محمد وداعة: الجنجويدي التشادى .. الأمين الدودو خاطري    شركة توزيع الكهرباء تعتذر عن القطوعات وتناشد بالترشيد    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    بايدن يعين"ليز جراندي" مبعوثة للشؤون الإنسانية في الشرق الأوسط    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    دبابيس ودالشريف    البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خسرنا الجنوب ولم نكسب العرب« 1-2»
نشر في الصحافة يوم 12 - 04 - 2010

تعيش النخب الشمالية السودانية هذه الأيام أصعب لحظات النفس: انتظار الكارثة التي تقترب مع العجز الكامل عن الفعل، وتفادي الحدث الذي صار قدرا بسبب اللا مبالاة وسوء التقدير. وهي تبكي على وطن موحد، بدموع العجز، لأنها لم تحمه بعقول وبصيرة وتضحيات المواطنين الصادقين والغيورين. فقد اصبح انفصال الجنوب أقرب إلينا من حبل الوريد، وصار تقرير المصير بخيار الانفصال يحسب بالأيام وليس الاعوام. ونحن نتساءل حياري: هل صار الانفصال حتمية تاريخية لا مرد لها؟ الحتميات التاريخية في مثل هذه الحالة السالبة، هي صناعة بشرية بحتة، حين أعطانا التاريخ فرصاً عديدة لحلول أفضل، ولكن أضعناها بسذاجة صحبها زهو زائف. فقد كان السودان، بامتياز بلد الفرص الضائعة. وكان لا بد للتاريخ أن يلجأ الى دهائه، والقدر الى سخريته. وقد كان الصحافي انتوني مان محقاً حين عنون كتابه عن السودان بعد زيارته عام 1954م، والسودان- حينذآك- يستعد للحكم الذاتي: Sudan: Where God Laughed
هذا ليس حديث الغضب أو الفزع، ولكن ظللنا لا ننظر للمشكلة في عمقها، أو لا نكمل الحديث عنها حين نبدأه، أو نخفي عمداً بعض ما نعتبره جوانب حساسة. وهذا وقت المصارحة وقول كل، بغض النظر عن حديث الجدوى وأسئلة الحلول. وهذه محاولة للفهم والمحاسبة وليس التلاوم، لا أظن أنها أتت متأخرة، فهي ضرورية في كل الاحوال والظروف. وقد تكون أقرب الى المراجعات التي تتكاثر هذه الآونة.
جذر المشكلة:
كل شعب من الشعوب تكون له قضية محورية أو مركزية تشغل الجميع، المؤيدين والمعارضين لها، سمها قضية قومية، أو قضية وجود، أو استراتيجية، أو ثوابت أمة. ومثل هذه القضية، هي التي تمثل الدافع والمسبب والموجه لكل حركة الجماعة وتفاعلاتها وصراعاتها. وقد تكون: روح الأمة(ethos)، وفي السودان كانت القضية هي: الهوية الثقافية أو الذاتية، وأحيانا الهوية الوطنية أو القومية. وهذا اختلاف شكلي، لأن المهم هو أن الجميع يطرح السؤال: من نحن؟ هل نحن عرب أم أفارقة أم مستعربون أفارقة؟ ومن الوضح أن السودانيين وقعوا منذ البداية في فخ سؤال بلا إجابة، ومفتوح لكل الاحتمالات والتفسيرات، ثم بعد ذلك الاختلافات والصراعات. فالهوية مفهوم شديد التجريد، وجوهراني، وثابت، وأقرب الى الميتافيزيقيا حين يستخدم في وصف الجماعات والنظم وحتي الثقافة. ورغم ذلك ربط السودانيون مهمة بناء الدولة الوطنية وتحقيق الوحدة الوطنية والتنمية، بتحديد هويتهم. ودخلوا في مناقشات تضاهي الجدل البيزنطي، اعاقتهم في عملية رسم السياسات. إذ لم يكن من الممكن اتخاذ قرار لا يستهدي بمكونات الهوية. وهذا يفسر لماذا اهتم السياسيون السودانيون أكثر بمتطلبات وضع دستور دائم للبلاد، قائم على ثوابت الأمة وهويتها؟ وفي نفس الوقت أُهمل وضع الخطط للتنمية ثم العمل على تنفيذها.
يضع د. فرانسيس دينق، الاكاديمي والدبلوماسي الجنوبي المرموق، والمكتوي بالمشكلة مباشرة، القضية بكثير من الدقة، حين يكتب:
«هل الحرب الأهلية في السودان نزاع بين هوية عربية- إسلامية في مواجهة هوية إفريقية- مسيحية- وثنية؟ ما هي الهوية الحقيقية للبلاد؟ ما هي الأسس التي تحدد مثل هذه الهوية؟ ما مدى تمثيل التعريف الرسمي الراهن للهوية للتركيبة الداخلية للبلاد؟ وإذا لم تكن ممثلة، ما هي الهوية الأكثر تمثيلاً للسودان؟ وما هي العقبات؟ وعلى من تقع مسؤوليات عرقلة تصحيح وتبني هوية موحّدة؟ ما إذا كان ممكنا تخطي تلك العقبات لدعم الإحساس بهوية تكون للبلاد بكل مكوناتها؟ إذا كانت الردود بالايجاب، ما هي الاستراتيجيات الممكن اتخاذها للتغلب على العقبات؟» «كتاب: صراع الرؤى- نزاع الهويات في السودان. ترجمة د. عوض حسن، مركز الدراسات السودانية، 2001، ص401».
ويطالب «دينق» بكل وضوح بتحديد الهوية الموحدة لكي نبني عليها كل الاشياء الاخرى. وهذا مطلب يبدو في شكله الخارجي سهلاً، ولكنه صعب يصل حد الاستحالة واقعيا. وذلك ببساطة، لأن الهوية ليست معطى موجودا هناك، علينا أن نبحث عنه وحين نجده تحل كل العقد. ولكن الهوية في معناها وشكلها الجوهراني والثابت، هي وهم في أحسن الفروض. ففي الحقيقة، الهوية مكوّنة اجتماعيا أي تحدد كل جماعة أو ثقافة ما تسميه هويتها من خلال قناعات -غالبا ذاتية- وقد تدعم أو لا تدعم، بمعطيات ومؤشرات موضوعية. فحين أقول نحن السودانيين أشجع أو أكرم الناس، هذه صورتنا لأنفسنا وكفى. ولكن قد نسعى للبحث عن أمثلة تؤكد وجود هذا الكرم أو الشجاعة، قد لا تكون النماذج متكررة وعامة. وهنا مكمن أزمة «الهوية السودانية» من الذي يحددها؟ وبأي معايير؟ ومن المعروف أن السودان دولة تتسم بتنوع هائل وبالتمايزات الاثنية والثقافية. وهذا وضع طبيعي، بل وايجابي لو تم توظيفه بعقلانية. فالتمايز حقيقة وواقع ولا يسبب في حد ذاته خللا أو تناقضا. ولكن المشكلة تأتي حين يحوَّل هذا التمايز بآليات معينة الى امتياز ويصبح أداة للتفضيل والامتيازات، ولتراتب اجتماعي وسياسي. وللأسف، هذا ما حدث في السودان المعاصر. ويصف د. عبد السلام نور الدين، عن حق، الهوية السودانية، بقوله: «إنها من صنع الصفوة السياسية وليست ظاهرة وطنية شعبية». ويضيف: «تحول الهوية السودانية على أيدي خاطفيها من الطائفيين والذين آل اليهم الحكم في السودان، بالوراثة أو القوة العسكرية، الى ايديولوجية قومية ودينية» «حوار أجراه صلاح شعيب، نشر في موقع سودانيز أونلاين وصحيفة الاحداث السودانية».
المكون المفترض الأول للهوية: العروبة
كان من الواضح، أن الفئات والقوى الاجتماعية النيلية الوسطية، وهي عربية أو مستعربة واسلامية، هي القادرة لاسباب تاريخية واقتصادية- اجتماعية، فهي الأكثر تطورا، على فرض هوية معينة على البلاد. وكان الخيار الطبيعي هو العروبة والاسلام، ولم تكن مصادفة أن يتصدر نشيد المؤتمر أي مؤتمر الخريجين، طليعة الحركة الوطنية، هذا البيت لوصف الأمة السودانية:
أمة أصلها العرب ٭٭ دينها خير دين يحب
وواجهت عروبة السودان صعوبات في التعريف والتوصيف، بسبب عقبات النسب «الدم» واللون. وسارع الكثيرون الى القول، بأن العروبة لا تقوم على العرق ولكن على الثقافة أو بصورة أدق اللغة: انما العربية لسان، فمن تحدث العربية فهو عربي. ولكن الكثيرين من السودانيين لم يقتنعوا أو يكتفوا بعامل اللغة أو الثقافة فقط، اذ كان لا بد من اكمال ذلك الشرط، خاصة الناس العاديين والذين يتحدثون العامية السودانية، بتأكيد «مادي» أكثر للنسب العروبي. خاصة أن لفكرة العروبة والاسلام جذورها التاريخية البعيدة لدى السودانيين. إذ تروي المصادر، أن السلطان سليم بعد أن أخضع ساحل البحر الأحمر، ودخل الحبشة بقصد الزحف على سنار، فخاطب ملكها عمارة دنقس «1505-1534» يدعوه الى الطاعة، فأجابه: «إني لا أعلم ما الذي يحملك على حربي، وامتلاك بلادي، فإن كان لأجل تأييد دين الإسلام، فإني أنا وأهل مملكتي عرب مسلمون ندين بدين رسول الله». وأرسل له مع الكتاب كتاب أنساب قبائل العرب الذين في مملكته. وكان قد جمعه له الامام السمرقندي أحد علماء سنار. فلما وصل الكتابان الى السلطان سليم أعجبه ما فيهما وعدّل عن حرب سنار. وقيل إنه أخذ كتاب الأنساب معه الى الآستانة، ووضع في خزانة كتبها. «نعوم شقير- تاريخ السودان - بيروت، دار الجيل، 1981، ص 100». هذا وقد انتشرت فكرة شجرة النسب بين المستعربين السودانيين، وغالبا ما يوصلون نسبهم الى العباس أو بني أمية أو إلى هارون الرشيد. وهذا مجال واسع مثير للسخرية. فعلي سبيل المثال فقط، نأخذ الرشايدة أو الزبيدية. إذ تقول المصادر: يفخر الرشايدة بانتسابهم الى العباسيين والي هارون الرشيد وزوجته زبيدة بالذات. وهم يقولون إن تسميتهم بالرشايدة والزبيدية إنما جاءت بسبب هذا الانتساب، ويقول في ذلك أحد أفراد هذه القبيلة من ديوان «المدائح البهية في مدح خير البرية» تأليف الفقير الى ربه نفاع بركات غويتم الرشيدي أصلا والنجدي موطنا:
أنا نفاع بن بركات بين وموصول بهارون الرشيد
أنا في موطن السودان قاطن وأصلي نجد والشرق السعيد
«السني بانقا ومصطفى علي أحمد: الرشايدة، ب. ن. ب. ت. ص7».
ويحاول الجعليون، وهم من القبائل الكبيرة في الشمال، الاستفراد بالنسب الى العباس أو بني هاشم. وتسرد بعض رواياتهم الشعبية: «ونقول في نسب العرب التي اشتهرت بجعل ونسلهم. هم أصحاب الدولة في بلاد السودان، ولهم الصولة من مكانتهم من بني هاشم. أما سبب خروجهم إلى بلاد السودان، تشاجر وقع بين بني أمية وبني هاشم، وخرجت طائفة من بني هاشم الى المغرب ثم عادوا الى دنقلا وتغلبوا على أهلها» «محمد سعيد معروف ومحمود محمد علي نمر: الجعليون-الخرطوم- دار البلد ب. ن. ص 8».
وللفونج قصة مشابهة، تقول: «إن العباسيين لما تغلبوا على الأمويين في الشام ونزعوا الملك من ايديهم سنة 132هجرية 750م، أخذ من بقي من الأمويين ومن والاهم في الفرار، فتفرقوا في أنحاء العالم، فذهبت جماعة منهم الى اسبانيا فأسسوا مملكة الاندلس على ما هو مشهور، وذهب آخرون الى السودان فأسسوا مملكة سنار». «نعوم شقير، مصدر سابق، ص97».
هذه هي الهوية- الايديولوجيا التي اخترعتها النخب الشمالية العربية المسلمة، ولكنها لم تكن محكمة ومقنعة خاصة حين اعتمدت على العرق أو الدم. فقد حدث تمازج أضاع بعض السمات الفيزيقية العربية مثل اللون. وهذا ما جعل سودانيا ينتمي إلى أسرة «العباسي» يندهش، يبحث عن الاعذار، حين خذله لونه، فقد صدته فتاة عربية «بيضاء»، إذ يبدو أنه أبدى الإعجاب أو أراد التقرب، فقال في انكسار:
ألأن السواد يغمرني ليس لي فيه يا فتاة يد..!!
والشاعر صلاح أحمد ابراهيم، الذي كتب في احدى المقالات: «نحن عرب العرب». وقد بيّن ذلك حين يقول بأن السوداني عربي، بل هو- حسب رأيه- أقرب من البداوة والفطرة الصحراوية التي تمثل الوجه الحقيقي للعربي بما تعكسه اللغة والأخلاق والروح القومية. «جريدة الصحافة 6/11/1967م، أورده عبد الهادي الصديق في أصول الشعر السوداني- الخرطوم- دار جامعة الخرطوم للنشر- 1989م، ص162».
ولكن شاعرنا يواجه تجربة تجبره على موقف مختلف، ليقول:
أنا من إفريقيا حرارتها الكبرى وخط الاستواء
ويقول في قصيدة بعنوان «فكر معي ملوال» «اسم شائع بين الجنوبيين»:
كذّاب الذي يقول في السودان إنني الصريح، إنني النقي العرق، إنني المحض ...أجل كذّاب.
وتُواجه الهوية العربية بعدد من المشكلات والاشكاليات في حالة التحديد الدقيق، إذ تظهر ثنائيات عديدة، على رأسها العروبة عند العامة، وهي تكتفي بعروبة القبيلة المستندة على النسب والأصل، مقابل عروبة المثقفين والنخب، وهي سياسية «تتمثل في أحزاب البعث والناصريين والقوميين العرب»، وثقافية وتظهر في نقاشات وحوارات الأدباء والكتاب. وفي كثير من الأحيان يتقاطع الموقفان ويستخدم المثقفون مقولات العامة لدعم قضاياهم، خاصة تلك التي تحتاج الى سند شعبي. وقد ترسخت «عنصرية عروبية وقبلية» في الوجدان السوداني، وللأسف لازم ذلك الشعور العنصري والموقف غير المتسامح الحركة الوطنية منذ بدايتها، ثم سارت على نفس الطريق الأحزاب السياسية منذ نشأتها الأولى. ومع الزمن أصبحت العنصرية السافرة أو المبطنة، جزءا اصيلا من السياسة ونظام الحكم حتى اليوم.
وكانت أول انتفاضة وطنية ذات توجه قومي منظمة ضد الاستعمار، قد تمثلت في هبة أو ثورة 1924م بقيادة علي عبد اللطيف. ولكنها أُخمدت سريعاً، لوقوف زعماء القبائل العربية والطرق الصوفية ضدهم. وقد أفصح عن الموقف العنصري المعبر عنه قبليا الصحافي حسين شريف، بقوله: «إن البلاد قد أُهينت لما تظاهر أصغر وأوضع رجالها دون أن يكون لهم مركز في المجتمع. وأن الزوبعة التي أثارها الدهماء، قد أزعجت التجار ورجال الأعمال». ودعا الى استئصال شأفة أولاد الشوارع: «ذلك أن الشعب السوداني ينقسم الى قبائل وبطون وعشائر ولكل منها رئيس أو زعيم أو شيخ، وهؤلاء هم أصحاب الحق في الحديث عن البلاد. من هو علي عبد اللطيف الذي أصبح مشهوراً حديثاً وإلى قبيلة ينتمي؟ «صحيفة الحضارة 25/6/1924م».
ورغم أن علي عبد اللطيف سوداني من قبيلة الدينكا، ولكن لأنها غير عربية، لم يعترف بها الكاتب كقبيلة. ومثل هذا الحديث ليس تاريخا، بل استمر حتى اليوم. فحين يكتب الطيب مصطفى صاحب صحيفة «الانتباهة» عن باقان أموم الأمين العام للحركة الشعبية، يقول نفس الكلام ضمناً وتلميحاً، لأن الظروف لم تعد تسمح له بنفس الصراحة السابقة. ويظل الموقف والشعور كما هو لم يتغير. وذلك لأن المجتمع السوداني راكد، ولم تتغير كثيراً علاقاته الانتاجية، ولا وسائله الانتاجية، خاصة في الريف والبوادي.
وفي تلك الفترة المبكرة من تاريخ الحركة الوطنية، كان يتم التعبير عن العروبة، من خلال العلاقة والموقف مع مصر. وظهرت حينئذٍ دعوات الوحدة أو الاتحاد مع مصر. وكانت هذه دعوة متقدمة في ميدان الفكر والسياسة والأدب في ذلك الوقت. ولكن لا يسمح الحيز المتاح والمقام، بمتابعتها في إسهاب. ولكن الحركة الوطنية وبالذات الاتحاديين، تطلعوا شمالا وأهملوا الجنوب المختلف والمعوق. وكأني بهم، يريدون أولاً إثبات عروبتهم، ثم يلتفتون بعد ذلك الى التنوع والاختلاف في وطنهم. ولكن الشماليين لم يلتفتوا الى الجنوب، الى أن حمل السلاح وتمرد بعنف. وبدأ التنوع الثقافي يفرض نفسه بوضوح، وتقدم موضوع الهوية مجدداً. ولكن في أجواء التوتر والنزاع والخصومات الحادة. ووسط الحرب الأهلية انشغل السودانيون بتعريف أنفسهم وتساءلوا من نحن؟ وهو سؤال في عمقه يدل على أن السودان بالفعل هو تعبير جغرافي، باعتبار أن السودان لم يعرف خلال تاريخه-وهذا موضوع شائك وطويل- الدولة المركزية ولا المجتمع الموحد ولا الثقافة الشاملة الجامعة.
وبرز موقف يقبل التعدد الثقافي نتيجة صدمة الحرب، وفي نفس الوقت لا يخجل من صفة الهجين أو الخليط أو الخلاسية في وصف الشماليين المستعربين. ويمكن التأرخة لهذا الاتجاه بكتابات المحجوب المبكرة ومعارك محمد محمد علي حول قومية الأدب السوداني. ثم تجيء مدرسة «الغابة والصحراء» في ستينيات القرن الماضي، باعتبارها محاولة أصيلة ولكنها قصيرة العمر. وللمفارقة لم يطورها أصحابها، بل أنكرها بعضهم. وكانت لبعض روادها ومضات وإشراقات في تحديد الهوية، أهمها وأعمقها قصيدة «سنار» للدكتور محمد عبد الحي، في قوله:
«افتحوا للعائد التائه أبواب المدينة
- بدوي أنت؟
- لا
- من بلادي الزنج؟
-لا
أنا منكم كافرا تهت- تغربت سنينا
مستعيرا لي قناعا وعيونا
وضلالا ويقينا وجنونا
أتغني بلسان- وأصلي بلسان.
بين حانات الموانئ».
وبالفعل هذا هو الإنسان السوداني، ليس عربياً كاملاً ولا زنجياً خالصاً، فهو يغني باللسان الإفريقي ويصلي بلسان عربي فصيح ما أمكن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.