٭ ترتبط الهوية ارتباطاً وثيقاً بنشأة الدولة القومية والوطنية الحديثة، ومن هنا كان من المهام الاولى التي ينبغي على القيادات السياسية القيام بها بعد الاستقلال في بلد متعدد ومتداخل الاعراق ومتنوع الثقافات كالسودان هى حل إشكالية الهوية، وجعلها في مقدمة اهتماماتها بعد أن تولت مقاليد الحكم في عام 6591م، وان تعمل بالتنسيق مع نخب المفكرين والمثقفين والمبدعين والاكاديميين والعلماء على بلورة صياغة هوية جامعة لكل السودانيين من واقع الثقافات المتعددة والمتنوعة والتجربة التاريخية للاعراق والقوميات والجماعات المختلفة التي تقطن الرقعة الجغرافية المسماة بالسودان، واتخذتها وطناً لها منذ اقدم العصور وجرى ترسيم حدودها واقيمت فيها دولة عرفت في التاريخ الحديث بجمهورية السودان وهى الدولة التي انتمت اليها هذه الاعراق والقوميات والجماعات وصار افرادها يحملون جوازها وجنسيتها. وبما انه لا يوجد وطن بدون هوية أو بدون وطن كما يؤكد بروفيسور محمد عمر بشير (1) فإنه من هنا تنشأ ضرورة وأهمية الاهتمام بالهوية السودانية الجامعة للاعراق والقوميات والجماعات التي تقطن الدولة السودانية وارضها لتعزيز وتقوية الشعور لديهم بالانتماء لوطن واحد والتضامن من أجل بناء هذا الوطن، فالشعور بالانتماء الى الوطن الواحد والهوية الجامعة يعد دافعاً معنوياً وركناً اساسياً في بناء الدولة الحديثة، وهو الذي قاد الى إنشاء الدول الحديثة التي ظهرت الى الوجود في القرن السابع عشر الميلادي. وكان للنظام الديمقراطي الذي طورته اوربا الغربية واتاح لها استيعاب التعدد والتنوع القومي والثقافي داخل هذا النظام وتشكلت فيه الهوية الجامعة دور فاعل في نجاح انشاء وبناء الدولة الحديثة. وظل عدم الشعور بالهوية الجامعة في اطار الوطن الواحد عقبة كأداء في بناء الدولة الحديثة في بلدان اخرى وهو ما نعاني منه في السودان. فاذن الشعور بالانتماء الى الوطن الواحد والهوية الجامعة في اطاره يعني شعور ابناء هذا الوطن بأنهم ينتمون الى أمة واحدة ويعملون متضامنين على حل قضاياها الوطنية، وبناء مرافقها وتطوير قدراتها وامكاناتها، والحفاظ على كيانها ووحدتها في اطار نظام حكم مقر ومتفق عليه، ويتحمسون للدفاع عن هذه الامة في مواجهة اي خطر حقيقي او متصور. ويغذي الشعور بالانتماء الى الهوية الجامعة شعور الافراد والجماعات بأن هذه الامة وهذا الوطن يحتضنهم ويساوي بينهم جميعاً في فرص العيش والحياة الكريمة. إن الهوية مفهوم حديث له مرتكزاته وابعاده القانونية والتاريخية والثقافية (2)، فالبعد القانوني للهوية يعني الانتماء الرسمي أو القانوني للارض وللوطن والذي ينشأ فيه الفرد وتؤكد وتؤمن عليه الوثائق الرسمية التي يحملها كجواز السفر والجنسية والبطاقة الشخصية. أما البعدان التاريخي والثقافي للهوية فيتجهان نحو تعزيز الشعور بالانتماء الى الارض والامة والوطن والدولة أى الانتماء القائم على الارادة الحرة والاختيار الحر ويعنيان ايضاً الشعور بالانتماء لجماعة أو جماعات تعيش على ارض واحدة لها حدود واحدة وتخضع لنظام سياسي وقانوني واحد في إطار دولة وأمة واحدة، وتتضامن هذه الامة لتعمير الارض وبناء الوطن الواحد وتطوير وترقية امكانات الدولة التي تمثل هذا الوطن. فإذن الهوية الثقافية والتاريخية في جوهرها هى شعور بالانتماء الوجداني والروحي والمعنوي والفكري الى جماعة انسانية أو امة بعينها . انتماء له جذوره التاريخية وأصوله الثقافية المرتبطة بخصائص الامة الجماعية الانسانية وبالارض التي تقوم عليها دولتها، وهذا الشعور بالانتماء هو الذي يجمع بين افراد ومكونات الامة أو الجماعة الانسانية على صعيد قومي واحد. واعتماداً على ما تقدم نقول ان للسودان هويته الجامعة والتي لها مرتكزاتها القانونية واصولها وجذورها التاريخية والثقافية البعيدة الغور في الارض السودانية التي ترجع لاقدم العصور، والتي كان ينبغي بلورتها وتعزيزها في واقع الجماعات والاقوام المكونة للدولة السودانية. فالبعد التاريخي للهوية السودانية الجامعة يمكن تتبع جذوره في تاريخ الاعراق والاقوام والجماعات التي عاشت في الارض السودانية المعروفة لدينا اليوم منذ العصور التاريخية القديمة والوسيطة وتحدرت اصولها في السودان الحديث وكان لها تاريخ طويل وحافل بالاحداث اشتركت جميعها في صنعها، الامر الذي يجعل تكوين تاريخ هذا البلد عملاً مشتركاً ساهمت في صنعه وصياغة احداثه وانجاز حضارته جميع هذه الاقوام والاعراق والجماعات، ويجعل هذا التاريخ إرثاً مشتركاً لها جميعاً، فالتعدد العرقي في الماضي كان يقف خلف انشاء ممالك عديدة في الارض السودانية، ومع ذلك فانه لم يقف حائلاً بين هذه الاعراق او يمنعها من التداخل والاختلاط مع بعضها البعض لتكوين هذا التاريخ المشترك. فمنذ ممالك كرمة وكوش في نبتة ومروي والممالك المسيحية ومملكة الفونج وغيرها من الممالك الاسلامية في غرب ووسط وشرق السودان، وسلطانات الجنوب كان هناك اختلاط وتداخل وتمازج بين هذه الممالك، وهو ما يؤكده في التاريخ القديم الملك (عيزانا) ملك اثيوبيا في لوحته التي سجل فيها انتصاراته على مملكة مروي في القرن الرابع بعد الميلاد، إذ نجده يتحدث عن النوبة السود والنوبة الحمر في مملكة مروي. وفي التاريخ الوسيط فان مملكة الفونج قد شهدت تمازجاً واختلاطاً غير مسبوق بين اعراق وقوميات السودان المحلية وبين العرب الذين تدفقوا للبلاد واستوطنوا في شمال ووسط غرب وشرق البلاد. إن مملكة الفونج قد قامت اصلاً على تحالف بين عرب العبدلاب الذين استوطنوا في السودان وبين الفونج والذين قدموا من موطنهم الاصلي في اعالي النيل الازرق والذي تقطنه قبائل ذات اصول افريقية.. وملوك الفونج انفسهم وسلالاتهم الموجودة حتى يومنا هذا يرجعون نسبهم الى اصل عربي أموي، واصل محلي افريقي، والاصل العربي الافريقي هو ما ارجع له ملوك الفور نسبهم بعد دخولهم في الاسلام، وحذا حذوهم ملوك مملكة تقلي وملوك ممالك اخرى في غرب البلاد في العصر الوسيط بعد ان اختلطوا بالعرب الوافدين الى مناطقهم واعتنق ملوكهم الاسلام، فقد ارجع كثيرون من ملوك ممالك العصر الوسيط الاسلامية التي نشأت في البلاد السودانية نسبهم الى آباء عرب قدموا الى مناطق ملكهم وتزوجوا من بنات ملوكها وورث أبناؤهم واحفادهم الملك من بعدهم، لأن نظام الإرث للملك عن طريق ابن البنت كان يتيح ذلك، وظل هؤلاء الملوك وسلالاتهم يحتفظون بشجرة انسابهم حتى يومنا هذا. وليس هناك ما يدعونا الى التشكيك في شجرة الانساب هذه طالما لا يوجد تاريخ موثق لهذا العصر وان ملوك تلك الممالك ورعاياهم مقتنعين بها ويصرون عليها ويحفظونها حتى اليوم، خاصة وان اولئك الملوك الواردة اسماءهم في شجرة الانساب نجدهم يحملون أسماء عربية ومحلية ومركبة، أى مكونة من أسماء عربية ومحلية. ولعله كان من الاجدر ومنذ الاستقلال ولدواعي الانتماء للوطن الواحد والامة ذات الاصول الواحدة إعادة كتابة تاريخ ممالك العصر الوسيط في اطار هذا المنظور السائد لتمازج الاصول العربية والافريقية في تلك الممالك حتى يصبح اساساً لبلورة وتطوير هوية تاريخية متجانسة وجامعة للدولة السودانية الحديثة، بدلاً من الضبابية التي اثيرت وتثار كلما نشأ حديث عن اصل تلك الممالك وعلى رأسها مملكة الفونج، إذ ان ثبات الهوية التاريخية يساهم بقدر كبير في تكوين وثبات الهوية السودانية المتنوعة الثقافات والمتعددة الاعراق. هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى فإن التحالف بين الفونج والعبدلاب قد قام على تقاليد وأعراف وقواعد ونظم ارتضاها الطرفان ولم ينفض هذا الحلف إلا بعد غزو الاتراك للبلاد السودانية. وأيضاً فان الممالك الاسلامية المتعددة التي نشأت في شمال السودان في العصر الوسيط عقب انهيار مملكة المقرة المسيحية فإنها لم تخرج عن النمط السائد آنذاك وهو التمازج بين العرب والنوبة السكان المحليين في الشمال، فقد حدث بين العرب الوافدين والنوبة تصاهر وتزاوج انتقل الملك عن طريقه الى الأبناء الخلاسيين والهجين الذين كانوا من نتاج التزاوج بين النوبة والعرب الوافدين، وهو ما يؤكد تماثل اعراف وتقاليد الإرث في الممالك التي انتشرت في البلاد السودانية في العصر الوسيط والنشأة المتشابهة لتلك الممالك. وحتى جماعات وقوميات جنوب السودان فان أحداث التاريخ تؤكد تداخلها مع اعراق قبائل وقوميات الشمال ومشاركتها في تكوين التاريخ السوداني. فإذن ان وقائع التاريخ في العصر الوسيط وفي أنحاء البلاد المختلفة التي نشأت فيها الممالك الاسلامية، تجعلنا نغلب القول بالإرث التاريخي المشترك للاعراق والقوميات والجماعات السكانية لسودان اليوم. وايضاً القول بأن ممالك العصر الوسيط الاسلامية ذات الاصول العربية والافريقية والتي نشأت في السودان الشمالي جراء الاختلاط والتزاوج والتمازج والتلاقح الذي حدث بين القبائل العربية الوافدة للبلاد في جماعات وموجات استيطانية كبيرة والجماعات والقبائل والاعراق المحلية المتوطنة اصلاً في البلاد، هى المسؤولة عن ميلاد الانسان السوداني الخلاسي أو الهجين الذي نراه اليوم. وهذا الانسان السوداني الخلاسي مع الانسان السوداني الافريقي الاصل هما العنصران اللذان شكلا نواة الهوية التاريخية الجامعة للسودان الحديث، بابعادها ومرتكزاتها واصولها العربية والافريقية، والتي بدأ تكوينها في العصر الوسيط في السودان، واستمر وجودها طوال ذلك العصر الوسيط وحتى سقوط مملكة الفونج الاسلامية على يد الاتراك، فقد كان لتلك الممالك ظروف نشأة متشابهة وإرث مشترك وتاريخ متشابه أيضاً. وعلى إثر غزو الاتراك للبلاد واستيلائهم على السلطة، تم توحيد تلك الممالك في دولة مركزية واحدة عرفت بدولة السودان وبدأ على اثرها الفرز بين الاعراق السودانية التي ساهمت في تكوين التاريخ المشترك للأمة السودانية. هذا فيما يتصل بالهوية التاريخية، أما فيما يتصل بالهوية الثقافية فان عصر الدويلات أو الممالك التي نشأت في السودان الشمالي في التاريخ الوسيط وتولد عنها الانسان السوداني الخلاسي أو الهجين، وعلى الرغم من استقلال كل مملكة عن الاخرى، وكان لكل منها ملوكها وسلاطينها ونظمها الادارية وتركيبتها السكانية والعرقية وجيشها وثقافتها وفنونها واعرافها وتقاليدها ونحاسها الخاص والذي كان يمثل الرمز أو الشعار لكل مملكة، إلا انه قد تبلورت داخل كل هذه الممالك حركة ثقافية ذات اصول وجذور مشتركة إن لم نقل واحدة، تعود منابعها الى اللغة والثقافة العربية والاسلامية المتمازجة والمتلاقحة مع الثقافة الافريقية والنوبية والبجاوية، وكان عماد هذه الحركة الثقافية شيوخ الطرق الصوفية والذين انتشروا في كل بقاع شمال السودان. هؤلاء الشيوخ وان كان ديدنهم وشغلهم الشاغل نشر الدين الاسلامي والتربية الاسلامية وما يتصل بهما من الواجبات والعبادات إلا انه كان بين اولئك الشيوخ نحاة وشعراء ومن له إلمام ببعض قضايا الادب والبلاغة فهم وإن كانوا يشغلهم نشر الدين الاسلامي والاهتمام بالحياة الآخرة والعزوف عن متاع الحياة الدنيا، إلا أنهم اهتموا بتعليم اللغة العربية لتوصيل الدين الى الناس بوصفها الحامل للدين، وكان ملوك الممالك أو الدويلات القائمة آنذاك يجزلون لهم العطايا ويقتطعون لهم الاراضي، إلا انهم رغماً عن ذلك فقد حافظوا على استقلالهم التام على استقلال حركتهم الثقافية ومكانتهم الدينية عن اولئك الملوك والسلاطين، وانتشروا في كل السودان الشمالي وعملوا على جمع طلاب العلم الديني والثقافة الجديدة والمريدين حولهم والذين كانوا يفدون لهم من بقاع ومناطق مختلفة في البلاد، من الشرق والغرب والوسط والشمال وبعض مناطق الجنوب، تدفع بهم رغبتهم ورغبة ذويهم الاكيدة في التعليم والتلقي بارادتهم الحرة ورضائهم وقبولهم التام. وقام اولئك الشيوخ بإنشاء الخلاوي في بقاع متفرقة من البلاد، وفي اماكن معزولة تراوح عدد الوافدين اليها من طلاب العلم بين بضعة عشرات الى عدة مئات للخلوة او التقابة الواحدة، تحول اغلبها فيما بعد الى قرى ومدن ويحمل بعضها اسم اولئك الشيوخ، كان اكبرها واعظمها شأناً مدينة ودمدني الحالية والتي أنشأها الفقيه محمد مدني السني.