هنالك قصة لا تخلو من الطرافة يعود تاريخها الى السنوات الاولى من عهد الفريق عبود في بدايات النصف الثاني من القرن الماضي . كان السيد محمود احمد عبد الله يشغل آنذاك منصب مدير مصلحة الجيولوجيا ، وكان مهموماً بالتنقيب عن البترول والثروات المعدنية ، تدفعه في هذا الاتجاه نظرة وطنية ثاقبة وسابقة لعصرها ، فقد أدرك الرجل قبل غيره أهمية هذه الثروات في تطويرالموارد الزراعية الهائلة التي حبا بها الله هذه البلاد . وفي ذات يوم من تلك الأيام حملت المعلومات له ظهور بقعة زيتية كبيرة في منطقة شمال دارفور ، فاستبشر الرجل خيراً وسارع هو وفنيو مصلحته صوب تلك المنطقة إلا أن حلمهم سرعان ما تبخر ، فبعد مجهود قليل من الحفر السطحي إتضح أن بقعة النفط ما هي إلا مخزون ضخم من صفائح الوقود التي طمرتها حكومة الانجليز كمخبأ سري داخل الأرض بغرض إمداد الوقود لجيوش الحلفاء بقيادة الجنرال مونتجمري التي تقاتل في شمال أفريقيا وفي الكفرة والعلمين ضد قوات المحور الالمانية بقيادة المارشال رومل إبان الحرب العالمية الثانية . وبعد أن تكشف الأمر وتبخر الحلم إلتفت السيد علي أبو سن وكان يشغل وقتها منصب مدير مديرية دارفور نحو مدير الجيلوجيا وهو يقول ضاحكاً : (مبروك يا سيد محمود .. تراهو البترول جانا جاهز ومعبأ .. بي علبو وصفايحو ) . هذه القصة على ما فيها من طرافة تؤكد أن (الحلم البترولي) كان حاضراً في وجدان أهل السودان منذ سنوات الاستقلال الباكرة، وذلك بحسبان أن هذه الموارد البترولية والمعدنية تشكل دفعاً قوياً لنماء وتطوير البلاد . ولقد أراد الله خيراً بهذه البلاد حين تحقق هذا الحلم القديم المزمن على عهد الإنقاذ في خواتيم القرن الماضى، إلا أنه سرعان ما تبعثر بفعل رياح السياسة فكان أن مضى الجنوب لحال سبيله وهو يحمل في حقائبه معظم بترول السودان، وهكذا عدنا نجتر من جديد الأحلام القديمة. إن المواطن العادي في مثل هذه الأيام المثقلة بأوجاع الحياة اليومية ومعاناتها بات ينظر بريبة وتشكك تجاه التصريحات التي تزحم الآفاق والتي يطلقها كبار التنفيذيين حول الثروات البترولية والمعدنية المزمع إكتشافها في البلاد، فهذا المواطن أدرك بتراكم خبرته بأهل السياسة أن مثل هذه الوعود ما هي إلا أضغاث أحلام، الغرض من بثها تسكين آلام معاناته اليومية حتى يتلهى بهذه الأحلام عن الواقع المفزع الذى يكابده، وما من سبيل ليصدق هذه الآمال إلا أن يتحسس البترول المكتشف بيديه ويرى بريق الذهب والأحجار الكريمة بعينيه. وحتى وإن حدث هذا فهو غير كاف في نظره ليطمئن فهو قد عايش في السنوات الماضية البترول كحقيقة دون أن يحظى بالرفاه أو حتى الكفاف. إن المواطن معذور في ريبته وتشككه تجاه التصريحات الوردية التي يتطوع بها التنفيذيون في الوزارات المختصة ومن بينها وزارة المعادن .. تصريحات من شاكلة : (إكتشاف كميات كبيرة من الفوسفات بولاية البحر الاحمر وجنوب كردفان والولايات الشمالية ... مذكرة تفاهم بين وزارة المعادن ودول جنوب افريقيا وتنزانيا واثيوبيا للتنقيب عن الأحجار الكريمة ... إكتشاف كميات كبيرة من الذهب والثروات المعدنية بولايات دارفور ... اكتشاف مخزون ضخم من البوتاسيوم بشمال الخرطوم تقدر كميته ب 90 مليون طن وأن هذا الاكتشاف سيسهم في تمزيق فاتورةالأسمدة). لقد شبع هذا الشعب من اسطوانة تمزيق الفواتير، بدءاً من تمزيق فاتورة القمح وفاتورة السكر وفاتورة الدواء وفاتورة المنسوجات والأقمشة، وآخر الأمر ما تمزق شيء سوى لحم المواطن وعافيته وظلت الفواتير على حالها، بل تزداد يوماً بعد يوم. لقد اعتاد المواطن وفهم أن مثل هذه التصريحات الوردية لا تصدر إلا في أوقات (الزنقة) وبالتالي باتت في نظره نذير شؤم لأيام قاسية قادمة في الطريق، لذلك لا عجب أن يتوجس ويتطير منها، خصوصاً وأن تباشيرها باتت تضرب أسباب عيشه بقسوة بالغة، فرطل اللبن بلغ الجنيهين وكيلو اللحم فاق الثلاثين جنيها وزيت الطعام أوشك الناس أن يشترونه ب (الحقنة) وطلب الفول الواحد في المطاعم الشعبية هو الآخر أوشك أن يبيعونه بالحبة الواحدة، والطماطم الذى دوماً ما يسعف موائد الفقراء باتت أسعاره تفوق أسعار التفاح الامريكي. هذا المواطن لن يطفيء ظمأه البترول الموعود في سماوات الغيب، ولن يأكل الأحجار الكريمة والذهب والكروم والبوتاسيوم الذي يصبرونه به، هو يتطلع فقط الى جرعة ماء نظيفة تأتيه عبر المواسير وإلى كسرة خبز يسد بها رمق أطفاله ولا شيء أكثر من هذا. ومن الإنصاف أن نقول أن الحكومة الحالية ليست هى أول من إبتدر هذا الأمر .. أمر إلهاء الناس بالوعود وأنصاف الحقائق بشأن الثروات البترولية والمعدنية فقد سبقهم في هذا الأمر وبرع فيه النظام المايوي السابق ورئيسه الراحل جعفر نميري، فعلى عهده في منتصف السبعينات تطاول حلم الرفاه البترولي وتضخم مع بدايات التنقيب الذي كانت تقوم به شركة شيفرون الامريكية حتى راجت يومها نكتة مفادها أن السودانيين سيستبدلون العمم بالعقالات . وبعد أن تبعثر الحلم البترولي وتعثر وضاقت الأمور المعيشية بالناس في أواخر العهد المايوي راح إعلام النظام يدغدغ آمال المواطنين بأسطوانة جديدة إسمها (كنز البحر الأحمر) ، وراحوا يصورنوه كأنه كنوز سيدنا سليمان وأفاضوا عن شراكة سودانية سعودية لإقتسام هذا الكنز، وأخيراً تمخض الكنز فولد فأراً ومازال الكنز المزعوم الى يومنا هذا يرقد بسلام تحت أمواج المالح . لقد أهدرنا جزءًا غير يسير من الأموال الطائلة و(البحبوحة) النقدية التي جنيناها من العقد البترولي الذي دام لقرابة العشر سنوات، وهي (بحبوحة) نعمت بخيرها خزانة الحكومة ولم ينعم بها المواطن. صحيح أن قدرا معلوما ومقدرا من تلك الأموال تم توظيفه في مشاريع البنى التحتية من طرق وسدود وكباري وغيرها إلا أن السمة العامة للإنفاق الحكومي في تلك الفترة كان طابعها الصرف البذخي غير المرشد ، تماماً كحال رجل فقير بائس هبطت عليه فجأة ثروة مهولة فراح يتصرف وينفق مثل (ود أب زهانة) كما يقول تراثنا الشعبي، ففتحنا باب الاستيراد على مصراعيه لكافة السلع ،الضروري منها والمترف، بدءاً من العربات بمختلف موديلاتها ومنشأ تصنيعها .. الياباني والكوري والاوربي والامريكي وحتى الصيني والإيراني، وأكاد أجزم بأن عربة (الهامر) الفاخرة كانت تتهادى في طرقات الخرطوم قبل أن تعرفها حتى بعض العواصم الخليجية، وباتت شوارع العاصمة عاجزة تماماً عن إستيعاب هذه الوحوش الميكانيكية التي تهدر موتوراتها وترفع من حرارة الطقس وتوتر أعصاب كل من يغامر بالسواقة في نهارات الخرطوم القائظة. وبلغ أمر حركة المرور حالة عصيبة دفعت والي الخرطوم إلى التفاوض مع شركة أجنبية لحفر أنفاق تحت الأرض للمرور وبتكلفة مالية ضخمة، وصار يطلق المثل القائل «سخرة وخم تراب»، ومضت أسواقنا تحتشد بفواكه لا يعرف الفقراء لها اسماً أو طعماً مثل الكيوي والدراق والمشمش والخوخ والبرقوق والنبق الفارسي والفستق الايراني، وراح المسؤولون يتبارون في تجديد سياراتهم وأثاث مكاتبهم حتى باتت المكاتب والتي تم بناؤها من جديد على شكل أبراج عالية وشديدة الفخامة وكأنها فنادق الخمس نجوم . بإختصار أُصيبت بلادنا وأُصيب اقتصادنا بما يتعارف الاقتصاديون على تسميته بلعنة الموارد وهي مرض اقتصادي ينجم من اعتماد الدولة على مورد أولي مآله آخر الأمر الى النضوب دون الإلتفات الى توظيفه لتطوير الموارد الدائمة مثل الزراعة والثروة الحيوانية والتصنيع الزراعي واستخراج بقية الثروات المعدنية. غلبت السكرة وغابت الفكرة طوال سنوات النشوة البترولية واليوم بعد أن ذهب الجنوب ببتروله غابت السكرة ولكن الفكرة ما زالت غائبة تتأرجح ما بين الواقع الصعب والآمال والأمنيات السرابية. وإذا تأملنا في تجارب الآخرين من دول الجوار الإقليمى لربما وجدنا القدوة الحسنة، فدولة مثل السعودية استطاعت استثمار ثرواتها البترولية الوفيرة في النهوض بالاحتياجات الأساسية لشعبها وللملايين التي تعيش في كنفها، فقبل عامين أعلنت حكومة المملكة أنها حققت الإكتفاء الذاتي تماماً من سلع القمح والألبان والبيض والدواجن، واستطاعت كذلك الإكتفاء بما يقارب ال 90 % من إنتاج الخضروات والفواكه ، كل هذا رغم مواردها الشحيحة في المياه والاراضي الخصبة والثروة الحيوانية، على عكس الوفرة التي تنعم بها بلادنا في هذه الموارد . كل هذه الفطنة الاقتصادية غابت عن بصيرتنا السياسية وظللنا ننفق وننفق في بذخ كأن آبار البترول لا تنضب وكأن الجنوب باق في أيدينا وكأن السياسة لا يعتكر طقسها وتغضب. إن آخر الإحصاءات تقول إن معظم الكتلة النقدية في بلادنا هى داخل ولاية الخرطوم بينما معظم مواردنا الطبيعية إن لم يكن كلها في ولايات السودان بعيداً عن المركز، وما لم تهاجر هذه الأموال صوب هذه الموارد لاستثمارها وتطويرها ونمائها يظل حالنا الاقتصادي يمشي في عرج الى أن يقعده الكساح. إن محاولة تنويم المواطن بالآمال والأمنيات، وبوعود السموات وبواطن الأرض التي ستمطر وتثمر ذهباً وفضة يظل أمراً غير مجد ما لم يسبق الفعل فيه القول، وما لم يحس آثاره المواطن في رخاء عيشه. ومثلما بدأنا هذا الحديث بقصة فلنختمه بقصة أخرى، ففى حقبة الستينات وخلال العهد الديمقراطي الثاني إلتقيت ذات يوم من تلك الأيام بالأخ عز الدين السيد وكان يشغل منصب وزير الطاقة والتعدين ممثلاً للحزب الاتحادى الديمقراطى فوجدته حائراً من موقف الرئيس الازهرى حين نقل له بوصفه وزيراً للتعدين رغبة الأممالمتحدة في التنقيب عن البترول بجنوب السودان، إذ كان رد الرئيس الأزهرى أنه يرى من الأفضل أن يتم التنقيب في الشمال بدلاً عن الجنوب . بادرت بالإتصال بالرئيس الازهرى علني أقف على تفسير لهذا الأمر، وبالفعل قدم لى تفسيراً بعد أن أفهمني أن الحديث ليس للنشر (أنشره اليوم لأبين الحكمة التى أوجبته) ، قال الزعيم الأزهري : (إن خروج البترول في الجنوب تحت ظل مناخ الحرب والقتال وانعدام الثقة سيقدم الجنوب على طبق من ذهب لدعاة الانفصال بمؤازرة ودعم من الدول الغربية، لذلك من الأنسب تطوير موارد الشمال حتى تسهم في الإرتقاء بالجنوب وبتطويره ما يرمم الثقة المفقودة بين الشمال والجنوب). هكذا كان الأزهري ثاقب البصر إذ أثبتت أيامنا المعاصرة أن البترول كان مهر الانفصال ومؤخر صداقه. وليتنا نتحسب من درس الجنوب فحديث الآمال والأمنيات عن ثروات دارفور النفطية والمعدنية، وهو حديث ما زالت مصداقيته العلمية قيد البحث العلمي، سيتم استثماره في رفع وتيرة التشدد وتعلية السقوف المطلبية بلا حدود دون أن يجني أهل السودان وأهل دارفور أية مكاسب على أرض الواقع.