(1) إلى وقت قريب، كنت أعتقد أن للمعاناة وجها واحدا لا يتجزأ كما الانهيار تماما، معاناة الهامش ماهي إلا جزء من معاناة المركز ، ولا يتنافسان إلا في رداءة الخدمات التي تكشف عن عورات القائمين على الأمر. (2) خارج إطار المدينة التي تسمى بلا ترميمات لغوية (العاصمة) قررت أن أقضي رمضاني وخريفي، وعند وصولي إلى منطقة الدندر بولاية سنار لم أكن أعلم بأني أزج نفسي عبر بوابة أخرى لنوع من معاناة مختلف ومغاير. (3) فقطوعات الكهرباء المستمرة مثلا لم تعد تثير الدهشة أو الحيرة أو حتى التساؤل فهذه القطوعات قاسم مشترك في كل أرجاء المليون إلا حبة ميل مربع، ما يدهش فعلا في هذه الولاية أنه حالما تتجمع السحب في الأفق يتلاشى التيار الكهربي. (4) نعم..أمطرت السحب أم لم تمطر يتلاشى التيار، وفي حالة أنها أمطرت مع قليل من الهواء حتى تتفاجأ في اليوم التالي بأن هناك ست أو سبع أعمدة سقطت وقبلت وجه الأرض، هكذا بكل بساطة تتمدة الأعمد بطولها الفاره في الأرض بينما تسبح أسلاكها في المياه. (5) لا أحد يدري بعدها متى يعود الحال إلى حاله الأولى، تتوقف الحياة ويحتار الناس كيف يتعاملون مع الليمون والبرتقال على أنغام البعوض وأوكسترا الضفادع، تكتسي وجوههم بلون الحياد والاستسلام والمسكنة. (6) ولأن كل شيء هنا لا علمي وغير احترافي يعود التيار وفق هواه، كما هذه المرة التي عاد فيها بضغط عال لتحترق على أثره معدات كهربائية متواضعة لأناس متواضعين، ومن ضمن ما أفسد هذا التيار الغبي شاحن جهازي المحمول. (7) ها أنا انتقل من معاناة إلى نوع آخر من المعاناة، لا شواحن ولا أجهزة في الأطراف، وإذا وجدت فإن الأسعار تزداد بنسبة خمسين في المائة بين مدينة وأخرى حسب بعدها عن المركز. (8) بلا أمل بحثت عن جهاز مشابه، لا سيما أن ثقافة النت عندنا لازالت طفلا يحبو، وفي نهاية الأمر أشار أحدهم جهة مكاتب النيابة.. نيابة الدندر، والحل يكمن عند وكيلها الأستاذ ضو البيت. (9) قررت أن لا أذهب إليه إلا بعدما أسأل عنه قطاعا واسعا من معارفي ومدى استجابته للتعاون الإنساني، فعلت وهالني ما سمعت كأنه استفتاء أو استبيان مصغر، الاشادات تنهال عليه من كل جانب كشخص محبوب متعاون نبيل وكريم، وذو حضور اجتماعي باهٍ. (10) قطع حبل راحته في ذلك اليوم وترجل صوب مكتبه ونزع الشاحن عن جهازه وبطيبة خاطر ناولني إياه دون أن يسألني متى وكيف وأين سأعيده، فشكرا لهذا الرجل الذي جاء إلى هذا المدينة كضوء لبيت واحد فصار ضوءا يعم كل أرجاء المدينة. [email protected]