من الملاحظ بل والمؤكد أن أزمة الجنوب كانت دوماً الحيثية الحاضرة فى كل محطات التغيير السياسى التى شهدها تاريخنا المعاصر ، ف ( الجنوب ) كان أبرز الاجندة التى أفضت الى إندلاع ثورة اكتوبر 64 ، وكان من أول المبررات لقيام إنقلاب 25 مايو 69 ، وكان حاضراً فى حيثيات الانتفاضة فى ابريل 85 ، وأخيراً فى إنقلاب الانقاذ فى يونيو 89 حين ركز قادته على تدهور الاوضاع فى الجنوب وأن التمرد بات يتقدم ولأول مرة بخطى متسارعة نحو الشمال . هذا التواجد الدائم للجنوب فى صدارة الهم القومى كان سرعان ما يتراجع ويتلاشى متى ما تمّ تجاوز مخاض الانتقال ، حيث ظلت كافة الانظمة العسكرية والمدنية التى توالت على البلاد تعتمد نهجاً رتيباً واحداً فى التعامل مع الازمة .. نهج قوامه الحلول الأمنية والعسكرية الى جانب بعض الإجتهاد الهامشى فى فتح القليل من قنوات الحوار . وعندما أمسكت الانقاذ بزمام الحكم فى البلاد لم تحتاج الى كثير عناء فى إدارة ملف الازمة عبر النهج الامنى والعسكرى المتشدد بحيث يتحقق الإنسجام مع خطابها السياسى الذى بشرت به من يومها الاول ، فهى قد عابت على النظام المدنى الذى إنقلبت عليه تراخيه وتساهله مع التمرد وإهماله فى تسليح القوات المسلحة ، وانتقدت ما أسمته تهافت الحكومات المدنية والاحزاب السياسية على موائد التفاوض ، وظل إعلام الجبهة القومية الاسلامية ( المدبر الحقيقى للإنقلاب ) يتهم الحكم المدنى بالشروع فى مقايضة تشريعات القوانين الاسلامية بالسلام فى الجنوب . إلا أن الانقاذ ومن ورائها الحركة الاسلامية أدركت ومنذ أول أيامها فى الحكم أن التغيير واستلام السلطة ليس كافياً لإنجاز التطلعات السياسية ، فالإمساك بالسلطة فى وطن بأكمله يختلف عن إدارة حزب أو حركة دينية تلتزم عضويتها بفقه الطاعة والإمتثال . هذا الانتقال الحاد من إدارة حركة الى إدارة دولة وإدارة وطن دفع الانقاذ وقياداتها الحزبية المستترة الى إعتماد منهج ( الجراحة ) فى جسد المجتمع السودانى بأكمله على أمل أن يصبح هذا المجتمع فى ذات الامتثال والطاعة التى تنتظم الحركة الاسلامية .هذا الفهم (الوصائى) يعده المراقبون بداية الإخفاق الانقاذى فى إدارة الدولة فى تلك الايام الاولى ، إذ من الصعب على أى حزب مهما بلغت سطوته الفكرية أن يعيد صياغة المجتمع والناس وفقاً لرؤيته العقائدية ، خصوصاً بالنسبة لشعب مثل الشعب السودانى الذى يفاخر بالإستنارة السياسية وتتعدد وتتنوع إنتماءاته الفكرية والمذهبية والعرقية . هذا الفهم الوصائى لإعادة صياغة المجتمع كان أول متطلباته الجراحية إعمال فقه التمكين ، فكانت سياسات الإحالة للصالح العام التى جعلت من إدارة الدولة ملكاً حزبياً خالصاً يستند على فلسفة تقول بأن ( من ليس معنا فهو قطعاً ضدنا ) ، مما قلل من رصيد الاستقطاب والكسب السياسى للإنقاذ . وعلى صعيد الجنوب راحت الإنقاذ تبحث عن عقيدة قتالية جديدة تخوض بها نزالها فى الجنوب فلم تسعفها سوى آيديولوجيتها الدينية الجهادية ، فمع شح الموارد المالية وسياسات العزلة والإنغلاق عن العالم ومع الفواتير الباهظة للقتال لم تجد الانقاذ سوى تلك العقيدة الجهادية فراحت تعمل على تجييش وعسكرة المجتمع بأكمله خاصة الشباب والطلاب منه وتسوقه نحو مسارح العمليات فى الجنوب عبر حملة تعبوية دينية لم يشهدها الوطن من قبل . هذه الحملة ورغم مردودها الايجابى فى التصدى الميدانى للتمرد ومحاصرة تقدمه إلا أنها أتت بنتائج مستقبلية سالبة إذ منحت التمرد فرصة العمر فى إستقطاب أكبر دعم غربى يحلم به ، ليس من قبل الحكومات فحسب بل من كافة قوى المجتمع المدنى العالمى ، وبالتالى قدمت له - وعلى طبق من ذهب - مشروعية إعلاء سقفه المطلبى الى مراقى الانفصال . عن تلك المرحلة من بواكير عمر الانقاذ وعلى عهد عرابها الاول الدكتور حسن الترابى كتب الدكتور منصور خالد ناقداً يقول : ( أقامت الجبهة فى السودان - متعدد الديانات - دولة دينية وجعلت من الحرب الاهلية جهاداً فى سبيل الله ، ونصّب الترابى من نفسه مأذوناً سماوياً ، ما مات واحد من الأيفاع الذين يُزج بهم فى أتون المعارك إلا وانكفأ الترابى الى دار أهله لا ليشاطرهم الاحزان فى فقدهم وإنما ليحتفى بما يسميه « عرس الشهيد « الذى عرجت روحه الى السماء وتفتق المسك من دمه المسفوح ) . فى تلك الأجواء من العزلة السياسية واعتماد الاطروحة الجهادية سبيلاً أوحد للتعاطى مع أزمة الجنوب نشبت حرب الخليج الثانية عندما أقدم صدام حسين على غزو الكويت ، وكانت تداعيات هذه الحرب من أقسى الاختبارات التى تعرضت لها السياسة الخارجية على عهد الإنقاذ ، فقد إنساقت الانقاذ وراء عواطفها واشواق مشروعها الاسلامى ، وهى ترى صدام يقصف اسرائيل بقنابل هزيلة أرادها ستاراً يدارى به عدوانه على دولة الكويت ، فمضت الانقاذ فى ركابه غير عابئة بالتوازنات السياسية على المسرح الاقليمى مما أحكم العزلة عليها ، فقد ضاقت الدائرة من الاطار الدولى الى الإطار العربى وأصبح السودان بلا نصير يُعتمد عليه في الساحة الدولية اللهم إلا من بعض التنظيمات الاصولية التى تزيد من حرج النظام أكثر مما تعين . إزاء هذا التحدى تفتق ذهن قائد النظام وقتها الدكتور الترابى عن مشروع من ثلاثة محاور لكسر طوق هذه العزلة ، أولها المضى أكثر فى النهج الجهادى وتفويج الشباب نحو مسارح العمليات ثم الاتجاه الجاد فى التنقيب عن البترول للخروج من الضائقة الاقتصادية الخانقة التى إزدادت حدتها بسبب فواتير الحرب وتوقف الدعم العربى ، وأخيراً تفعيل التوجه الاقتصادى نحو الزراعة وذلك بالتحرر التام من ثوابت الاقتصاد الزراعى الموروث منذ عهد الانجليز والمتمثل فى الاعتماد على القطن كمحصول نقدى أساسى ، واستبداله بالقمح رغم ما فى هذه الخطوة من مخاطرة جسيمة لم يبرأ منها الاقتصاد الى يومنا هذا . لا يختلف اثنان على أن إكتشاف البترول واستخراجه فى ظروف العزلة والحصار الاقتصادى الخانق يعد من أبرز إنجازات الانقاذ رغم انه لا يخلو من المخاطر المستقبلية، فقد أسهم العائد النقدى للنفط فى الحفاظ على التوازن أو ربما التفوق للسلطة المركزية فى صراعها مع التمرد المدعوم مادياً وعسكرياً ومعنوياً من قبل المجتمع الدولى ، وبالتالى تأتى لها عبر هذا التفوق إرغامه وجره الى موائد التفاوض ، كذلك أسهم البترول فى تمكين الدولة من النهوض إلى حد ما بالبنية التحتية عبر مشاريع متسارعة للنهوض بالطرق والسدود والجسور ومشاريع الكهرباء والمياه وغيرها ، وفوق هذا إستطاعت أموال النفط أن تعيد بعض العافية والإتزان للاقتصاد السودانى وأبرز ملامح تلك العافية تمثلت فى ثبات واستقرار سعر صرف الجنيه خلال السنوات الاولى من هذه الألفية بعد أن قفز هذا السعر بمعدلات مخيفة خلال السنوات العشر الاوائل من عمر الانقاذ ، لكن رغم كل هذه المكاسب التى جنتها الدولة إلا أن المواطن البسيط لم يهنأ بطعم هذا الرخاء البترولى فى معاشه اليومى ولم يحسه فى لقمة طعامه أو قطعة كسائه أو جرعة دوائه أو حتى فى بقية إحتياجه اليومى المتواضع ... كل هذا بسبب غياب التوظيف الأمثل لهذه العائدات وتفشى الصرف البذخى والانفاق الحكومى غير المرشد ، وكأن الحكومة أصابتها تخمة النفط فلم تتأسَ بالقول المعروف ( القرش الابيض لليوم الاسود ) . وفوق هذا كله - وهو الاهم ونحن بصدد شأن الجنوب - فقد لعب إكتشاف البترول دوراً حيوياً فى رفع سقف تطلعات حركة التمرد وأوصل هذا السقف الى مشارف الانفصال ، تماماً كما فعلت الاطروحة الجهادية والتى أشرنا لدورها فى الاسطر الماضية . فالجنوب قبل اكتشاف البترول لم يكن يملك أدنى المقومات الاقتصادية لقيام دولة الانفصال وظل منذ الاستقلال يمثل عبئاً ثقيلاً على الخزينة المركزية ، أما الآن فقد تغير الحال وتضخمت التطلعات وسال لعاب النخب المتنفذة فى الجنوب وهى تمنى النفس بمليارات الجنيهات من النقد البترودولارى خصوصاً تحت ظل غيبة الشفافية فى حكومة الجنوب والتواجد الدائم لشرعية البندقية . لقد أهدرت الإنقاذ وقتاً ثميناً ليتبين لها عقم النهج الجهادى ، صحيح أن هذا النهج التعبوى عمل على تقوية موقفها العسكرى فى الميدان وساعد كما قلنا فى جر التمرد الى طاولات المفاوضات المتعددة فى دول الجوار وغيرها ... فى اديس ابابا (اغسطس 89 ) ونيروبى ( ديسمبر 89 ) وفرانكفورت ( يناير92 ) وابوجا الاولى ( مايو 92 ) وابوجا الثانية (ابريل 93 ) ومشاكوس (يوليو 2002 ) وأخيراً نيفاشا (2005 )، إلا أن كل الشواهد والتجارب المتكررة أثبتت أن تلك الأزمة لا يمكن أن تُحسم أو تُحل عبر المعالجات العسكرية ، واتضح أخيراً لقادة الانقاذ - خصوصاً بعد المفاصلة الشهيرة - أن الاسلوب التعبوى الجهادى أكسب التمرد مشروعية الطرح الانفصالى وفاقم من العزلة المفروضة على البلاد . لكل هذه الحيثيات رأت الإنقاذ أن تنتقل بسياساتها من خانة الجهاد الى خانة الإجتهاد المضنى فى البحث عن السلام عبر موائد التفاوض . ومن اللافت للنظر ونحن نتتبع تداعيات أزمة الجنوب على حقب الحكم المختلفة التى مرت على بلادنا منذ الاستقلال ، أن النخب الحاكمة والمعارضة فى الشمال ظلت تتعامل مع هذه الأزمة وتوظفها كورقة سياسية وكروت ضغط فى الصراع على السلطة المركزية فى الخرطوم ،فما كان يُرفض تحت ظل السلطة يتم قبوله لحظة توارى السلطة والإنتقال الى المعارضة . هذا النهج العبثى فى توظيف أزمة الجنوب لخدمة التطلعات السياسية نراه واضحاً وبائناً فى كثير من محطات تاريخنا السياسى ، فعقب مايو 69 راح تنظيم الجبهة الوطنية المعارض لمايو (والذى تشكل من تحالف الاتحاديين (الشريف حسين) وحزب الامة بقيادة الصادق المهدى الى جانب (الاسلاميين ) يحاول أن ينسج خيوط تحالف مع صقور الانفصاليين الجنوبيين أمثال قوردون مورتات وجوزيف ادوهو ، ثم تكرر ذات السيناريو العبثى بعد عقدين من الزمان عقب إنقضاض الإنقاذ على الديمقراطية الثالثة حين وثقت فصائل المعارضة الشمالية عبر تنظيم التجمع الوطنى الديمقراطى تحالفها مع قوى التمرد بقيادة الراحل جون قرنق ، والذى تجلت أبرز صوره فى مؤتمر القضايا المصيرية باسمرا والذى إلتزمت فيه كافة مكونات المعارضة الشمالية بحق تقرير المصير للجنوب ، وكثيراً مايقفز الى ذهنى سؤال إفتراضى : هل لو نجحت المعارضة الشمالية عبر تحالفها مع قرنق فى الإطاحة بنظام الإنقاذ واستلم قادتها مقاليد الحكم فى الخرطوم ... هل سيمضون فى وعودهم المبرمة بشأن حق تقرير المصير أم أن وعود المنافى ستطير وتتبخر لحظة الوصول للسلطة ؟ ! أيضاً من نماذج النهج العبثى فى توظيف أزمة الجنوب فى الصراع على السلطة فى الشمال ذاك الاتفاق الذي سمى بمذكرة التفاهم الذى أبرمه حزب المؤتمر الشعبى (عقب المفاصلة) مع الحركة الشعبية فى جنيف (فبراير 2001 ) ، والذى يدعو الى تصعيد المقاومة الشعبية لنظام الانقاذ وضرورة التوصل الى نظام ديمقراطى وفي هذا اشارة وضحة إلى موضوع الدولة الدينية التي كانت تنادي بها الحركة الاسلامية بقيادة الترابي. وكذلك تسوية سلمية لكافة مشاكل السودان ! ويبدو أن هذا النهج العبثى قد إنتقلت عدواه من النخب الشمالية الى النخب الجنوبية فكان من الغريب أن يسارع صقور الانفصال داخل الحركة مثل مجموعة الناصر التى تضم ريك مشار ولام اكول الى إبرام العديد من الاتفاقات مع الخرطوم على خلفية صراعهم مع قرنق حول زعامة وقيادة الحركة (اتفاقية الخرطوم للسلام واتفاقية فشودة 97 ). هذه النماذج العبثية فى استخدام ورقة الجنوب فى الصراع على السلطة ربما يعبر عنها قول ينسب للصادق المهدى مفاده ( لقد حملت المعارضة قرنق على أكتافها بينما حملت الحكومة لام اكول ومشار ليتلاعب الطرفان على رؤوسنا ) . بعد كل هذا السرد والترصد لمسار الحكم فى بلادنا على ضوء تداعيات أزمة الجنوب ، منذ مؤتمر جوبا (1947) وحتى نيفاشا (2005 ) يمكننا القول بأن السلام المر الذى حصدناه عقب إتفاق السلام الاخير يأتى منطقياً ومتسقاً مع محطات الإخفاق المتوالية التى تراكمت عبر مختلف الحقب ، وأن خيار الانفصال كان مثل طلقة أُطلقت قبل ما يقارب القرن من الزمان لتصيب الهدف فى أيامنا هذى ... طلقة لم تتربص بنا بقدر ما تربصنا نحن بمسارها ، ولم نبذل أدنى جهد فى الإبتعاد عنها ! في الأسبوع القادم سنتحدث عن المقترح المصري الذي طرحه الرئيس السابق حسني مبارك على قائد الحركة الشعبية جون قرنق والخاص بقيام نظام كنفدرالي بين شطري الوطن، وكيف استقبلناه نحن بالرفض، وقلنا صراحة اننا لا نقبل دولة واحدة برأسين، ولكننا في نهاية قبلنا دولة واحدة بجيشين وحكومتين. وكذلك تمثيل خارجي شبه مزدوج في كثير من العواصم العالمية الهامة والتي كثيراً ما كانت كلمة الحركة الشعبية فيها هي المسموعة. وتلك هي أمور نحتاج إلى المزيد من الايضاح، وهذا ما سنحاول الاجابة عنه في الحلقة القادمة؟؟