حالة الكبت ليكشف المستور والمكبوت تحت ركام الكوابح وينشط في دلق مخزونه المتراكم . وعوضا عن أن يقوم العم في القصة بدور الأب البديل في خطوبة بنت أخيه المتوفي كال لابنة أخيه السباب بقوله ( انها قليلة أدب ... وعديمة حياء ، ومامتربية ) وأردف مستدركا : ( هو الأدب يجيك من وين إذا كانت مربياك حلبية ؟؟ لكين الغلط مني أنا الوافقت أبوك يعرس واحدة حلبية !! ) ثم يصل العم الي الذروة في طرحه للمسكوت عنه عندما يخاطب ابنة أخيه والتي هي في انتظار خطيبها وأهله والذين سيأتون من اجل إكمال إجراءات الخطوبة والتعارف « الناس كلها بتتكلم عنك ياسفيهة .. طالعة نازلة مع زول فيه عرق !! « خلاص يعني أولاد العرب كملو ؟؟! وإذا تركنا قصة غضب ونحن في غاية الغضب الذي لاينفثىء ... فإننا سندلف مباشرة الي القصة الثالثة ... والي زياد محى الدين وقصته الموسومة « ركس « وركس هنا هو ذلك الكلب الشرس ? وقد انسنه القاص حتى ان الراوي قد عقد معه معاهدة « بقط « يتم بموجبها ان يترك ركس إفزاعه للراوي والنباح فيه ومطاردته لقاء أن يأتيه الراوي بمخلفات اللحوم والأطعمة ثلاث مرات في الأسبوع ... والشاهد في هذا السياق إننا تعرفنا على قصة الدكتور بشرى الفاضل المسماة « ذيل هاهينا مخزن أحزان « وفيها التقينا بهواهي وهاهينا وهما يستعدان لبناء عرين أو هو وجار الزوجية . عبرهما أدركنا الفارق الطبقي بين برجزة كلاب العمارات المنعمة ورثاثة البلوريتاريا في كلاب الأزقة الضالة ? وفي ذات المنحى نجد ركس قد سارت من حيث اخلاع صفة الانسنة وإسباغها على ركس الذي يدرك شكل العلاقة بينه وبين أهل الدار ويدرك التكاليف المنوطة به والتي بموجبها يحصل على طعامه من سيده عكاشة حيث أن عليه النباح بشدة ليؤكد جاهزيته للانقضاض على كل من تسول له نفسه بالاقتراب من ممتلكات سيده عكاشة . وعندما يناقشه الراوي في كونه درج على النباح على أهل الحى من المارة والجيران وضيفهم وإفزاعهم وهم ليسوا بلصوص . عندئذ يبتسم ركس في خبث وهو يقول : كما تعلم إن الزمان قد اختلف ولم يعد هناك الكثير من زوار الليل ... كما ان طرق اللصوص قد اختلفت ... فأساليب الرشوة والفساد .. واكل أموال الناس بالباطل ? أصبحت أسهل من قفز الأسوار والمخاطرة ، والسهر ، والمطاردة ... وأساليب أخرى أنت تعرفها ... لذا ياعزيزي كلكم لصوص !! تلك هي خطوط القصص الثلاث الفائزة وكما ترون فان لكل قصة فضاءها الذي تحركت فيه ودلالتها التي عبرت عنها وأسلوبها الذي انتهجته ، وهي في مجملها لم تشكل إضافة جديدة ... ولم تقدم شكلا متفردا ولم تختط جادة غير مطروقة ? الأمر الذي يتوقعه المتلقي في القصص التي تحصد الجوائز ويكون لها الفوز إذ عليها أن تلبي اشراط الدهشة والمتعة فيما هي تحقق السبق في إشباع نهم المتلقي للجديد الباهر من حيث الطرح الجيد والبناء المتفرد واللغة المنتقاة والصور المتفردة واسطرة العالم وبخاصة ان القصة القصيرة كما المحنا قد بلغت مستوى رفيعا ومتقدما وهنالك تحولات كبيرة في محيطها وهذا الوضع المتحول يفرض بطبيعة الحال على المبدع أن يسعى وبكل مالديه من أدوات لتقديم ماهو مقنع لان المتلقي أصبح منفتحا على الثقافات الأخرى وله الإلمام الكامل بالمدى الذي وصلت إليه القصة القصيرة وذلك عبر الوسائط المتعددة والجديدة التي أتاحت له هذه الفرصة فرصة التلقي للعديد من النصوص التي حفلت بالتجريب المدهش والإبداع الخلاق حيث تتحاور وتتصارع وجهات النظر وتتنوع مستويات الخطاب الإبداعي في دائرة السرد الواسعة المأى بالاحتمالات والتوقع . حقيقة عندما نقول ذلك لانظلم هذه النصوص أو كتابها كقصص قصيرة لابأس بها ولكننا عندما نقدمها كنصوص فائزة فان ذلك يعني انها آخر صيحة في ما وصلت إليه القصة القصيرة .. وهذا ليس صحيحا فثمة نصوص عديدة لم تشترك او تشارك في المسابقة .. بالقطع إن ثمة فرضية تشير الي أن هذه النصوص شبابية وإذا كان ذلك كذلك فان الشباب الآن هم الفئة التي تبدو الاكثر تأهيلا لتقديم المستوى المطلوب من خلال قدرتهم على التعامل مع الوسائط الجديدة وانفتاحهم على الثقافات الأخرى واختزالهم للزمن ووقوفهم على آخر المستجدات ? صحيح إن عامل السن وتوفر التجارب امر له قيمته لكن بالمقابل حيوية الشباب وقدرته وطاقته ربما شكلت المعادل الموضوعي للذي ذكرناه آنفاً . ومع ذلك فان القصة الأولى ? بموجب أمر محلي ? لمبارك إسماعيل بانوراما جامعة وجديدة في موضوعها ? من حيث تناولها ورغم انها ترهلت بعض الشىء في تفاصيلها إلا انها أفلحت في تصوير جو الخوف والرعب فيما كانت قصة غضب كما نوهنا على قصرها تحدثت باختزال عن المسكوت عنه في السياق الاجتماعي واختيارات الأعراس من حيث تأصيل منبت الأزواج والزوجات والبحث عن الأعراق والتاريخ الاجتماعي ولامست قضايا اللون والعرق ? ولكنها ولان قضيتها من قضايا المسكوت عنه فان الكاتبة لم تجد في نفسها الشجاعة حتى لطرح اسمها واكتفت بالرمز له بالحرفين م . س . زياد محى الدين في قصته ركس قدم صورة جميلة من خلال انسنته الكلب ركس الذي فقد حاسة الشم والتي عبرها كان يميز بين الناس وحين سمع سعدية زوجة عكاشة تحدث زوجها عن ركس الذي لم يعد ينبح أجابها إن ركس أصبح هرما لايقوى على مطاردة اللصوص والسكارى لقد نما الي علمي أن ( بوسي ) ، كلبة جارنا عيسى قد وضعت أربعة جراء أفكر بالذهاب إليه واخذ احد الجراء وتربيته بدلا عن هذا الكلب العجوز . عندئذ لم يحتمل ركس تلك الحقيقة ? فهرول مسرعا الي المنزل المجاور والقى بنفسه في بئر السايفون تحت التشييد منتحراً . وبعد هذه مقاربة نقدمها تحية لأولئك الكتاب وسط مشهدية إتسع فيها الاحتفاء بالقصة القصيرة كما قدمنا آنفاً وهنا ولكى يستطيع كاتب القصة أن يكون متميزاً وله صوته الخاص لابد أن يؤسس اختلافه عن الآخرين وذلك باجتراح تفرده المبني على القدرة على الإدهاش وذلك بالتوفر على هذا الفن والوقوف على مناسيب مده الكاسح والإجابة على سؤال الإبداع المطروح حتى يجد موطأ لقلمه .