كان اتفاق الخرطوم للسلام في عام 1997 مع العديد من منشقي الحركة الشعبية حينها، بقيادة الدكتورين رياك مشار ولام أكول أجاوين، والقائد العسكري كاربينو كوانين، الذي أُغتيل لاحقاً في الجنوب، هو اول اتفاق سياسي لحكومة الانقاذ مع متمردي الجنوب بعد ثماني سنوات من تسنمها السلطة، لكنه سرعان ما انهار وكأن شيئاً لم يكن. قبل ان تندلع أزمة دارفور في عام 2003، وعقدت الحكومة اتفاق أبوجا مع حركة تحرير السودان، بقيادة مني اركو مناوي المنشقة عن عبد الواحد محمد نور، وعودة مناوي أخيراً هذا العام بعد حوالي خمس سنوات قضاها كبيراً لمساعدي رئيس الجمهورية إلى الغابة حسب وصف المصطلح السوداني لمن يحمل السلاح. وبعد ست سنوات من اتفاقية نيفاشا للسلام ذهب الجنوب في 9 يوليو الماضي إلى حال سبيله، في الوقت الذي ترك فيه حزباً سياسياً (الحركة الشعبية) بقيادة شماليين جغرافياً، وربما جنوبيين فكرياً، مالك عقار، عبد العزيز الحلو، ياسر عرمان، هؤلاء حالياً تصفهم الحكومة بالمتمردين والخونة بعد حرائق جنوب كردفان والنيل الازرق مؤخراً، تلك الحرائق التي اندلعت بجنوب كردفان والنيل الازرق، كما هو معلوم شقت الحركة الشعبية، إلى محاربين سالفي الذكر، وحمائم سلام هي القيادات الجديدة التي أفرزتها ذات الأحداث، بزعامة الفريق دانيال كودي ومحمد احمد عرديب وآخرين رفضوا ما سموه إشعال الحرب من قبل عبد العزيز الحلو ومالك عقار وياسر عرمان، ومن ثم عزلهم عن مناصبهم، وإعلان حزب جديد في مؤتمر صحفي عقد بالخرطوم الاسبوع الماضي، في الوقت الذي يعرف فيه الكثيرون أن كتلة نواب الحركة الشعبية في المجلس الوطني ظلت كما هي. الأحد الماضي قال المتحدث باسم المؤتمر الوطني، البروفيسور إبراهيم أحمد غندور، للصحفيين، عقب اجتماع المكتب السياسي، إن الحكومة لن تتفاوض مع من يحمل السلاح ويروع المواطنين الآمنين، وان هذا الباب مغلق تماماً ولا يمكن ان يدلف من خلاله أحد. وهو الأمر الذي يطرح دون شك تساؤلات عديدة ومهمة حول مسيرة حكومة المؤتمر الوطني في التعامل مع حملة السلاح (المتمردون على الدولة)، من خلال عقد اتفاقات مع اطراف معينة ومن ثم انخراط هذه الاطراف في سلام لا يقوى على البقاء، في ظل وجود الاطراف الاخرى في (إحدى غابات السودان)) المتعددة. والسؤال الذي يلح على طرح نفسه: من هو المسؤول عن فشل كثير من الاتفاقات السياسية المشار اليها، وسؤال ثانٍ بخصوص ما يلي الحركة الشعبية: هل إغلاق الحوار معها، والتعامل مع جسم جديد أفرزه (الصراع) سيحل المشكلة التي اعترفت الحكومة ذات نفسها بأنها مشكلة سياسية في المقام الأول، أم أن الأمر سيقود إلى مزيد من الاتفاقات والأحزاب مستقبلاً، ووصول عدد الكيانات والاتفاقات السياسية في السودان إلى أرقام قياسية من دون قدرة على حل مشكلات السودان المتفاقمة يوماً من بعد يوم بحسب كثير من المتابعين والمراقبين للشأن السوداني. أستاذ العلوم السياسية، بجامعة الخرطوم، والكاتب الصحفي، البروفيسور الطيب زين العابدين يقول إن مسؤولية فشل اتفاقات السلام المتعددة التي تعقدها حكومة المؤتمر الوطني سواء مع الاحزاب، أو الحركات المسلحة يعود الى ان منهجية المؤتمر الوطني ورؤيته الاستراتيجية، للاوضاع السياسية في البلاد، كونه يتعامل مع القضايا كافة من ناحية مصالحه الخاصة، ويضيف زين العابدين في حديثه ل (الصحافة) عبر الهاتف أمس في ما يتعلق بما حدث داخل الحركة الشعبية مؤخراً، ان المؤتمر الوطني يسعى لشق الحركة الشعبية، حتى يتأكد من ان الجميع أقل منه، ليلحقها بأحزاب سياسية أخرى، أحدث بها انشقاقات كبيرة، ويدلل استاذ العلوم السياسية، على سياسات المؤتمر لشق الاحزاب، بتمكين الفريق دانيال كودي ورفاقه من ممارسة نشاط سياسي، وهو حزب غير مسجل في الاساس، وهو ماوصفه بازدواجية المعايير وهو ذات الخلاف، الذي يعيبه المؤتمر على الحركة الشعبية (عقار، الحلو، عرمان)، ويؤكد زين العابدين ان الخلاف في السابق (اتفاق أديس) بين مساعد رئيس الجمهورية، الدكتور، نافع علي نافع، ورئيس الحركة الشعبية، الفريق، مالك عقار، كان سياسياً وليس أمنياً، وهو ما قال به المؤتمر الوطني اخيراً وعلق بموجبه الحوار مع الحركة الشعبية، لكن المؤتمر الوطني يعتقد بأنه أفضل من يحكم السودان، ولا يفكر مطلقاً في تسليم السلطة لاي كائن من كان كما يقول، وبحسب زين العابدين، فإن حكومة المؤتمر الوطني تتعامل مع المجتمع الدولي والدول الغربية وتحترمها، بأكثر مما تتعامل مع المعارضة والشعب، لذلك يكون من ضمن اهدافها من اتفاقات سلام او غيرها، ان ترسل رسائل للغرب بأنها تسير في الطريق الصحيح، أو لتخرج من ضغوط معينة، وفي نفس الوقت لديها رسائل في الداخل مما باتت تعرف ب(نظرية المؤامرة)، التي يؤكد زين العابدين بأنها غير حقيقية، وللاستهلاك ليس إلا، وأشار إلى مشاركة اكثر من 11 من قيادات الدول الغربية في لجان وثيقة سلام الدوحة. غير ان استاذ العلوم السياسية، يلفت الى ان إعادة انتاج الازمات، هو ما يمكن ان يفضي اليه، مسلك حكومة المؤتمر الوطني، فيما يلي الانشقاقات، والاتفاقات الهشة، لأن ذلك لن يكون في نهاية المطاف حلاً للمشكل السياسي في البلاد بحسب زين العابدين. إنها العقلية التي لم تبتعد يوماً عن نظرتها الضيقة في النظر إلى نفسها، والتي ترى دوماً بأن الأمر بيدها، و تمارس السياسة بنظرية ان من يحكم ليس كمن لا يحكم، والمقصود هنا بالطبع هي حكومة المؤتمر الوطني بحسب ما يقول مصدر فضل حجب اسمه تحدث ل( الصحافة)، في رده على سؤال حول مسؤولية فشل بعض الاتفاقات السياسية بين الحكومة وحركات متمردة، ويضيف المحلل السياسي ان حكومة المؤتمر الوطني هي مسؤولة بالاساس عن تفاقم أزمات مثل دارفور التي أكثر ما زاد من تفاقمها كما يقول أخطاؤها المريرة المتعلقة بعدم فهمها لواقع الامر هناك، وقناعتها التامة بنظرية المؤامرة. ويشير المصدر، إلى ما قال إنها (الدائرة الشريرة)، التي ظل يقع فيها نظام الانقاذ، وهي كما يقول، تتمثل في الاستقطاب الجهوي والقبلي والمناطقي، وهو ما يصنفه كسبب رئيسي، لفشل العديد من الاتفاقيات، منوهاً الى خروج مناوي مؤخراً، الذي عزاه تحديداً إلى سياسة أخرى أيضاً تجيدها الحكومة، وهي كما قال سياسة (الكروت الرابحة والخاسرة)، وبحسب محدثي فإن ما حدث داخل الحركة الشعبية، من عزل لقادتها، وملاحقتهم إعلامياً وسياسياً وقانونياً، وظهور اسم جديد بذات المسمى، فإنه لا يكرس لحل المشكلة، لأنه وكما يعتقد، فإن المشكلة في جوهرها سياسية والمؤتمر الوطني يعرف ذلك، إلا أنه يمارس هوايته المحببة، وهي شق الجميع، وعقد اتفاقيات للكسب السياسي، سواء داخلياً، أو خارجياً من اجل الاستفراد بالقرار السياسي، ومن ثم إطالة أمد بقائه في الحكم صرف النظر عما يمكن ان تؤول له الاوضاع في البلاد على حد قوله.