تاريخياً لم نسمع ولم نقرأ عن سابقة تقول إن من يطالب بوقف الحرب خائن، حتى لو كانت هذه الحرب مع عدو حقيقي، وليس عدوا متوهما كما في حالة الهلال الدامي في السودان، أي هلال الحرب الممتد من جنوب النيل الأزرق شرقا إلى دارفور غربا ومرورا بجنوب كردفان.. الآن، النظام الحاكم في السودان طرف أساسي في ثلاث حروب أهلية، وهذه هي النتيجة المثبتة. أما المعطى فهو أن المناطق المشتعلة الثلاث، دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، تمردت على المركز طلباً لحقها في التنمية والمشاركة في اتخاذ القرار. وإدارة المركز الذي يعاني من سيطرة وقبضة الحزب الواحد، فشلت في تنظيم حوار مع الحركات المتمردة في الهلال الدامي، وتورطت في الحرب. وحتى إذا افترضنا أن الحركات المتمردة في المناطق الثلاث هي التي بدأت بالعنف وإطلاق الرصاصة الأولى، فهذا لن ينفي تورط المركز في الحرب. وقديما قيل إذا شكك إثنان في وجود رأسك فتحسسه، ولكن حكومة الحزب الواحد لا تتحسس رأسها، فيدها أقرب لتحسس ضمائر الأحزاب الأخرى وضمائر الداعين لوقف الحرب وقياس درجة وطنيتهم بمقياس المؤتمر الوطني السري للغاية!! البرلمان الحقيقي، يفترض أن يكون انعكاساً لسلطة الشعب الحقيقية، وماعوناً يستجيب لمطالب الناخبين. وهو منوط به الرقابة على السلطة التنفيذية، وفي نفس الوقت تمليك كل الحقائق للشعب. لكن يبدو أن برلمان السودان الحالي كان كاثوليكياً أكثر من البابا، إذ كشف عن موقف متعنت أكثر من تعنت الحكومة، وأعلن عن قراره بتمديده حالة الطوارئ في جنوب النيل الأزرق إلى أجل غير مسمى، بل وشطح أحد نوابه «الثوريين» مطالباً بإعلان حالة الطوارئ في كل البلاد. والبرلمان بذلك القرار يخالف الدستور نصاً وروحاً، وأعضاؤه يدركون ذلك تماماً. أليس من حق الناس وضع ذلك التصرف في خانة الاستهانتة بالمصلحة العامة؟ أما بالنسبة لي، فإن محاولة البرلمان البائسة لدعم قرار الحرب باسم الشعب فهي «المحرية» والمتوقعة من برلمان رجع الصدى!. لذلك كان طبيعياً أن نقرأ في مانشيتات الصحف خبراً يقول «البرلمان يقرُّ الحسم العسكري بولاية النيل الأزرق». وفي ذات السياق، أعلن رئيس البرلمان عن ضرورة عقد جلسة سرية مع الجهات الأمنية لمناقشة وثائق تثبت تورط بعض القوى السياسية مع الحركة الشعبية/ الشمال في الحرب والعمل على تقويض النظام، وبعض هذه القوى نسق عسكرياً مع الحركة «الصحافة، عدد 13 سبتمبر 2011م». وهكذا وبكل بساطة ينصب برلمان الحزب الحاكم نفسه قاضياً على الأحزاب السياسية، متجاهلاً أن الحزب الحاكم بالتحديد هو الشريك الأساسي للحركة الشعبية منذ التوقيع على اتفاق السلام الشامل، وهو الذي ظل يتفاوض معها حول البترول والحدود والمياه، وأشياء أخرى كثيرة، إلا ما يخصُّ سلامة المواطن من أذى نظام لا يتورع عن تفتيش الضمائر بحثاً عن بذرة هوى الحركة الشعبية. ترى، ما هي الحكمة في سرية الجلسة المقترحة؟ هل يعقل يا برلمان جلسة سرية في عصر يطالب فيه الجميع بالشفافية والعلانية؟ ومن من السرية؟ من الشعب؟ عموماً، إذا كان ضمن هذا الشعب من اختار نواب هذا البرلمان، فإن السرية بالنسبة له هي جزاء سنمار. ويا ترى من الذي سينفذ قرارات الجلسة السرية، إذا طلبت أجهزة الأمن أن يكون البرلمان أمامه وليس خلفه؟ فهل سيأتي «نواب الشعب» مع بكاسي الأمن يعتقلون من وقع عليه القرار السري؟ والبرلمان سيلاحق السلطة الرابعة، متربصا بأي عمل صحفي «هدام»! البرلمانات، كما نعرفها، حليفها الأول هو الصحافة، وحريته تتساوى مع حرية الجميع. لكن البرلمان الذي يعين نفسه رقيباً على الكلمة وحرية التعبير بدلاً من أن يكون رقيباً على الحكومة، وعموماً فإن الممارسة السياسية التي تدعي الديمقراطية، لكنها في الحقيقة تهتم بالأشكال والهياكل دون المحتوى لتخفي نواياها الحقيقية ولتكسب النظام شرعية زائفة، هي سيارة مفخخة ستحرق الأخضر واليابس والحي والميت. ورئيس البرلمان لم يكتف بكل ذلك، بل أصدر ستة لاءات، مهما تضاعفت فهي لن ترقى لمستوى الاءات الثلاثة للزعيم الراحل جمال عبد الناصر. فالسياق السياسي مختلف تماما، والزمن السياسي مختلف تماما، والفعل السياسي ايضاً مختلف تماماً. ولاءات عبد الناصر الثلاثة التفت حولها كل الشعوب العربية، في حين لم تجد لاءات رئيس البرلمان الستة أي سند شعبي. وهي لاءات غريبة ودخيلة على الحضارة الانسانية بشكل عام، والحضارة الإسلامية بشكل خاص: لا حوار...لا تفاوض...لا فرصة للوسطاء..لا استرضاء للمتمردين...لا استجابة لدول الشر...لا مساومة. وهذه اللاءات الستة يمكن دمجها بسهولة في لا واحدة، هي لا للسلام في السودان! لقد تعودت الإنقاذ، حكومة وبرلماناً، أن تستلف الشعارات الثورية وتعلنها على رؤوس الأشهاد، وفي نفس الوقت تحتفظ بفعل خاص يعمل عكس هذه الشعارات بشكل صارخ. استلفت شعار الجمهورية الثانية، وهو شعار قديم قدم الثورة الفرنسية، وكان الراحل جون قرنق قد أكسبه حيوية جديدة عندما استخدمه بفكرة أن السودان سيتوحد على أسس جديدة بعد اتفاقية السلام الشامل، ولكن جمهورية الإنقاذ الثانية اوسعت البلاد حرباً وتريد أن تصادر الصحف وتكمم الأفواه وتحل الاحزاب السياسية. والسيناريو الذي تحاول تسويقه الحكومة، هو أن هناك قوى تستهدف تفتيت البلاد، وان التمرد في جنوب النيل الأزرق هو استهداف خارجي، رغم أن الوقائع تؤكد أننا لم نعش الأزمة لحظة اندلاع الحرب، بل لازمنا الإحساس بما يتهدد البلاد من خطر منذ ظهور أوائل عراقيل التحول الديمقراطي، ومشاكسات الشريكين، والأزمة في دارفور، والانتخابات المزورة، والحرب في أبيي، وانتخابات جنوب كردفان التي انتهت بالحرب المستمرة حتى اللحظة. إذن حرب جنوب النيل الأزرق لم تكن نبتاً شيطانياً، ثم أن النباتات الشيطانية استوطنت البلاد بسبب سيطرة الحزب الواحد، ومحاولاته تصوير الصراع في البلاد على أساس القطبية الثنائية، الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني، ويحاسب الآخرين بفكرة مع أو ضد. ومعروف أن طريقة مع أو ضد، وعادة ما أُفضلُ تسميتها بطريقة المصيدة، هي طريقة عقيمة، الغرض منها إغلاق الذهن أمام الأسباب التي تقود معرفتها إلى حل المشكلات القائمة. وأي سوداني يفهم جيداً أن المؤتمر الوطني مأزوم في الشرق وفي الجزيرة وفي السدود، حيث أطراف الصراع ليسوا الحركة الشعبية/ الشمال، وإن المؤتمر الوطني ذاته هو الذي يجر البلاد نحو التفتت والتمزق، وما انفصال الجنوب الذي أُقيمت له المنابر وذبحت له الثيران، ببعيد. فهذا الشعب يريد حلا سياسيا لأزمات البلاد يليق ببلد تعايشت قبائله وعشائره وإثنياته المختلفة، منذ زمن موغل في القدم، وتبارى أبناؤه عمارة دنقس وعبد الله جماع وبادي أبو شلوخ ومحمد أحمد المهدي وإسماعيل الأزهري.... وآخرون، تباروا من اجل الحفاظ على نموذج التعايش السلمي بين مكوناته المختلفة في كيان سوداني واحد. وأعتقد ما من عاقل سوي يمكن أن يرفض الحوار والتفاوض، ويصرُّ على مواصلة الحرب وسفك الدماء، مادام من الممكن أن يفضي ذلك الحوار وذلك التفاوض إلى حل النزاع وإلى مخرج حقيقي للأزمة. فالحوار هو الأصل في التواصل بين البشر، والعالم يعيش عصر الحوار والمفاوضات، سواء بين الأفراد أو المجموعات أو الدول أو الشعوب، وما مختلف جوانب حياتنا في جوهرها، إلا سلسلة من المواقف التفاوضية. وعندما تكون لكل طرف من أطراف النزاع درجة معينة من السلطة والقوة والنفوذ، لكنه في الوقت نفسه ليس لديه كل السلطة أو النفوذ أو القوة الكاملة لإملاء إرادته وفرضها إجباريا على الطرف الآخر، يصبح التفاوض لحل النزاع هو الأسلوب الوحيد المتاح. صحيح أن الحروب هي أحد المسارات المحتملة لتطور النزاعات والخلافات السياسية/ الاجتماعية بين السلطة الحاكمة وهذا الطرف أو ذاك من أطراف الحراك في البلد المعين. لكن الحرب، حتى وإن نجحت في فرض إرادة السلطة وانتصرت بها على الطرف الآخر، فإن هذا الانتصار سيظل مؤقتاً وهشاً وقابلاً للتحول العكسي، ما دامت للطرف الخاسر في الحرب قضية تتعلق بشعوره بالظلم والتهميش من قبل السلطة. وفي هذه الحالة، فإن المخرج الوحيد من الأزمة هو الحوار والتفاوض. أما أن تصرُّ السلطة على مواصلة الحرب، وترفض الاستماع لأية أصوات تنادي بالحوار والتفاوض بينها وبين محكوميها، فإن لهذه السلطة أهدافاً أخرى من الحرب غير موضوع النزاع والخلاف المحدد، ومن الطبيعي أن تكون للآخرين خياراتهم الأخرى في التعامل مع هذه السلطة.