رتب أساتذة قسم علم الحيوان بكلية العلوم في جامعة الخرطوم زيارة دراسية ميدانية لطالبات وطلاب الصف الرابع بالكلية لمحمية الدندر القومية في شهر مارس من هذا العام استغرقت اثني عشر يوماً . شارك في الزيارة ستون طالبة واربعة طلاب وقاد المشروع الدراسي واشرف عليه عدد من أساتذة الكلية . وكانت الزيارة تدريباً لهؤلاء الطلاب والطالبات على تعرف انواع الحيوانات البرية وسلوكها وطريقة عدها وتعرف انواع الطيور المختلفة والنباتات والحشرات والزواحف ودراسة تفاعل هذه الاحياء بعضها مع بعض ومع بيئتها الطبيعية ، وكذلك دراسة هذه البيئة التي تعيش فيها تلك الأحياء لاسيما « الميعات « التي تشرب منها الحيوانات . وعادت الطالبات من رحلتهن العلمية منبهرات مسرورات فرحات مما شاهدن وسمعن وتعلمن في المحمية ، ولكنهن أعربن في ذات الوقت عن قلق شديد على مآل الدندر ومصيرها بسبب المعضلات الكثيرة والتحديات التي تجابهها وتهدد وجودها ، وبسبب التدهور البيئى الشديد الذي اصبح الصفة المائزة للمحمية . وسارعت الطالبات المفعمات بالحماس الى اعداد تقرير شامل بما انتهين اليه من ملاحظات وتنادين من اجل عقد ندوة فكرية متخصصة تتناول بالنقاش والبحث التعريف بالمحمية وبقيمتها العلمية وأهميتها الجمالية السياحية والبيئية، وتنوير الجمهور عموماً وذوي الاهتمام منهم بالشأن العام حتى يستطيعوا حماية هذه الثروة القومية والدفاع عنها . وكان ثمرة جهد الطالبات الذي استمر اسابيع متصلة أن دعون لاجتماع تمهيدي يهيئ الارض للندوة التي سلف ذكرها . فاجتمع في 17 رمضان الموافق 17 أغسطس نفر من المهتمين بأمر المحمية على رأسهم صاحبات المبادرة وعدد من أساتذة قسم علم الحيوان والبيئة منهم دكتور/ تجاني علام ، و دكتور / ضاوي موسى ، ودكتور/ صديق محمد بابكر و الاستاذ / معتصم نمر ، الخبير بالمحمية ، وممثل لادارة الحياة البرية وممثلة لمصلحة الآثار وممثلان لابحاث الحياة البرية وكاتب هذه الكلمة . تداول الاجتماع في المسائل التي قادت الى تدهور حال المحمية ومن أهمها التغييرات المناخية Climate change التي طرأت عليها من جفاف وتصحر وعوامل بيئية أخرى ادت الى الاخلال بالتوازن الطبيعي لنهر الدندر مما أدى بدوره الى الاطماء وانحباس الماء وانغلاق « السقايات « عن « الميعات « التي تشكل شريان الحياة لمعظم الأحياء في غابات الدندر ( الميعة والدندر و التب اسم محلي لبركة الماء او المستنقع او البحيرة ) فجف عدد من الميعات الكبرى واضحى خطر نفوق الحيوانات ماثلاً للعيان . لاحظ دكتور / تجاني علام أستاذ علم البيئة بجامعة الخرطوم ان تغييراً كبيراً قد حدث في نهر الدندر : تآكل من ناحيته الشمالية ، وبداية ردم ناحيته الجنوبية وثمة رمال متحركة من جنوب النهر وأن « خور قلقو « اخذت مياهه تضرب الرمال المتزايدة . وكل هذا بحاجة الى دراسة علمية على جناح السرعة . وتناول النقاش المشكلات الادارية للمحمية وبعض التدخلات المركزية في شأنها ( القوات المسلحة المرابطة في الطابية ) والمحلية ( بعض الولاة والمعتمدين ) واستعرض ايضاً الدور السلبي الذي تؤديه الشركة السياحية الخاصة التي تولت التسويق السياحي للمحمية ، فهي تتقاضى مبالغ طائلة جداًُ من المال من السواح والزوار ولا تقدم في المقابل شيئاً ذا بال اسهاماً منها في تنمية المحمية وتطويرها كالمساهمة في فتح الطرق او دعم ادارة الحياة البرية او البحث العلمي فيها بل اصرت على تقاضي رسوم باهظة حتى من الطالبات الزائرات ومن أساتذتهن دون تقديم خدمات تتناسب وحجم المبالغ المالية التي فرضت على الجميع . وكذلك نما الى علمنا أن وحدة من القوات المسلحة مرابطة في منطقة الطابية في الحدود السودانية الاثيوبية داخل المحمية تقتل الصيد قتلاً ذريعاً وان بعض منسوبيها يعمل في إبادة الشجر وتحويله الى فحم يتاجرون فيه ، ولابد من وضع حد لهذه الممارسة الشائنة لاسيما اذا لم يكن لوزير الدفاع علم بها . وثمة ايضاً بعض الولاة والمعتمدين الذين توجد اجزاء من المحمية في ولاياتهم لا يعرفون للمحمية قيمة سياحية أو علمية - لجهلهم الذي ينبغي ان يستحيوا منه - وصرح بعضهم بأنهم سيوزعون أرض المحمية كلها للمزارعين . وجاء بعضهم الى القائمين على امر المحمية في « القويسي « يهرعون مطالبين بما ظنوا أنه حصة ولاياتهم من تمويل متواضع خصصته الأممالمتحدة لبرنامج تطوير المحمية . مثل هؤلاء المسئولين الذين لا يعرفون قيمة الدندر يشكلون خطراً جديداً ماحقاً على المحمية ما كان معروفاً ضمن قائمة مهددات الدندر ولابد من التعامل مع هؤلاء بحزم . وبحث الاجتماع نشاط مصلحة الآثار التي بشرت بقرب اكتشاف آثار من الحضارة المروية القديمة في المحمية والاثر الايجابي لذلك عليها . وانتهى الاجتماع الى أن يقدم ذوو الاختصاص اوراقاً عملية مكتوبة في بعض القضايا المذكورة آنفاً عند انعقاد الندوة الفكرية التي تقدم ذكرها وأن ترفع مذكرة في ختام الندوة بتوصياتها الى الجهات التنفيذية العليا في الدولة لتنظر فيها وأن يسخر اعلام كثيف للندوة وتوصياتها يمكن الجمهور من الوقوف على قيمة محمية الدندر ودورها في خدمة العلم والسياحة والاقتصاد الوطني . ورأى الاجتماع ان تكون الأوراق على النحو التالي : 1- المشاكل الادارية للمحمية واقتراح الحلول العملية . 2- التنوع الأحيائي . 3- دور السياحة والحفاظ على البيئات الطبيعية في المحمية . 4- ورقة ادارة بحوث الحياة البرية . 5- المحمية والمحيط الحيوي . 6- نشاط مصلحة الآثار في الدندر . وقرر الاجتماع ان تُدعى للندوة كل الجهات ذات الصلة بالمحمية : وزارة السياحة والآثار والحياة البرية ، والغابات ، ولاية سنار والنيل الازرق و القضارف ، شركة « تايقرلاند « السياحية الخاصة ، وزارة الري ، فضلاً عن بعض الشخصيات ذات الاهتمام والمعرفة بمثل هذه القضايا العامة و أن تنعقد الندوة في قاعة الشارقة بجامعة الخرطوم صباح يوم الخميس 22/9/2011م من الساعة التاسعة صباحاً الى الثالثة بعد الظهر . ولكن ما هي محمية الدندر هذه التي حظيت بكل هذا الاهتمام من طالبات قسم ال Zoology بجامعة الخرطوم ؟ الدندر غابات طبيعية وانهار و « ميعات « وبيئات طبيعية للأوابد والنبات والطير والزواحف والحشرات ، أنشئت عام 1935م بموجب قانون المحميات الطبيعية في مؤتمر انشاء المحميات الطبيعية في لندن . هي ارض حرام يحرم فيها قتل الصيد وقطع النبات الا لأغراض البحث العلمي وتحفظ هكذا لمتعة الانسان سياحة ولاكتسابه علماً نافعاً عن طريق ابحاث علم الحيوان و النبات والطير وغيرها . موقع المحمية جنوب شرق السودان ، معظمها في ولاية سنار وجزء منها في ولاية النيل الازرق وقليل منها في ولاية القضارف وهي تبعد 520 (خمسمائة وعشرون كيلو متر) من الخرطوم . وتبعد مدينة الدندر ( القويسي ) 98 ميلاً من مخيم السياحة وادارة الحياة البرية في « قلقو « داخل المحمية التي يخترقها نهرا الدندر والرهد وتتميز بظاهرة الميعات التي هي المصدر الرئيسي للماء للحيوان في فصل الصيف الجاف . ولقد زيدت مساحة المحمية عام 1978م بحيث اصبحت مساحتها الآن عشرة ألف كيلومتر مربع تعادل 4000 ميلاً مربعاً تقريباً وهي تشكل بهذه التوسعة نسقاً بيئياً متكاملاً ecosystem يشمل مصيف الحيوانات في الغابة وحول الميعات ومخرفها في النواحي الشمالية للمحمية في « الضهرة « وهذا أحسن تطور حدث للمحمية منذ انشائها . من أنواع الحيوان الموجود في غابات الدندر : الأسود والجاموس و الأفيال و الفهود والضباع والزراف و السمع والحلوف وانواع عديدة من القطط الوحشية والقردة . وهناك اصناف الغزلان و الظباء : أبو عرف ، الكتمبور ، البشمات ، التيتل ، أبو نباح ، غزال سنجة ، النلت أم تقدم وعشرات الانواع غيرها . ومن ضروب الطير هناك الجوارح والكواسر كالنسور والصقور والعقبان والنعام والحبار وصقر الجديان و الغرنوق والطير الخداري « وجداد الوادي « و الاوزين والبجع والرهو ومئات الانواع غيرها . ومن الزواحف الثعابين « كالكوبرا « و الأصلة والتماسيح والأورال والسلاحف . معظم الحيوانات الكبرى لاسيما ما يعرف بال Iconic animals التي يحبها السواح حباً جما والتي اشرنا اليها تهاجر لأول الخريف شمالاً الى « الضهرة - الاراضي الرملية او الصخرية- المنبسطة وهي أقل كثافة من الغابات والحشائش الطويلة حيث تقضي موسم الامطار هرباً من الغابات الطينية التربة ذات الاوحال والحشائش العالية الكثيفة والناموس والذباب والبعوض والحشرات الضارة الاخرى . ثم تعود هذه الحيوانات - وقد أطفلت في « الضهرة « - بصغارها حديثي المولد في رحلة ثانية بعد انقضاء فصل الخريف وجفاف ماء الامطار في شهر نوفمبر الى غابات الدندر وميعاتها حيث تقضي موسم الصيف الجاف . وهذه الرحلة أمر غريزي عند بعض هذه الحيوانات قد تنفق اذا حبسها حابس. ان مشهد قطعان حيوانات الدندر مهاجرة نحو شمال المحمية بالألوف او مستقرة بالقرب من مياه « الميعة او التب « صيفاً لمن المشاهد التي ألهمت الشعراء مرهفي الاحساس بالجمال كالحردلو في وصفه لهجرة الصيد في مسدار الصيد : الشم خوخت بردن ليالي الحرة .... والبراق برق من مينة جاب القرة شوف عينى الصقير بجناحه كفت الفرة .... تلقاها ام خدود ( الغزال ) الليلة مرقت برة وجذبت المحمية بعض علماء البيئة والاكاديميين لاجراء البحوث للماجستير والدكتوراه وعشرات بحوث التخرج والاوراق العلمية . ولما كان للدولة شئ من الاهتمام بالحياة البرية في الستينيات والسبعينيات فقد تعاقدت مع عدد من الخبراء الذين اعدوا تقارير مفيدة عن المحمية منهم Holsworth , Frazer and Dasmann . وكتب عن الدندر ايضاً C.Thomson استاذ علم الحيوان بجامعة الخرطوم في منتصف الستينيات ورقته التي سماها : Little known Dinder ويسعد المرء ان يلاحظ ان المجتمع المدني آخذ في الاهتمام بالدندر وقضاياها المعقدة وبمحمية « الردوم « ايضاً في جنوب دارفور وبقضايا البيئة عموماً في البلاد ، وأخص بالذكر « المجلس الاعلى لشئون البيئة والموارد الطبيعية « الذي ساهم في اعداد كتاب « مشروع ادارة الدندر « لعام 2004م . إن من مشاكل الدندر الكلاسيكية المزمنة التي استعصت على الحلول منذ ستينيات القرن الماضي الى اليوم : الصيد غير المشروع Poaching وتدمير البيئات الطبيعية للحيوانات بالزراعة الآلية داخل حدود المحمية الشمالية و « الفحامة والعسالة « اولئك الذين يقطعون الاشجار ويحرقونها طلباً للفحم للمتاجرة به ، واولئك الذين من أجل الحصول على العسل يشعلون النيران والدخان لطرد النحل واشتيار العسل فتسري النار في الغابة فتأتي على الأخضر واليابس . والمحمية معرضة ايضاً لأخطار اصحاب قطعان البقر والابل والأغنام الذين لايكترثون لقوانين حمايتها فيدخلون قطعانهم تنافس الحيوانات البرية مرعاها وتنقل اليها امراضها احياناً . هذا فضلاً عن المهددات الاخرى للمحمية التي عرضنا لها آنفاً واهمها تغيير المناخ . ان مبادرة طالبات جامعة الخرطوم تحاول لفت انظار السلطات التنفيذية ذات الصلة والجمهور عموماً والقيادة العليا للدولة الى الاخطار المحدقة بمحمية الدندر لكي تضطلع كل جهة بمسئوليتها حماية للدندر وحفظاً لها لتظل ابداً متنفساً ومنتجعاً سياحياً ومختبراً علمياً لدراسة الحيوان والنبات والطير . « وما من دابة في الأرض أو طائر يطير بجناحيه الا أمم امثالكم « « سورة الانعام ( 38 ) فهل تنهض الحكومة و الدولة وجماهير الشعب الى مستواهن ؟