مما يحزن القلب هذا التدنى المريع فى سمعة وكفاءة التعليم الجامعى فى بلادنا ، فقد كنا نفاخر ولعقود طوال بجامعة الخرطوم كواحدة من أعرق وأكفأ الجامعات على المستوى الافريقى والعربى والإقليمى ، بل أن اسمها كان يمثل مرجعية أكاديمية مرموقة لدى كافة الدوائر العلمية الاوربية من جامعات ومراكز بحوث وغيرها . ولعل جامعة الخرطوم لم تصل لهذه الدرجة الرفيعة إلا عبر الموارد السخية التى كانت متاحة من قبل الدولة ، وعبر الإرتباطات الاكاديمية العالمية ، وأيضاً عبر الإنضباط الاكاديمى الصارم .. إنضباط كان لا يخضع لكافة أنواع الوص?ية أو الهيمنة من قبل الدولة وسياساتها ، ولم يعلُ صوت فى الجامعة فوق صوت الضمير الاكاديمى فكان إستقلال الجامعة أول بنود الميثاق السياسى لثورة اكتوبر 64 . لكل هذا ظلت الدرجات العلمية (بمختلف مستوياتها) التى تمنحها هذه الجامعة موضع ثقة وإطمئنان كافة المجتمعات الاكاديمية الدولية . كذلك من المهم أن لا ننسى ذكر المعهد الفنى ، تلك المؤسسة الرائدة فى مجال التعليم التقنى والتى من رحمها خرجت جامعة السودان الحالية ، وتعود فكرة المعهد الفنى الى البصيرة الثاقبة للمهندس ميرغنى حمزة ، وسبق وأشرت فى أحد كتاباتى الى أن مسئولاً كورياً جنوبياً رفيعاً قال بأنهم مدينون بنهضتهم الصناعية الى تقرير مودع بالامم المتحدة للسيد ميرغنى حمزة منذ منتصف الخمسينيات يركز على أهمية المؤسسات التعليمية التقنية الوسيطة فى تنمية دول العالم الثالث . هكذا كان الحال فى زمن كانت فيه مؤسساتنا الجامعية تنحصر فى هاتين المؤسستين وثالثتهما جامعة القاهرة فرع الخرطوم ، واليوم بات لدينا أكثر من مائتين جامعة ما بين حكومية أو خاصة يتخرج فيها آلاف الخريجين كل عام ، ولكنا بالمقابل أضعنا كل ذاك الرصيد الاكاديمى المرموق بفضل هذا (الإنبهال ) التعليمى وخسرنا السمعة الطيبة للتعليم الجامعى السودانى بسبب تسييس مهنة التعليم الجامعى وإدخالها داخل منظومة التمكين الحزبى الى جانب رفع يد الدولة عن دعم التعليم العالى وتسليعه (اى تحويله لسلعة) وتحرير سوقه بحيث أصبح (بزنساً) جاذباً?للذين يعلمون والذين لا يعلمون . ولقد أفزعنى ما رواه لى أكاديمى مرموق حول تقرير حكومى سعودى ينعى التعليم الجامعى الحكومى السودانى ويهيل التراب على تاريخه وسمعته المجيدة ، ويشير التقرير بوضوح الى أن بعض الجامعات الحكومية السودانية أصبح لديها مكاتب تمثيل بالمملكة (وكلاء ) يتقاضون رسوماً معلومة نظير منح الشباب السعودى درجات الماجستير والدكتوراة ، وتقوم هذه المكاتب بترتيب حضور الاستاذ المشرف الى السعودية لمباشرة رسالة تلميذه السعودى طالب الدراسات العليا ، وهذا وضع معكوس فالأصل أن يذهب الطالب للجامعة لا أن تهاجر الجامعة نحو الطالب ... هذا الوض? الشائه ترتبت عليه شبهات كثيرة تقدح فى المصداقية الاكاديمية لبعض جامعاتنا الحكومية مما حدا بالسلطات السعودية الى إعادة النظر فى السمعة المرموقة التى كانت تحظى بها جامعاتنا وفى شهاداتها . لقد تدنى التعليم الجامعى فى بلادنا بصورة مفزعة ومحزنة ، وحتى تراث السمعة الأكاديمية الرفيعة بات مهدداً بالزوال والتلاشى .