كان ما أثير من إتهام حول الاتفاق الذي تم سراً بين نظام مايو والاميركان، وسمح بموجبه الطرف الأول للثاني بدفن كميات كبيرة من النفايات الذرية بصحاري شمال السودان القصية والمنسية، كان ضمن أسباب أخرى، يُعد من أهم المآخذ على مايو والتي عجّلت بسقوطها في 6 أبريل 5891م إثر الهبة الشعبية المعروفة، ولكن ظل هذا الاتهام معلقاً طوال حوالي ثلاثة عقود منذ ان أثير أول مرة، لم يتم نفيه نفياً قاطعاً يقطع دابر التهمة بلا رجعة، كما لم يتم اثباته بالدليل القاطع الذي يقطع قول كل متشكك في صحته، وظل الحال هكذا في منزلة بين منزلتين، الشك واليقين، يتجدد الاتهام مرة ويتم نفيه مرة، واستمر السجال على هذا المنوال إلى أن باغتتنا بالامس، الغراء صحيفة «التيار» بخبر يصلصل ويجلجل يقول أن بعض المغامرين الباحثين عن الثراء عبر التنقيب عن الذهب في صياصي وصحارى الشمال قد عثروا على ما يشتبه في أنه نفايات لمواد خطرة يذهب الشك إلى انها نفايات نووية، ويعزز هذه الشكوك أنها وجدت داخل براميل معدنية لا تشبه البراميل المعروفة مطمورة ومدفونة داخل الارض فيما يشبه المقبرة في صحراء العتمور الشرقية على بعد مائة كيلومتر شرقي مدينة أبو حمد، وهكذا تنفتح مجدداً سيرة هذه «النفاية» التى ظل امرها يراوح مكانه بين شد وجذب رغم تعاقب السنين وكرّ الايام وتوالي الانظمة. وتجدد الحديث عن نفايات الشمالية التي تعد الحادثة الاولى في هذا الخصوص، لا يعيد إلى الاذهان حدث الحواسيب «الاسكراب» الاقرب الى الذاكرة بحسبان انه لا يزال تحت التحري والتحقيق ولم يتكشف خيطه الاسود من الابيض بعد، بل يعود بها القهقري حوالي خمس سنوات الى الخلف حين اشتم الناس رائحة كريهة فتتبعوا مصدرها إلى أن وضعوا يدهم على أصل الحكاية وفصلها، وكم كان أصلها وفصلها مضحكاً ومبكياً في آنٍ معاً، حيث لم تكن تلك الرائحة الكريهة سوى الفضلات البشرية التي يلفظها أغاريق العاصمة اليونانية أثينا، عبأوا منها «071» ألف طن داخل حاويات نقلوها عبر البحر الى بورتسودان بغرض معالجتها بواسطة شركة اميركية داخل الاراضي السودانية حسبما قضى الاتفاق الذي تم بين شركة إيداب «EYDAP» اليونانية ووزارة الزراعة السودانية التي لم تجد ما تدافع به عن إتفاقها ذو الرائحة الكريهة غير أن تقول ان فضلات الاغاريق مفيدة للزراعة ولها خواص تساعد على انتاج اسمدة عالية الجودة لا تتوفر في غيرها، ولو لم يكن الامر كذلك فلماذا ما يخرجه اليونانيون من السبيلين دوناً عن بقية العالمين، لماذا مثلاً لم تبدأ وزارة الزراعة بفضلات اهلها الاقربين السودانيين، وإن لم تكف فلتستورد كفايتها من جيرانها القريبين مصريين واريتريين واحباش وغيرهم من شعوب البلاد التسعة التي تحادد السودان، ثم لم تكد مهزلة النفايات اليونانية يطويها النسيان بعد أن هاج الناس في وجهها وماجوا، حتى أطلت علينا غلوتية النفايات النفطية التي تم دفنها بخلاء شمال ام درمان بعد أن عبرت حوالي الفي كيلومتر عبر ثلاث ولايات لتدفن في اطراف كرش الفيل، ولا يزال سر هذا الفتات الصخري النفطي الباتع طي الكتمان حتى بعد أن سلمنا بأنها نفايات صديقة للبيئة ومثل الكسرة بالموية للانسان «لا بتغلّط عليهو ولا بتوسخ يديهو»، والسر المكنون الكامن في هذه النفايات والذي استعصى على كل الافهام هو ما دامت هذه النفايات بكل هذه الحميمية والرقة فلماذا تُكلّف كل هذا الرهق بالمسير أيام بلياليها لتقطع مسافة تقطع نفس الخيل من جونقلي إلى ام درمان، وترتفع تكلفة الترحيل بأضعاف ما تكلفه لو تم دفنها في جونقلي نفسها أو أقرب منطقة لها على إمتداد الالفي كيلومتر التي قطعتها. الشاهد في إنفتاح سيرة النفايات هو أن العالم الاول متخم بنفايات مختلفة الانواع متعددة المخاطر ظل دائب البحث عن مدافن لها خارج أراضيه، ولهذا يجب أن نفتح بصرنا وبصائرنا مخافة أن نؤخذ بالاغراء أو على حين غرّة.